إيلاف من لندن: في قاعة احتضنت الفن كما لو أنه أمل معلّق في هواء لندن، اجتمع صُنّاع الحكايات، قادة الرؤى، والمبدعون الذين يعرفون أن العالم لا يتغير بالضجيج، بل بالمبادئ.
في "منتدى النساء المبدعات"، الذي نظمته مؤسسة المنصة أولغا بالاكلِيتس، لم يكن المشهد احتفاليًا بقدر ما كان تذكيرًا بأن القيم يمكن أن تكون ركيزة مستقبل.

من بين اللحظات التي لا تُنسى، ذاك الحوار الصادق بين سارة فيرغسون، دوقة يورك، والمخرجة والمدافعة عن الفنون والقيادة النسائية ريبيكا ريوفريو.

سارة فيرغسون، دوقة يورك
لكن قبل الحديث، وقفت الدوقة لتروي، لا لتقرأ. تحدثت عن مبادرة "صندوق سارة" الخيرية، ليس كحملة دعائية، بل كامتداد لثلاثة عقود من السير في الميدان، حيث لا بروتوكول، بل وجوه منسية تنتظر لمسة حياة.

سارة فيرغسون (يسار) في حوار مع ريبيكا ريوفريو
"لا وسطاء"، قالتها بوضوح دافئ. "ما نقوم به، يصل مباشرة إلى من هم في أمسّ الحاجة."
هذا ليس مجرد صندوق، بل فلسفة: العطاء الصافي، الشفاف، كأنك تقول للآخر: أنا أراك.
وبثقة ودفء، تحدّثت الدوقة بشغف عن التزامها بدعم النساء والأطفال والعائلات والمجتمعات المنسية حول العالم.

ترافقها في هذا العمل مجموعة صغيرة، لكنها تعرف جيدًا كيف تكون جسراً لا لفتة. منذ 1993، حين أسّست منظمة "أطفال في الأزمات" التي وفّرت التعليم لأكثر من 1.4 مليون طفل في مناطق تعاني من ضعف الموارد، بدا واضحًا أن سارة لم تكن تمرّ مرورًا في العمل الخيري، فقد كرّست جهودها لدعم عدد من المؤسسات، مثل "صندوق السرطان للمراهقين" (Teenage Cancer Trust) إلى "مفتاح للحرية" (Key to Freedom)، كانت تحيك خريطة إنسانية بخيوط لا ترى بالعين، لكنها تُحس بالقلب.

كما كرّست جهودها لدعم عدد من المؤسسات، مثل "صندوق السرطان للمراهقين" (Teen Cancer America)، و"هيومانيتاس" (Humanitas)، و"تين كانسر أميركا" (Teen Cancer America)، و"الإسعاف الجوي للأطفال" (Children’s Air Ambulance)، و"مؤسسة القلب البريطانية" (British Heart Foundation)، و"دار جوليا" (Julia’s House)، و"مؤسسة أبحاث حساسية ناتاشا" (Natasha Allergy Research Foundation)، ومبادرة "مفتاح للحرية". وتجتمع هذه الجهود اليوم تحت مظلة "صندوق سارة" (Sarah’s Trust).

الدوقة سارة(يسار) وريوفريو
يدير الصندوق فريق متمرّس عمل طويلًا إلى جانب الدوقة في مشاريعها الخيرية، لبناء مؤسسة تربط بين أصحاب المساهمات المالية والتأثير المجتمعي المباشر. ويمثل هذا العمل امتدادًا طبيعيًا لالتزامها المتواصل بالعمل من أجل الصالح العام.

ما يميّز "صندوق سارة"، كما أوضحت، هو مبدأه الصارم في الشفافية: 100% من موارده تذهب مباشرة إلى القضايا الخيرية. وقالت: "هذا هو العمل من الميدان. إنه الحب في الفعل".
أما المنتدى، فقد قدّم لها مساحة جديدة للاتصال — لا بالكاميرات، بل بالناس.

من اليمين: فيولا إدوارد، أولغا بالاكلِيتس، الأميرة نورة، وسارة فيرغسون
من اليمين: فيولا إدوارد، أولغا بالاكلِيتس، الأميرة نورة، وسارة فيرغسون

خلال المنتدى، سنحت للدوقة سارة فرصة لقاء عدد من الشخصيات العالمية المؤثرة، لكن من بين تلك اللقاءات، برز حضور الأميرة نورة بنت سعود بن نايف آل سعود بوصفه لحظة نادرة، حيث يلتقي الفكر بالتأمل، والرؤية بالفعل.
مؤسِّسة مبادرتَي المشتل وركن التبادل الإبداعي، لا تتحدث الأميرة نورة عن الإبداع كمجرد مفهوم، بل كأداة معيشة، كأكسجين للنهضة الثقافية، لا رفاهية نخبوية.
في حديثها، لم تحتج إلى رفع صوتها؛ كانت عباراتها كافية لرفع السقف بأكمله.
تحدثت عن اقتصاد إبداعي لا يقيس نجاحه بعدد التصفيقات، بل بعمق التغيير، وعن نساء لا يطرقن الأبواب... بل يصنعن أبوابًا جديدة، ويعلّقن فوقها أسماءهن.

سارة فيرغسون تتوسط الأميرة نورة (يسار) وبالاكلِيتس
رؤية الأميرة نورة ليست انفعالًا طارئًا في سياق مرحلة سعودية مزدهرة، بل تأمل راسخ في مستقبل تُعيد فيه النساء رسم الأدوار لا انتظارها. ففي أروقة المنتدى، كانت الأميرة نورة تتنقّل بين الحوارات بذكاء من يعرف أن كل فكرة، مهما بدت عابرة، قد تكون بذرة لصوتٍ مختلف.
ابتسامتها لم تكن مجاملة. وإنصاتها لم يكن حيادًا. كانت تترك أثرها بخفة من تعلّمت أن العمق لا يحتاج إلى ضجيج.
وحين تحدثت عن الإبداع، لم تكن تنظّر من برج عاجي، بل تحكي ما عاشته: كيف يُعاد التشكيل، كيف يُسقى الهامش، وكيف يمكن لزهرة أن تنبت في أصعب الظروف... فقط لأن ثمة من آمن بها.


كما تبادلت الدوقة ساره الأحاديث مع الأميرة كاترينا من يوغوسلافيا، المدافعة بصبر ملكي عن التعليم والتنمية المستدامة، والسفيرة الفخرية لـ"منتدى النساء المبدعات ". وجلست مع مارثا فينيس، المخرجة التي تعرف أن الصورة ليست فقط فنًا، بل شهادة. ومع فيولا إدوارد، إسلي أوليفا ساليناس، وليندا بلانت، وجدت نفسها وسط نساء يعرفن أن الطموح يمكن أن يلبس الكعب العالي أو يرتدي حذاء ميدان.

وامتدت حوارات الدوقة إلى المجال الفني أيضًا، حيث تبادلت أطراف الحديث مع المخرجة وكاتبة السيناريو والفنانة الرقمية الحائزة على جوائز، مارثا فينيس.

كذلك، التقت مع فيولا إدوارد، الشريكة والمديرة التنفيذية للمنصة والمؤسسة المشاركة لأكاديمية GRIT؛ وإسلي أوليفا ساليناس، رئيسة المجلس الاستشاري للمنصة ومستشارة استراتيجية ومستثمرة تأثيرية ومدافعة عالمية عن الابتكار والاستدامة؛ وليندا بلانت، سيدة الأعمال المعروفة والرئيسة التنفيذية لأكاديمية Linda Plant ونجمة برنامج "ذا أبرينتِس" على قناة BBC، إلى جانب عدد من الشخصيات البارزة في ميادين الثقافة والعمل الخيري وقيادة المرأة.



ثم بدأ الحوار. ريبيكا نظرت إلى الدوقة وقالت ما فكّر به الجميع: "طاقتك مذهلة!".
ضحكت الدوقة، وقالت: "كنتِ تتوقعين شيئًا أكثر تصلّبًا؟".
وتمامًا في تلك اللحظة، انهارت المسافة بين المنصة والجمهور.

تحدثت سارة عن اللطف، كما لو أنه عقيدة شخصية:
"أن تتذكر اسم أحدهم. أن تنصت حقاً. أن ترى الناس".
وتوقفت لحظة لتقول: "ريبيكا بحرف ‘C’ واحد، وليس اثنين".
هكذا أتذكرك. إنه يدل على اهتمام".

تفصيل بسيط؟ ربما. لكنه يلخّص كل شيء ليخبرنا أن التعاطف الحقيقي يكمن في الانتباه وفي أن يكون الإنسان حاضراً ذهنياً في اللحظة. وقالت: "لا أحد يعلم ما الذي مرّ به الآخرون. اللطف هو أعظم هدية لدينا".

ثم جاء الحديث عن سرطان الثدي.
بصراحة نادرة، سمت الدوقة ساره ثدييها المعاد بناؤهما: ديريك وإريك. وقالت: "ديريك أنقذ حياتي. إنه الآن معي، كدرع من الحماية"، قالتها بمرونة امرأة تعرف أن الحزن ليس ضعفًا، بل جزء من الجلد الجديد الذي نخرج به من المحن.
ضحك الجمهور... ثم صمت. لأنه يعرف أن المزاح الصادق هو الوجه الآخر للنجاة. وقد تركت كلماتها أثرًا عاطفيًا واضحًا على الحاضرين.

عندما تحدّثت عن الملكة إليزابيث الثانية، لم تكن كلمات وفاء تقليدية. كانت سارة تستعيد حضورًا لا يزال يتجول معها. قالت إنها تشعر أن الملكة تذكّرها بوجودها من خلال نباح الكورغيز التي ورثتها عنها. "أعتقد أنها هي، تقول لي: ما زلت هنا".

وفي النهاية، جاء الدرس الأكبر بنصيحة صادقة من الملكة، قالتها بهدوء يشبه التمرير على قلب: "سارة، فقط كوني نفسك".. هزت شيئاً في داخل الدوقة.


كانت هذه وصية الملكة، وأصبحت، كما يبدو، الإذن الذي حرّر صوتًا كان دائمًا هناك، ينتظر فقط من يسمعه.

وعن معنى أن تكون كنة، أجابت الدوقة برقة: "لقد منحتني الإذن لأكون نفسي. كانت تلك هديتها الأخيرة لي".

تحدثت عن مرورها بمحطة "إليزابيث لاين" وتساءلت كم من الأطفال اليوم يعرفون المعنى الحقيقي لهذا الاسم. وقالت: "علينا أن نذكر اسمها. كي نحافظ على رقتها وقدوتها حيّة". كما أضافت فكرة وجدانية وشاعرية، مفادها أن روح الملكة قد لا تزال ترافقها من خلال الكلاب من نوع كورغي التي ورثتها عنها. وقالت: "كل صباح تنبح هذه الكلاب. أنا متأكدة أنها هي، تذكرني بأنها ما زالت هنا".


مع اقتراب نهاية الحوار، شاركت الدوقة واحدة من آخر الرسائل الإرشادية التي تلقتها من الملكة: "سارة، فقط كوني نفسك". وقالت إن هذه العبارة منحتها الحرية لتعتنق صوتها وتواصل رسالتها. وأضافت: "لقد منحتني الحق في أن أقف على المسرح... وأن أعطي".

وهي تفعل ذلك فعلًا. بصوتها، وبأفعالها، وبطاقتها اللامحدودة، تذكّر سارة، دوقة يورك، كل من حضر بأن القيادة الحقيقية تنبع من الأصالة والخدمة.


ما ظلّ في الذاكرة لم يكن فقط حجم عملها الخيري، بل فرحتها الداخلية — فرحة من تعيش بصدق، بهدف، وسخاء نابع من القلب. لقد كانت، كما وصفتها ريوفريو، "أصيلة على نحو رائع": مرحة، مفعمة بالحيوية، عطوفة، وحكيمة. وتركت حضورها لا مجرد إعجاب، بل إلهامًا حيًا لمعنى القيادة باللطف، والعطاء بالشجاعة، والعيش بالقلب.

* تنشر إيلاف التقرير بالتنسيق مع Parliamentary Society: المصدر