كان عام 2016 عام الانهيار: الاستغناء عن المعايير السائدة، تحدي الأفكار القديمة، اهتزاز عالمنا المستقر وتعودنا على الصدمة التي يسببها الجديد. منذ الحرب العالمية الثانية وما قبل كان هناك إجماع على أن التجارة هي أكثر من مجرد الاقتصاد. كانت أداة للسلم. تقليل الحواجز أمام التجارة ساعد في تحفيز النمو والرخاء. هذا الإجماع يتصدع الآن. التجارة العالمية يمكن أن تحفز الاقتصاد لكنها يمكن أن أن تزيل بعض طبقات الصناعة. أحد الرابحين من سنة من الثورات هو سياسة الحماية الاقتصادية. اتفاقيات التجارة الحرة الدولية تواجه تحديا الآن. صرح دونالد ترامب أن الولايات المتحدة سوف تنسحب من اتفاقية شراكة عبر الأطلسي، وتتجه نحو الاتفاقيات الثنائية. وحتى على جبهة اليسار، في فرنسا مثلا، هناك أصوات تطالب بتقوية الدولة بحيث تصبح قادرة على حماية البلد من العولمة. عادت القومية إلى مسرح السياسة، ليس في شكلها القديم، لكن القومية الاقتصادية عادت للظهور. تبنى ترامب شعارا انعزاليا: أمريكا أولا. ستكون مصالح الولايات المتحدة هي المبدأ الذي يحكم العلاقات الدولية. وفي بريطانيا عرض الذين روجوا شعارات لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الناخبين "استعادة السيطرة على بريطانيا". إذن هو شعار "بريطانيا أولا". وفي فرنسا صرح رجل يمين الوسط، فرانسوا فيون، الرئيس القادم المحتمل لفرنسا، بأن السياسة الخارجية لبلاده يجب أن تخدم مصالح فرنسا. "دعونا نترك جانبا حالما أوروبا فيدرالية"، هذا كان ما صرح به. وتحدث وزير الخزانة الأمريكي السابق عن "القومية المسؤولة"، وعرفها بأنها "تبدأ من فكرة أن المسؤولية الأساسية لأي حكومة هي رخاء مواطنيها، لا مفهوم ما للنظام الدولي". وعادت إلى الحلبة شخصية الرجل القوي. في دائرة ترامب هناك إعجاب ببوتين كرجل قوي. نحن نشهد ازدهار الديمقراطيات اللاليبرالية. إلى جانب فلاديمير بوتين هناك رجب طيب إردوغان في تركيا، وإلى درجة أقل فيكتور أوربان في المجر. وفي الانتظار في فرنسا مارين لوبان.البعض يتوق لإضافة اسم دونالد ترامب إلى القائمة. مايشترك به السلطويون الجدد هو ازدراؤهم للمنظمات الدولية. وصف ترامب حلف الناتو بأنه "بال"، ثم تراجع. ويتجاهل بوتين المعاهدات الدولية التي تفرض عليه قيودا. هيكليات ما بعد الحرب العالمية الثانية تتداعى. الانعزالية تعود. ليست هناك رغبة بالحملات العسكرية العسكرية الدولية لا في أوروبا ولا في الولايات المتحدة. في سوريا الروس، وعلى مستوى أقل الأتراك، هم من يشكلون الواقع على الأرض. وبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي مستمر في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب سلوكها في أوكرانيا، يسعى الزعماء الجدد إلى إعادة تشكيل علاقاتهم مع روسيا. وبالرغم من تعارض ذلك مع مبادئهم إلا أن الزعماء الأوروبيين كانوا مستعدين لعقد اتفاقية مع إردوغان تساعد في الحد من تدفق اللاجئين إلى بلدانهم. ليس الواقع أن اوروبا تنكرت لقيمها الأساسية التي تربطها بأمريكا الشمالية لكن الديمقراطية الليبرالية الغربية بات في موضوع الدفاع عن النفس وفقدت الثقة بنفسها. علق وزير الخارجية الأمريكي السباق هنري كيسينجر مؤخرا بالقول "لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية باتت علاقات الولايات المتحدة بالعالم غير مستقرة تماما". الهوية القومية أصبحت مهمة مرة أخرى. في فرنسا يصرح فرانسوا فيون قائلا "لا، فرنسا ليست أمة ذات تعددية ثقافية". وفي ألمانيا تصرح أنغيلا ميركيل " لا نريد مجتمعات موازية. قفانوننا هو فوق القوانين القبلية ومواثيق الشرف وأحكام الشريعة". ويحتد النقاش في أوروبا وأمريكا الشمالية حول الاندماج. هناك نقلة باتجاه تشجيع الانصهار في المجتمعات المضيفة. "الحجاب التام ليس مقبولا، يجب أن يحظر حيث وجدت وسيلة قانونية لذلك". وفي ألمانيا الحماس لثقافة الترحيب بالقادمين يذوي، علمنا أن طوابير الداخلين إلى ألمانيا عام 2015 لن تتكرر. وفي الولايات المتحدة كان تعهد ترامب بالتحرك في مواجهة المهاجرين غير الشرعيين وبناء سور كبير جدا على الحدود الجنوبية أحد الركائز المهمة لحملته الانتخابية. ومع اقتراب ترامب من دخول البيت الأبيض بدأت لهجته تقل حدة في بعض القضايا، إلا أن الجدل حول الهجرة سيستمر في زعزعة الاستقرار السياسي. سيعود "الضخ الاقتصادي" إلى الحلبة، ففي الولايات المتحدة هناك وعود بإعفاءات ضريبية للجميع، بمن فيهم الأثرياء، ووعود بالاستثمار في تجديد البنية التحتية. سيكون هناك مهرجان من التشريعات. وفي أوروبا سيضعف الحماس لتقليل العجز في الموازنات. لقد ساد الاعتقاد بأن الحجج القوية حول التغير المناخي قد استقرت، لكنها تعود للحلبة مرة أخرى. ألزمت اتفاقية باريس المجتمع الدولي بوضع سقف لدرجات الحرارة القصوى. دونالد ترامب اختار على رأس وكالة حماية البيئة رجلا لا يؤمن بعلم التغير المناخي. سيكون هناك صراع من أجل التأثير على ترامب بخصوص البقاء ملتزما باتفاقية باريس او الانسحاب منها. وستكافح جميع الحكومات للتعامل مع سؤال فيما إذا كان بإمكان الدولة تأمين حماية ضد العولمة. ملايين الناس في أوروبا والولايات المتحدة يئسوا من الأحزاب السياسية المؤسسة لأنهم يشكون في قدرتها على تحقيق شيء. حتى الآن عجز الدمقراطيون الاشتراكيون (يسار الوسط) عن جعل موضوع غياب الأمن وغياب المساواة مواضيعهم الأساسية. ستدور المعركة السياسية حول من هو الأفضل لمساعدة من تدوسهم حوافر العولمة. ستدور المعارك من أجل الناخبين في حلبات المشاعر، حول أخبار زائفة مبهرة بنظرية المؤامرة. في كل من أوروبا والولايات المتحدة عانت الصحافة بسبب انتشار المقاربات الزائفة، وغياب الخبراء. في أمريكا حاول بعض المقربين من ترامب إعادة تعريف "الحقيقة". ليس ما يهم هو استخدام الحقائق من أجل الوصول إلى الحقيقة الموضوعية، كما يقولون، بل حقيقة أن الكثير من الأشخاص يصدقون أي شيء ، حتى المؤامرة، وهذا يجعل ذلك حقيقة. سيكون الإعلام في مركز معركة الأفكار هذه. يعتقد المناهضون للمؤسسة بأنهم يكسبون. أحد الشخصيات المهمة في "الجبهة الوطنية " في فرنسا قال "عالم المؤسسة ينهار، وعالمنا يبنى". أما نايجل فراج، الزعيم السابق لحزب استقلال المملكة المتحدة فقال إن "الثورة الديمقراطية قد بدأت لتوها". وقالت بيبي غريبو ، من حركة "النجوم الخمس" "المغامرون، والعنيدون، والبرابرة هم من سيمضون بالعالم قدما". الكثيرون يرون البرابرة على أبواب الديمقراطيبة الليبرالية. إذن سيشهد عام 2017 المزيد من المعارك بين رؤيتين متنافستين. على ناحية هناك من يريدون حماية "الدولة القومية" ويرغبون ببناء جدران في مواجهة عالم غير مستقر وخطير. وعلى الناحية الأخرى هناك من يؤمنون بالأممية الليبرالية والانفتاح والتجارة الحرة والمؤسسة الدولية.
- آخر تحديث :
التعليقات