أفل نجم العمارة بأفول نجمتها العراقيّة زها حديد، الّتي جمّلت العالم بأفكارها وخيالها، فيرثيها المثقّفون العراقيّون، آسفين لخسارة قامة عراقيّة شامخة.
&
بغداد: توفّيت زها حديد بشكل مفاجئ في ميامي الأميركيّة، صباح الخميس، بعد معاناتها من التهاب رئويّ أصيبت به قبل أيّام، وتعرّضت لأزمة قلبيّة مفاجئة أثناء علاجها في المستشفى. كان هذا الخبر كفيلًا بهزّ عرش العمارة في العراق أوّلًا، وفي العالم ثانيًا.

في وطنها الأم، حيث كانت تأمل أن تترك شاهدة لها على أراضيها، نعى مثقفون عراقيون رحيلها، وتركوا كلمات في وداعها، فيما أصدرت رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية في العراق بيانَي تعزية وتأبين، في حين أعلن البنك المركزي العراقي، الذي قدّمت حديد تصميمه الجديد، الجمعة، أنّه سيقيم لها نصبًا تذكاريًّا&تخليدًا لما قدّمته إلى الإنسانيّة.

زها حديد بريشة الفنان علي المنداوي

وكانت حديد قد قالت إنّ تأثرها ببيئة الأهوار (المسطّحات المائيّة في جنوب العراق) انسحب على أعمالها المعمارية لاحقًا. فقد كان والداها يصطحبانها في الإجازات إلى منطقة الأهوار، في جنوب العراق، "التي كنا نسافر إليها في مركب صغير، كنت انبهر بطبيعتها، وخصوصًا انسياب الرمل والماء والحياة البرية، التي تمتد على مرمى العين، فتضم كل شيء حتى البنايات والناس، أعتقد أن هذا العنصر المستوحى من الطبيعة وتمازجها مع العالم الحضري، ينسحب على أعمالي، فأنا أحاول دائمًا التقاط الإنسيابية في سياق حضري عصري، وحين درست الرياضيات في بيروت، أدركت أن ثمة علاقة تربط بين المنطق الرياضي والمعمار والفكر التجريدي".
&
تعمّر الأرض
إختار الفنان التشكيلي يحيى الشيخ أن يؤبّن الراحلة حديد بطريقة مغايرة، مستذكرًا الأول من نيسان (إبريل) فقال: "كذبة أول نيسان أن زها حديد اختفت". وأضاف لـ"إيلاف" أن حديد تعمّر الارض، وترحل عنها بسرعة، "أليست هذه عظمة أخرى من عظائمها؟، أراها تطلّ علينا من علو شاهق وتبتسم". وختم: "أنحني لك إجلالًا سيدتي".

وقالت الروائية العراقية لطفية الدليمي إنّ أعمال حديد تكشف عن استقلالية شخصيتها وطاقتها الخلاقة التي تنبئ بانسيابيّة موسيقيّة وعدم استقرار وكأنّها تنحو إلى التّحرر مما هو أرضي، وتستغرق في الغرائبي مبتعدة من الأشكال التقليدية ذات الأبعاد المتناسقة".

لكن الدليمي عبّرت عن أسفها حيال عدم اهتمام عراقي بمنجزها، وقالت: "لم يلتفت العراق ومسؤولوه وجامعاته إلى أهمية هذا التكريم العالمي الذي حظيت به حديد، ولم يحتفل أحد باختيارها لهذه المرتبة الشرفية بين مبدعي عالمنا المعاصر ومفكريه&وصنّاع الرأي العام من الكتاب والفلاسفة والفنانين، بل كانوا حينها يقيمون طقوس التكليف الشرعي للفتيات من سن السابعة لتحجيب رؤوسهن الصغيرة وعقولهن المتفتحة للتعلم وشغف المعرفة بزرع فكرة العورة والعيب في نفوسهن الغضة منذ نضارة أعمارهن في المرحلة الابتدائية، بحسب تعليمات وزارة التربية، ترى كم من صغيرة كانت ستنبغ في بلادنا، وتصنع أساطير جديدة لحاضرنا ومستقبل العراق، لو أتيحت لها فرصة التفكير الحر والتعبير عن الشغف بالجمال، ووجدت من يوجّه خطواتها نحو إبراز عبقريتها كما وجدت زهاء حديد في طفولتها؟".
&
فنانة السلام
تضيف الدليمي: "بعد حيازة حديد هذه المكانة بين الشخصيات المؤثرة في عالمنا، اختارتها اليونسكو ضمن لائحة فناني السلام الذين يستخدمون فنهم ونفوذهم لتعزيز المثل العليا لمنظمة اليونسكو، وأنها "تؤدّي دورًا بارزًا في رفع مستوى الوعي العام للحوار الفكري والتميز في مجال التصميم والإبداع وخدمة المثل العليا"، فهل اهتم العراق بهذا التكريم السامي؟".

وكتب الشاعر عبد الزهرة زكي: "زها حديد معمارية كونية سبقت العالم إلى المستقبل بقرن من العمارة"، ورأى أنها منحت العراق قيمة رمزية لا تنفذ، فيما لم يمنح العراق نفسه امتياز الاحتفاظ بأثر منها. وأضاف: "زها حديد تودع العالم إلى الموت، إنه المستقبل الوحيد الأكيد".
&
تأثرها بأوسكار نيمايير
أما الفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتير الشهير علي المندلاوي فقال: "رسمتها مرتين، في المرة الأولى مع إطلاق صفحتي الكاريكاتيرية (بسامير) في عام 2007 لصحيفة الصباح الجديد، وكانت بصبغة الغواش-بوستر، وفي الثانية لمجلة الشبكة العراقية في عام 2015 بالألوان المائية".

أضاف: "في رثائنا برحيلها المفجع المفاجئ كتبت: "كانت مبهرة في إنجازها الذي تجاوز كل الحدود... كيف للموت أن يخطف منا كل هذا الإعجاز". كان لدينا الكثير من الأضاحي، أيها الموت هناك في المنطقة الخضراء، في البقعة المعتمة من ضمير العراق، هناك حيث يحفرون منذ أعوام وأعوام القبور للعراقيين، ويسرقون قوتهم وأملهم في الحياة".

وتابع المندلاوي: "هل نسيت البوصلة أيها الموت الكفيف، أم هو قدر بلاد جلجامش وانكيدو في أن يفقدوا زهرة رموزهم وبرعم شمس أشاع بعضًا من أمل ومن دفء، وزهو في ليل ضياعهم الطويل".

وصف الشاعر والكاتب رياض النعماني زها حديد بأنها "محاولة فذة لتشكيل هوية"، وقال: "رحلت القفزة الرائعة في فضاء ملهم يتجه نحو أعماقه باحثًا عن ضوئه الفريد بين أساطير الكواكب، وأنوارها التي أيقظت المحدود على شهوة، فالحجر بين يدي وخيال زها حديد رموز مذهلة لابتكار المعجز، وقدرة أبدية على الطيران ويوحد كل شيء مع كل شيء في جملة ضوئية – موسيقية".
&
أسرار عنها
قال محمد ثابت البلداوي إنّ حديد طبعت العالم ببصمتها وأفكارها، بعدما استثمرت فرصة التحليق بفضاء أهم عواصم وبلدان أوروبا، إلا بلدها العراق. وذكر أن "الشرارة الأولى التي جعلت حديد تهتم بالهندسة المعمارية تعود إلى طفولتها، حين كانت في السادسة، حيث اصطحبها والداها إلى معرض خاص بـ(فرانك لويد رايت) في دار الأوبرا في بغداد، وتتذكر زها أنها انبهرت حينها بالأشكال والأشياء التي شاهدتها، إذ كان والداها شغوفين بالعمارة".

قال البلداوي إن حديد تأثرت بأعمال المهندس المعماري الكبير أوسكار نيمايير، خصوصًا إحساسه بالمساحة، فضلًا عن موهبته الفذة، فأعماله هي التي ألهمتها وشجعتها كثيرًا.

أضاف: "من أحب أعمالها مركز دي فانو العلمي بوولفسبورغ، لأنه كان أكثر المشاريع التي أنجزتها طموحًا، وهو مشروع جمع بين الكلاسيكي والتعقيد الهندسي، وفي الوقت عينه التصميم الجريء واعتماد المواد الأصلية". ولفت إلى أن كثيرين لا يعرفون أن زها حديد تصمم قطع الأثاث، "فهي ترى أن تصميم البنايات أو قطع الأثاث ينبعان من الشيء عينه".
&
نعي رسمي
الدكتور واثق الهاشمي، رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية، قال إن العراق فقد قامة شامخة لم تأخذ حقها في وطنها، "وزها حديد ماتت كما يموت الكثير من العلماء والكفاءات العراقية في الغربة، في وطن يطرد العلماء والخبرات والكفاءات، كرّمت واحتفي بها في كل العالم إلا في وطنها العراق".

أصدر رئيس الجمهورية العراقية فؤاد معصوم نعيًا، وقال إن الفقيدة رفعت اسم العراق عاليًا في العالم، بفضل عبقريتها المعمارية ومثابرتها الاستثنائية التي مكنتها من نيل أرفع الأوسمة العالمية، كأشهر معمارية، بفضل تصميمها العديد من المعالم العمرانية العالمية وعملها الأكاديمي في أشهر جامعات الفنون والعمارة العالمية، فضلًا عن مشاركاتها في معارض أهم المتاحف الفن المعاصرة.

ورأى أن رحيل المعمارية العبقرية، وهي في ذروة عطائها وحيويتها الفنية خسارة كبيرة للعراق والعالم، لا يعوّضها إلا دوام ذكرها الطيب. كما أصدر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تعزية برحيلها، وقال: "بفقدانها خسر العالم إحدى الطاقات الكبيرة التي خدمت المجتمع".
&