عمان: دعا محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة ووزير الخارجية والتعاون المغربي الأسبق، النخب العربية إلى مراجعة تصوراتها ومقارباتها للدولة الوطنية العربية، وأكد أن العالم العربي لم يكن موحدًا قبل الإستعمار.

وقال بن عيسى في محاضرة تحت عنوان: "النخب والأزمات العربية: رهانات المستقبل"، قدمها في منتدى عبد الحميد شومان بمدينة عمان، مساء أمس الإثنين، إن الدولة الوطنية "أصبحت اليوم المثال الأقصى المنشود في مواجهة حركية التفكك والتآكل التي تعرفها بلدان عديدة".

وأضاف موضحا "ليس من الصحيح ان العالم العربي كان موحدا قبل أن تمزقه مخططات الاستعمار، واتفاقيات القوى الدولية المحتلة، فتجزؤ المحيط العربي ليس جديدا"، ولفت إلى أن بعض الدول القائمة حافظت منذ قرون على استقلاليتها، وهويتها الوطنية، "بل وحتى على نظامها السياسي كما هو شأن المغرب مثلا".

وسجل بن عيسى بأن ما سماها "المصالحة التاريخية" مع الدولة الوطنية "لا تتعارض مع المطلب الاندماجي الوحدوي"، وأكد أن الدولة الوطنية السيادية المركزية "لا تتعارض ضرورة مع البنيات الاجتماعية العصبية والطائفية والإثنية التي لا تكاد بلاد في العالم تخلو منها"، معتبرا أن الدولة الوطنية هي "الضمانة الحقيقية لضبط هذه التناقضات والتصدعات من أجل تأمين المجتمع من الفتنة والتصادم، بما تقوم عليه من هياكل إدارية بيروقراطية ومؤسسات قانونية محايدة".

وأشار إلى أن من بين أبرز الأزمات التي يواجهها العالم العربي هي "أزمة انهيار الدولة الوطنية العربية التي أطلقت عليها النخب القومية عبارة "الدولة القطرية" ، واعتبرتها عديمة الشرعية مسدودة الأفق والمستقبل، كما أطلقت عليها "دولة التجزئة" وراهنت على اختفائها وانحسارها في الدولة العربية الموحدة المنشودة"، مشددا على أن الخطاب السياسي للنخب العربية "لم يسع في الغالب للتفكير الجدي الموضوعي في الدولة الوطنية التي هي الصيغة التاريخية الحديثة للتجمع السياسي المنظم، وهي من محددات وخصوصيات الحداثة، في مقابل الأشكال السابقة من الدولة التي عرفتها مجتمعاتنا العربية الإسلامية كغيرها من المجتمعات الإنسانية، مثل الدولةً الإمبراطورية الوسيطة".

وبين وزير الخارجية المغربي الاسبق بأن التجربة الأوروبية تثبت أن "الدولة الوطنية هي التي وحدت المجتمعات والبلدان ومنحتها هوية قومية مشتركة، وليس من الصحيح أن الوحدة القومية، بمعنى التجانس والتماثل، هي الشرط الموضوعي لقيام دولة وطنية صلبة"، مبرزا أن تجارب كثيرة في العالم بينت أن الأمة الواحدة "قد تتوزع إلى كيانات سياسية متعددة، كما أن أغلب دول العالم متعددة ثقافيا وقوميا رغم تجذر هوياتها الوطنية".

ومضى بن عيسى موضحا أن العالم العربي يعاني من أزمة النظام الإقليمي العربي، الذي قام في أربعينيات القرن الماضي على دعائم ثلاث هي: "مفهوم الأمة القومية، المستند لوحدة الماضي والمصير؛ ومفهوم الأمن القومي، المكرس لتضامن وائتلاف مكونات المنظومة العربية؛ ومركزية الصراع العربي – الإسرائيلي من حيث هو صراع وجود وهوية".

واسترسل بن عيسى موضحا رؤيته، حيث قال إن النظام الإقليمي أفضى إلى تأسيس "عدد كبير من مؤسسات العمل المشترك في مختلف المجالات في إطار جامعة الدول العربية، إلا أن الحصيلة العملية كانت دون المقصد والطموح"، وأضاف "لا تزال عشرات الاتفاقيات الموقعة من دون تنفيذ. ولم يزل المسار الاندماجي في تعثر. ولم تستطع مؤسسات العمل العربي المشترك تجنيب العرب أزمات الصراع، وتصادم المصالح، بل الحروب والقطيعة".

وزاد بن عيسى مبينا أن النظام الإقليمي العربي "أخفق في إدارة الصراع مع إسرائيل، ودخل في مرحلة الانحسار، ولم يعد له أثر نوعي في الوجود العربي العيني والموضوعي"، وأكد أن رهان النخب العربية على المسار الوحدوي العربي "قد فشل. لأن مقاربة هذه النخب لوحدة العرب واندماجهم اتسمت غالبا بالغنائية الحالمة، وغابت عنها النزعة العقلانية والواقعية الموضوعية"، وذلك في انتقاد واضح منه للنخب العروبية وتمثلاتها للوحدة.

واعتبر بن عيسى أن الأزمة الحالية التي تواجهها الوحدة العربية هي أن مشروع الوحدة "لا يمكن أن يتحقق بالقوة ولا بالتوسع والهيمنة. كما أن فكرة الوحدة الاندماجية ليست سوى طموح طوبائي غير قابل للتحقق"، مؤكدا أن مراجعة هذه الفكرة "ضرورية حاليا لاستعادة النظام الإقليمي على أسس جديدة، وفق حقائق المرحلة وتجارب العالم الناجحة في الاندماج".

وسجل المتحدث ذاته بأن الأزمة المتعلقة بالعلاقة بدول الجوار الجغرافي العربي" لا يمكن التعرض لها دون التنبيه إلى أن القوتين الإسلاميتين المجاورتين، أي إيران وتركيا، لم تعودا حاليا في موقع الجوار الجغرافي، بل تحولتا إلى طرفين فاعلين من داخل المنظومة الإقليمية العربية".

ونبه بن عيسى إلى تغير المرجعية الإستراتيجية ل"إيران وتركيا في اتجاه المنظور الإسلامي سواء بدلالته الطائفية الثورية (إيران) أو دلالته الجيوسياسية الأيديولوجية، أي العثمانية الجديدة في غطاء الإسلام السياسي (تركيا)".

وأفاد بن عيسى بأن إيران أصبحت "مسيطرة على قلب المشرق العربي في العراق وسوريا، في حين أصبحت تركيا - كما يراها كثيرون - المظلة الحامية لانشقاقات العالم العربي والقوة الفاعلة في تدبير أزماته"، مسجلا بأن هذا "التحدي العصي يطرح على النخب العربية سؤالا جوهريا يتعلق بالجغرافية السياسية للمنطقة بأنظمتها الإقليمية، وتأثير العوامل الطائفية والإثنية التي خلقت عمليا واقعا موضوعيا جديدا في ما وراء التقسيمات السابقة بين مناطق قومية متمايزة هي العالم العربي والعالم الفارسي الإيراني والعالم التركي الوريث للسلطنة العثمانية".

ولم يفوت بن عيسى الفرصة دون الحديث عن المسألة الدينية في العالم العربي، حيث اعتبرها من أكبر الأزمات الخطيرة والمتفاقمة"، مبينا أن لها أبعادا ثلاثة متمايزة هي: "العنف الراديكالي، الذي يستهدف المجتمعات والدول عبر الجماعات التكفيرية المتشددة التي تمارس الإرهاب الدموي؛ وتصديرُ الإرهاب إلى الدول الغربية باسم الجهاد ومنطق الشهادة بما حول الإسلام إلى مشكل للعالم رغم براءته من سوء عمل هذه الجماعات المتطرفة؛ وبروز مشاريع حكم وبناء سياسي لدى المجموعات الراديكالية التي استفادت من انهيار الدول وتصاعد الصراعات الطائفية فيها بما هو جلي في النماذج الطالبانية والداعشية التي كثر الحديث عنها في السنوات الأخيرة".

واوضح بن عيسى بأن النخب العربية تحتاج اليوم إلى "وقفة حقيقية لمعالجة هذه الأزمة المتعلقة بالموضوع الديني، لتصحيح أخطاء نظرية وعملية عديدة طغت على الوعي والخطاب في العقود الماضية، مثل القول بأن الإسلام دين ودولة، في حين أنه ديانة لها بنيتها العقدية، ومنظورها القيمي، وأحكامها التشريعية، وليست نظاما أيديولوجيا للتعبئة واقتناص الحكم".

وأضاف أن من بين التصورات المغلوطة مفهوم الجهاد نفسه، الذي تم "تحويله من دلالة الحرب الدفاعية إلى مفهوم الحرب المقدسة الذي ساد في العصور الوسيطة في الأدبيات المسيحية"، معتبرا أن تبني النخب العربية في السنوات الأخيرة مفهوم الإصلاح الديني، المستند لفكرة الاجتهاد الحر، والقراءة النقدية التاريخية للنص "لا تزال محدودة، وقد زاد من وهنِها واقع المؤسسة الدينية الضعيفة، وطغيان الحركات الأيديولوجية التي سيطرت على الحقل الديني".

وشدد على أن المأزق الكبير، الذي تعاني منه النخب العربية، هو "الماضوية الجامدة التي تتدثر بغطاء الشرعية الدينية لنفي المستقبل والقعود عن دفع استحقاقاته"، مؤكدا أن المطلوب هو التسلح ب"النظرة الاستشرافية الحية التي تصنع التاريخ وتكرس فاعلية الإنسان وإرادته الحرة"، حسب تعبيره.

وعلى مستوى القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، يرى بن عيسى أن التحدي المطروح على النخب العربية اليوم هو "إعادة تصور الموضوع الفلسطيني، وتحديد أدوات وآليات إدارته، بعد أن أدت المعادلة العملية التي كرسها الاحتلال إلى استحالة قيام دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة"، مشيرا في الآن نفسه إلى "استفحال وضع التمييز العنصري داخل الكيان الإسرائيلي الموسع، وبروز أوراق جديدة في التعبئة والنضال السياسي من أجل استمالة الرأي العام الدولي لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني".