الرباط: في يوم مشمس، جلست ثريا الحضراوي وحيدة في حديقة منزل العائلة، في جو لا تكسر هدوءه سوى زقزقة الطيور، قبل أن ينطلق صوتها القادم من أعماق صدرها بالغناء مثل "عصفور في فضاء حر"، حسب تعبيرها.
كانت تلك هي أول مرة يصدح فيها صوت الحضراوي، وهي يومئذ في ريعان الصبا بالغناء، وترديد مقطع من أغنية شعبية تحكي عن معاناة خطيبين لم يكتب لهما تتويج قصتهما بالزواج.
تحكي الحضراوي في الصفحات الأولى من كتابها الجديد " البحث عن صوت"، الصادر باللغة الفرنسية، أن تلك اللحظات هي بداية اكتشافها لموهبتها الفنية كصاحبة صوت جميل، علما أن الأمر لم يكن سهلا في وسط محافظ.
حواجز البداية
من بين الصعوبات الأولى التي واجهتها في عائلة متعددة الأفراد، انعدام مكان في المنزل تأخذ فيه حريتها في إطلاق العنان لصوتها، فكانت مضطرة للبحث عن ركن تعبر فيه عن ذاتها، سواء في حمام الأسرة، أو غرفة الأب والأم خلال غيابهما.
ذات يوم فاجأها الوالد وهي في غمرة الغناء داخل غرفته في مواجهة المرآة، فأصابتها نظراته قبل كلماته بالارتباك، ووصفت ذلك كما لو أنه ضبطها عارية، حسب تعبيرها.
في أيام الآحاد، كانت تتذرع بالخروج مع العائلة للتركيز على القيام بواجباتها الدراسية، لكنها ما أن ترافقهم في المتنزهات حتى تنزوي بعيدا، وراء هضبة أو شجرة كبيرة لتكون وحيدة مع صوتها، وهذا التصرف لم تكن والدتها راضية عنه، باعتبار أن الحمقى و "المسكونين" هم من يسعون للعزلة، وهي "كانت مسكونة بصوتها"، على حد قولها.
البوح بالسر
وهي صغيرة، كانت تحس بثقل الأمانة مجسدة في صوتها، الذي تحاول إخفاءه، كان بالنسبة لها، مثل سر لا يتعين الكشف عنه، فلا تترنم به إلا في الأماكن الخالية، مثل الفضاءات الطبيعية، أو غيرها.
في المدرسة الابتدائية لم يكن هناك أي اثر للموسيقى أو الغناء، بل فقط بعض المحفوظات والأناشيد، لكن ثمة أغنيات كانت تداعب سمع الحضراوي على ألسنة متسولين وهو يطلبون الصدقة من المارة في الشارع.
ومن بين هؤلاء ذلك "المجذوب" بشعره الطويل، ولحيته التي تغطي وجهه، وحمامة فوق كتفه الأيمن، و"دربوكة" (آلة لضبط الإيقاع") على كتفه الأيسر، يستعين بها أثناء الغناء أمام أبواب البيوت، حين يغادرها الأزواج، مرددا بعض المقاطع الغنائية، التي كانت تروق لبعض الزوجات لكونها تعبر عن مكنون أعماقهن، ويكون جزاؤه قطع من الخبز والسكر والنقود.
عشق أم كلثوم
في مدينتها الصغيرة، كانت أسرتها من بين أوائل الأسر التي أدخلت التلفزيون إلى البيت، وهو الأمر الذي كان يستحق التهنئة، ويجعل الجيران، يتحلقون حوله خاصة ليلة السبت لمتابعة "السهرة الأسبوعية الكبرى".
قبل التلفزيون، تعرفت الحضراوي على كوكب الشرق أم كلثوم عبر مذياع صغير كان هو رفيقها الدائم، فلقد أعجبت كثيرا بصوتها وهي تغني قصيدة " الأطلال"، كانت تسافر عبر نبرات صوتها بعيدا في عوالم وآفاق تعبق بالسحر والجمال.
شكلت عملية انتقال عائلتها من مدينة صغيرة إلى مدينة كبيرة وصاخبة في حجم الدار البيضاء، نقطة تحول في حياتها، بما أتاحته لها من انفتاح على مختلف الثقافات.
هكذا، وبمثل هذه التفاصيل الدقيقة، تغوص الحضراوي في سرد ملامح وذكريات من نشأتها العائلية والفنية، إلى أن اشتد عودها، وكبرت قامتها، وانخرطت في معترك الحياة.
اقتحام ميدان ذكوري
ككل فنانة، لم يكن طريقها مفروشا بالورود، كانت دائما هناك تحديات واجهتها بقوة شخصيتها، لتصبح اسما له رنينه الخاص في الأسماع كأول امرأة تقتحم ميدانا فنيا ظل دائما حكرا على الرجال، هو الملحون المرتبط بالتراث الشعبي.
وكانت الحضراوي قد دشنت حياتها المهنية بتدريس مادة الفلسفة، بعد أن تلقت تعليمها الجامعي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، بترخيص من أسرتها في الدار البيضاء، دعما لحريتها واستقلاليتها.
لكن ثمة انعطافة، أدت بمؤلفة "البحث عن صوت" إلى خوض مهنة البحث عن المتاعب في فترة سياسية من تاريخ المغرب في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وذلك بانضمامها إلى أسرة تحرير مجلة "كلمة" بالفرنسية، حيث أنجزت مجموعة من التحقيقات الصحافية ذات الطبيعة الاجتماعية والثقافية، إلى أن تم منع صدورها بقرار من السلطات.
وانطلاقا من سنة 1989، كرست الحضراوي نفسها للغناء، كمؤدية لقصائد فن الملحون، من خلال تسجيل العديد من الأشرطة الموسيقية، والمشاركة في المهرجانات الفنية داخل المغرب وخارجه.
على امتداد مسارها الفني، لم تقف عند أداء الملحون، كما هو، بل ساهمت في تجديده وتطويره، وإعادة توزيعه موسيقيا، بالتعاون مع كبار الموسيقيين، مما شكل إضافة نوعية لهذا التراث الغني قصد تقريبه من الأجيال الجديدة.
ويعتبر "البحث عن صوت" هو كتابها الثاني بعد إصدارها الأول المعنون بـ"طفولة مغربية"، الذي تستحضر فيه صفحات من طفولتها ومراهقتها في استرجاع أيام مازالت تسكن الذاكرة.
التعليقات