في التاريخ السوفياتي، كان الزعيم مرتبطًا بالسوفيات، لا بزوجته. حتى قلب ميخائيل غورباتشوف هذه المعادلة، فتعلق برايسا أكثر مما تعلق بالسلطة... ألهاذا السبب انهار الاتحاد السوفياتي؟

إيلاف من بيروت: في غرفة لتبديل الملابس طاولتان للماكياج ومرآتان، ومجموعة مختارة من الشعر المستعار والفساتين، وممثلان - رجل وامرأة - يجلسان على كرسي في مواجهة الجمهور، يتحدثان بصوتيهما العادييين، من دون تغيير اللهجة. يتمسكان بالحقائق. تبدأ المرأة: "في نهاية مايو 1999، رافقت رايسا ماكسيموفنا زوجها إلى أستراليا". يتابع الرجل: "اعترف غورباتشوف بأن رحلة العودة كانت طويلة وصعبة، ولا يسعه حتى الساعة إلا أن يعتقد أنها قدمت صدمة لعملية بدأت بالفعل...".

كان الحديث عن عملية جراحية خضعت لها رايسا المصابة بسرطان الدم. في يوليو من العام نفسه، بحسب ما أوضح الممثلان، ذهبت رايسا غورباتشوف إلى ألمانيا لتلقي العلاج، وكان زوجها ميخائيل إلى جانبها، ممسكًا بها، يحادثها ويراقبها تموت. كان لا بد من إبقاء جناحها في المستشفى معقمًا، فارتدى غورباتشوف ملابس واقية. ولتتمكن هي من رؤيته وسماعه، رفضت تعاطي المورفين لتسكين آلامها؛ وفي إحدى ليالي الألم الذي لا يطاق، احتضنها بين ذراعيه وجلسا يرويان لبعضهما بعضًا قصصًا عن نصف قرن قضياه معًا.

انتحال الشخصية تكريم شخصي

على مدار ساعات ثلاث، قام ييفغيني ميرونوف وتشولبان خاماتوفا، وهما اثنان من أفضل الممثلين المحبوبين في روسيا، بسرد واستعادة تلك القصص على خشبة مسرح الأمم العصري في موسكو. خطوة بخطوة، يتعمقان في شخصيتيهما. وضعا الماكياج وجربا الأصوات والإيماءات: حروف العلة الجنوبية العميقة التي حصل عليها ميخائيل في بلد القوزاق؛ وقدرات رايسا في الإلقاء، وملاحظات عن التفاؤل الاشتراكي. تدربا في مدرسة الواقعية النفسية الروسية، وهما يجسدان عائلة غورباتشوف من حيث التعاطف والبراعة.

"أحب غورباتشوف"، كما يقول ميرونوف، "آمن بأن الاشتراكية لا تزال على حالها، أردنا أن نفهم من أين أتى وكيف غادر، وماذا فعل". قصدًا أو من غير قصد، غير غورباتشوف خريطة العالم... إنها الانكماشات والطفرات التي تم التقاطها في إسقاط السياسة على المسرح.

ربما يكون غورباتشوف آخر أمين عام للحزب الشيوعي يظهر على المسرح في روسيا، لكنه بالتأكيد ليس الأول. في خلال الحقبة السوفياتية، كانت الأعمال الفنية المرتبطة بيوبيلات القادة السوفيات، في الماضي والحاضر، جزءًا من سير القديسين الرسمي. لو اتخذ غورباتشوف خيارات مختلفة في الكرملين، فلربما كان ممكنًا التصور أنه يرأس اليوم المكتب السياسي للحزب الشيوعي، لتمجد كل مسارح الروسيا عيد ميلاده التسعين في مارس الآتي.

حذافة التاريخ

لكن بحلول وقت ذكرى وصوله إلى السلطة في عام 1985 (قبل وقت قصير من التحاق ميرونوف بمدرسة موسكو العالية للفنون المسرح)، تبدو فكرة أن يبادر واحد من أرقى المسارح الروسية إلى تكريمه سخيفه. ففي هذه الأيام، ليس الامتنان هو الشعور الأكثر شيوعًا تجاه غورباتشوف في روسيا، إنما هو الازدراء. فالنخبة الحاكمة - مثلها مثل الكثير من العامة في أنحاء البلاد – والتي أسكرها الحنين الإمبراطوري والثروة المكتشفة حديثًا، تعتبره فاشلًا في أفضل الأحوال، وخائنًا في أسوأ الأحوال، أدى بسياساته إلى تفكيك قوة عظمى وانهيارها.

معلوم إذًا أن أصل غورباتشوف من لاتفيا، إحدى جمهوريات البلطيق الثلاث التي حررتها سياساته. في محادثة مسجلة لفيلم وثائقي تم إنتاجه توازيًا مع المسرحية، قال مخرج المسرحية اللاتفي ألفيس هيرمانيس لغورباتشوف: "أدركت للتو أنه بعد والدتي وأبي، أنت الشخص الثالث الذي حدد حياتي - وحياة الملايين". على الرغم من ان هيرمانيس عمل على نطاق واسع في روسيا، مُنع من دخول البلاد في عام 2014 بعد انتقاده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تطلب منه الأمر مناشدة شخصية للرئيس كي يعود ويلتقي غورباتشوف.

لا سيرة ولا دراما سياسية

كتابه عن مذكرات غورباتشوف مقسم إلى روايات قصيرة: "غورباتشوف والحب الأول"، "غورباتشوف وجثة ستالين"، "غورباتشوف وعسل". إنها ليست سيرة ذاتية أو دراما سياسية. تجاوز مهمة غورباتشوف على رأس الدولة السوفياتية في سطر واحد: "ست سنوات ذهبت كيوم واحد". ينشغل المخرج والممثلان بأسئلة مختلفة: كيف صعد هذا الرجل إلى قمة نظام صُمم لقمع غريزة الإنسان؟ (اعترف رئيس المخابرات السوفياتية في وقت لاحق بأن "خطأنا الأكبر كان التغاضي عن غورباتشوف"). وما الذي دفعه للقيام بالإصلاحات التي أدت، في عام 1991، إلى انهيار الاتحاد السوفياتي؟

كُتب مجلدات عن الحتمية الاقتصادية للانهيار السوفياتي، وعن الحسابات الخاطئة في سياسة غورباتشوف. كان للمسرح دور كبير في هذه العملية أيضًا. بعد فترة وجيزة من توليه منصبه، ذهب غورباتشوف إلى مسرح موسكو للفنون لمشاهدة "العم فانيا " لتشيخوف. بعد ذلك، اتصل بالمدير ليخبره أنه وجد قلب فانيا متألمًا. وقال: "حان الوقت لتحريك دولاب الإصلاح مرة أخرى".

بالتركيز على علاقة غورباتشوف بزوجته رايسا، يشير هيرمانيس إلى أن الحب والزعماء السوفيات لم يترابطا إلا نادرًا. يقول: "أنا مقتنع بأن البيريسترويكا ما كانت لتحدث لولا رايسا وحبه لها".

التقى الزوجان على حلبة الرقص في جامعة موسكو الحكومية، حيث تم قبول غورباتشوف من دون فحص بفضل الحصاد القياسي الذي أنتجه هو ووالده في مسقط رأسه ستافروبول. كان عامل تشغيل آلات حصاد إقليمي بلكنة جنوبية، وكان دخيلًا في عالم المثقفين الحضريين في فترة ما بعد الحرب الذين كان يطمح إلى الانضمام إليها. جسدت رايسا - الطالبة في كلية الفلسفة - حلمه في حياة مختلفة، والذي كان له علاقة بالأدب الروسي الكلاسيكي أكثر من الماركسية - اللينينية التي درستها هي نفسها ودرّستها في ما بعد.

تزوجا في سبتمبر 1953، بعد ستة أشهر من وفاة ستالين. ارتدت العروس ثوبًا جديدًا لكنها اضطرت إلى استعارة حذائها؛ تم الاحتفال بالزفاف في مقصف جامعي. بعد ذلك، كانا يتجولان في سهوب ستافروبول الترابية، أو يمشيان ليلًا في الممرات الثلجية في داشا بعيدًا عن أجهزة الاستماع، وفي المكانين شاركته مشاعره وأفكاره وشكوكه. قال لها بعد ساعات قليلة من وصوله إلى السلطة: "لا يمكننا الاستمرار في العيش بهذه الطريقة".

حب أعلى

زواجه المستمر ميزه من الحكام الروس السابقين. كان على الحاكم الروسي أن يرتبط بشعبه، وما كان مفترضًا أن يتمتع بحياة خاصة. تم إبعاد زوجات القادة السوفيات الآخرين عن الأنظار. لذا، صارت رايسا وذوقها في الفساتين الأنيقة وذكاؤها ورقيها مصدر نكات ومبهث استياء بين أفراد الشعب السوفياتي. لكن - في المسرحية وربما في الواقع - كان إخلاص غورباتشوف لها هو الذي أجبره، كزعيم سوفياتي، على تقدير الحياة البشرية فوق الأيديولوجيا أو الجغرافيا السياسية. أحب ميخائيل رايسا أكثر مما أحب القوة.

أصبح هذا واضحًا خلال محاولة الانقلاب في أغسطس 1991 التي تسببت في أول سكتة دماغية لرايسا. عندما عاد الزوجان من شبه جزيرة القرم حيث بقيا رهن الإقامة الجبرية، لم ينضم غورباتشوف إلى المواطنين للاحتفال بالإفراج عنه وانتصارهم على الاستخبارات السوفياتي (كي جي بي). بل مكث مع حبيبته. وكما قال ميرونوف على المسرح: "لم أكن متزوجًا من الدولة، من روسيا أو الاتحاد السوفياتي، بل كنت متزوجًا من رايسا، وفي تلك الليلة ذهبت معها إلى المستشفى. ربما كان ذلك هو القرار الأهم في حياتي السياسية كلها".

هذا التجسيد للحب هو موضوع الفيلم الوثائقي المصاحب الذي أخرجه فيتالي مانسكي، مخرج روسي مقيم في لاتفيا (تم اعتقاله مؤخرًا في موسكو بسبب احتجاجه على تسميم المعارض أليكسي نافالني). يُدعى الفيلم "Gorbachev.Rai" ويتضمن مشاهد لممثلين مسرحيين يتحدثون إلى غورباتشوف، لكنه يبدأ بلقطة من عدة هواتف سوفياتية، وهي آثار صامتة لقوته العليا السابقة. الآن يعيش وحيدًا ويتحرك ببطء. يملؤه مانسكي بالأسئلة والتأكيدات المتشددة حول السياسة والحرية ودوره في التاريخ.

يسأله مانسكي: "أنت تقول إن موت رايسا أفقدك معنى الحياة". يؤكد غورباتشوف: "فقدته". يسأل مانسكي متمعنًا: "لكن هل ينحصر معنى الحياة في حب امرأة وإنجاب أطفال؟". يجيبه: "ما يمكن أن يكون أعلى من أن تحب امرأة وأن تحبك هي؟".

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "إيكونومست".

ثلاثة عقود على انهيار الستار الحديدي
غورباتشوف محاصرًا: شيخوخة وكورونا وانتقادات بوتين