لا شك في أن سيرة آخر الحكم السوفيات ميخائيل غورباتشوف جديرة بالملاحظة. فهذا الرجل أوقف زمن الجدليات المادية والتاريخية، وقال للشعب: "القرار لك". فكان رحيل الإمبراطورية السوفياتية.

إيلاف من بيروت: إنه ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم سوفياتي قبل انهيار الإمبراطورية الشيوعية وتناثر جمهورياتها. سيرة ومسيرة تراجيدية الطابع والسمات، ومصير يرقى في شكله ومضمونه إلى مصائر أبطال الميثولوجيا أو الأساطير الإغريقية القديمة، حين ظهر ليستقطب اهتمام الخارج قبل الداخل، ولم يستمتع طويلاً بنشوة وإعجاب مواطنيه.

سنوات معدودات كانت كافية لتقذف به بعيداً من موقع الصدارة. تقاذفته الأهواء ليسقط في شرك أضواء الخارج من دون اعتبار لقسوة وحلكة عتمة الداخل، فتطايرت السهام من كل حدب وصوب، وصار هدفاً لمؤامرات الرفاق، ومنهم من اجتمع بليل في مجاهل غابات بيلاروس لتدبير ما أطاح به وبالوطن، وما إن امتثل لملاقاة مصيره المحتوم حتى تعالت الاتهامات وتباينت، من العمالة إلى الخيانة، بل وإلى ما هو أبعد وأشد وطأة، بينما انفض عنه رفاق الأمس ممن خرج جميعهم من معطف الحزب الشيوعي السوفياتي.

يقول تقرير نشرته "إندبندنت عربية" إن الأيام والسنون تمضي بكل تقلباتها وتعرجاتها التي قذفت به إلى خارج دائرة الضوء، فلم يجد السلوى والملاذ إلا بين أحضان خصوم وأعداء الأمس ممن تلقفوه شاكرين مهللين، ليوفروا له مقراً آمناً خارج حدود الوطن، اعترافاً بفضل ما أتته يداه، وخير ما أسهم به في لمّ شمل الألمانيتين.

موجز السيرة

ذلك هو غورباتشوف الذي "غير وجه التاريخ"، وأعاد رسم خريطة السياسة العالمية خلال سنوات معدودات. سيرته الذاتية تستمد بداية خيوطها من إحدى قرى مقاطعة ستافروبول جنوب روسيا لتنسج قصة الشاب البسيط شديد الطموح، الذي سرعان ما حمله إلى رحاب أكبر جامعات الاتحاد السوفياتي في العام 1950 ليدرس في كلية الحقوق.

في جامعة موسكو، التقى شريكة حياته التي سرعان ما حددت ملامح مستقبله على الصعيدين الشخصي والعملي. رايسا تيتارينكو (غورباتشوفا بعد الزواج) طالبة كلية الفلسفة. بدأت معها أحلامه على الصعد كافة، ومنها الخاص والعام، ومعها كانت البداية واقترب من النهاية، على وقع ما تطاير من اتهامات بحقها، وانتقادات لتدخلها في الشؤون العليا للوطن، وهي التي كانت خير وجه لهذا الوطن.

يتذكرون البدايات، من منظمة الشبيبة الشيوعية (الكومسومول) إلى صفوف الحزب الشيوعي الذي تولى أمانة لجنته في "ستافروبول" نهاية خمسينيات القرن الماضي، وحتى اللقاء التاريخي مع يوري أندروبوف إبان عمله كرئيس للجنة أمن الدولة (كي جي بي)، وعضواً في المكتب السياسي للحزب.

تتوالى اللقاءات التي سرعان ما حملته إلى العاصمة لانتخابه سكرتيراً للحزب بنهاية السبعينيات حين لم يكن تعدى التاسعة والأربعين، ما أثار في حينه كثيراً من الدهشة والتحفظات.

ما إن تولى أندروبوف سدة الحكم بعد وفاة سلفه ليونيد بريجنيف في عام 1981، حتى بدا واضحاً أنه يتوسم فيه الاتفاق في الرؤى والتوجهات، والقدرة على تنفيذ ما كان يراه من حلول للخروج من مرحلة الركود، وهي التسمية التي طالما ترددت في ما بعد عنواناً لسبعينيات القرن الماضي، وخلال عهد بريجنيف.

لم يكن غريباً أن يستقر عليه خيار كثير من زملائه من أعضاء المكتب السياسي ليكون خلفاً لقسطنطين تشيرنينكو الذي خلف أندروبوف فترة لم تتجاوز العام، وكانت هي النتيجة التي خلص إليها رفيقه أندريه غروميكو عميد الدبلوماسية الروسية وعضو المكتب السياسي لدى تقديمه مرشحاً لقيادة الحزب، خصماً من رصيد وتاريخ كثيرين ثمة من كان يرى أنهم الأجدر والأحق بذلك الموقع، وهم من عاد غورباتشوف ليستثنيهم من قائمة رفاق المسيرة.

كان القرار نهائياً في آخر المؤتمرات الحزبية التي أقرت إلغاء المادة السادسة من الدستور السوفياتي، وإعفاء كل من الأمين السابق للحزب في كازاخستان دين محمد كونايف، ونظيره في أذربيجان حيدر علييف، ومنافسه السابق الذي كان يتولى أمانة العاصمة موسكو، فيكتور غريشين.

بيريسترويكا وغلاسنوست

بحسب تقرير "إندبندنت عربية"، تبدأ مسيرة التغيير ومحاولات الإصلاح تحت شعارات "بيريسترويكا وغلاسنوست" التي استهل بها غورباتشوف مسيرته.

تحت وقع هتافات الملايين ممن كانوا يحلمون بمثل هذا التغيير، انطلق "غوربي" كما كان يحلو له سماع اسمه بين الدوائر والأوساط الغربية، محطماً كثيراً من أركان الماضي من دون حساب أو اعتبار لجسامة التبعات، أو التفات إلى ملاحظات وانتقادات واعتراضات المحافظين من رفاق الماضي. تداعت أركان الدولة تحت ضربات وتيرة التغيير التي شملت كثيراً من المجالات، وأهمها ما يتعلق بنظام الحكم والإدارة، فقد جمع كل صنوف وألوان الطيف السياسي في مؤتمر نواب الشعب في مايو 1989، ليسهم من دون أن يدري في جمع معارضيه من مختلف أرجاء البلاد للانضواء تحت راية "مجموعة النواب الإقليمية"، وبداية من تشكيل هذه المجموعة التي سجلت قيام أول جبهة معارضة في التاريخ المعاصر للاتحاد السوفياتي، انطلق معارضوه صوب تنفيذ حملتهم للإطاحة به وبالوطن.

لم يكتف غورباتشوف بمؤتمر نواب الشعب وما تلاه من تنظيمات وتحركات، فسرعان ما تبدت ميوله صوب تبني شعارات الخارج وتوجهاته نحو مزيد من الحريات والديموقراطية، وانطلق إلى مالطة بحثا عن أضواء جديدة وعده به نظيره الأميركي جورج بوش الأب بإعلان مشترك عن نهاية الحرب الباردة.

رغم الأنواء العاصفة التي حالت دون اجتماع الرئيسين على متن بارجة أميركية، قنع غورباتشوف وبوش بلقائهما في ديسمبر 1989 على متن السفينة ماكسيم غوركي التي كان الوفد السوفياتي اتخذها مقرا لإقامته هناك. ورغم كل ما قيل حول أن إعلان نهاية الحرب الباردة وثيقة دامغة تقول بهزيمة الاتحاد السوفياتي، تقول المصادر والوثائق بعدم صحة التقديرات.

انشقاق وعصيان: بوريس يلتسين

نعود إلى مناورات الداخل لنشير إلى أن النهاية باتت قريبة أكثر من أي وقت مضي. وكان السبيل إلى ذلك فيما اتخذه خصوم غورباتشوف عن عمد وسبق إصرار من قرار النيل من ثوابت ودعائم الحكم، استنادا إلى وقوف غورباتشوف وراء إلغاء المادة السادسة من الدستور السوفياتي بكل ضوابطها للاحتفاظ للحزب الشيوعي باحتكاره للسلطة، بعيدا عن أية تعددية أو ما شابهها.

ظهر بوريس يلتسين الذي كان جاء به مع مطلع سنوات البيريسترويكا من موقعه في الأورال. وبدلا من يكون دعما وعونا، شخص يلتسين بكل قامته وبما اكتسبه من شعبية وجماهيرية، ليعلن ثورته المضادة التي انضم إليها وقادها الليبراليون الجدد ممن نجحوا في إقناعه بما دبروه من توجهات ومخططات.

ابتدأ بإعلان سيادة واستقلال روسيا في يونيو 1990، ثم عاد ليرفع ومعه نواب وممثلو جمهوريات البلطيق وأوكرانيا رايات الانشقاق والعصيان.

أدرك غورباتشوف أبعاد الموقف وغاياته ليعود إلى مواطنيه يناشدهم الرأي في استفتاء شعبي حول بقاء الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية في مارس 1991. لم يخذله شعبه مؤكدا وبأغلبية ساحقة موافقته على بقاء الدولة الاتحادية بنسبة تزيد عن 75 في المئة.

رفض معارضوه ما طرحه من صيغ للمعاهدة الاتحادية الجديدة، في توقيت مواكب لتحول مماثل من جانب رفاقه المحافظين، ممن سارعوا إلى تدبير انقلاب أغسطس 1991 لوقف اندفاعه الجارف صوب التغيير.

بيلوفجسكويه بوشا

خرج غورباتشوف من حصاره في منتجع "فوروس" بشبه جزيرة القرم مهيض الجناح مسلوب الإرادة، واستغل يلتسين ذلك للانفراد بالسلطة في موسكو، وجاء به إلى السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية في محاولة لتركيعه وإرغامه على الإعلان عن الاعتراف بفضله، وانتزاع موافقته على كل ما اتخذه من قرارات، والتي كانت تعني عملياً تنحية غورباتشوف عن مهمات منصبه كرئيس للدولة، وهو ما أعطى بقية جمهوريات الاتحاد السوفياتي الحق في اتخاذ ما تراه من قرارات، توالت تباعاً لتبدأ بأوكرانيا وبعدها بقية الجمهوريات، ولتبدأ مهرجانات إعلان السيادة والاستقلال التي انتهت عملياً بمؤامرة "بيلوفجسكويه بوشا".

في بيلاروسيا، اجتمع بليل رؤساء روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا قبل أن تتحول إلى بيلاروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، للاتفاق حول توقيع الاتفاقات التي كانت عملياً الأساس القانوني لانفراط عقد الاتحاد السوفياتي.

تضاربت التفسيرات وحار أمامها المعلّقون والمؤرخون لاستيضاح أسباب الكارثة التي حلت بالوطن، وأسهمت في تقويض أركانه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في مثل هذا الوقت من العام 1991، وتباينت التقديرات على وقع تصاعد التساؤلات حول ماهية المسؤول عن مثل تلك المقدمات، وما أسفرت عنه من نتائج.

وما كان أسهل من إلقاء تبعات سقوط الإمبراطورية على كاهل "الأسد الجريح"، وعليه وحده دون غيره من رفاق الأمس، ممن كانوا يلتفون حوله طمعاً في الفوز ببعض أضواء ذلك الحاضر، وحتى ما رفعه من شعارات "البيريسترويكا والغلاسنوست"، ظهر من يدعي أنها من وحي أفكاره.


أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "إندبندنت عربية". الأصل منشور على الرابط: https://bit.ly/3q3McEJ