إيلاف من أصيلة: رسمت أولى جلسات ندوة "العرب اليوم وأعباء الفراغ الاستراتيجي"، ضمن فعاليات منتدى أصيلة الـ44، صورة قاتمة للنظام الإقليمي العربي، في ضوء ما يميز حاضر المنطقة العربية، التي اتفق المشاركون على أنها تعيش أوضاعا استثنائية، في ظرفية دقيقة، تحتاج تفكيرا معمقا، واستشرافا ثاقبا، لتشخيص الواقع واستكناه المستقبل.
حالة فراغ استراتيجي
انطلقت الندوة، التي تهدف إلى دراسة وتحليل أعباء الفراغ الاستراتيجي العربي، في ضوء المعطيات الإقليمية والدولية، من أرضية استحضرت تحذير وزير الخارجية السعودي الاسبق الأمير الراحل سعود الفيصل، سنة 2010، من حالة "الخواء الاستراتيجي"، التي يعاني منها العرب في ظرفية مضطربة نجمت عن ما عرف بموجة "الربيع العربي".
سميرة بن رجب تتحدث في الندوة وبدا الى جنبها عبد الرحمن شلقم وزير خارجية ليبيا الاسبق(رضا التدلاوي)
ورأت الارضية أنه بعد مرور أكثر من عقد على هذه العبارة، لا تزال المقولة صالحة إجمالا لتشخيص ووصف الوضع العربي الراهن، مع ضرورة مراعاة واعتبار الأحداث الجديدة والمعطيات الحالية.
وأوضحت الارضية أن ما تعنيه عبارة "الفراغ الاستراتيجي" من منظور الندوة هو ظواهر أربعة متداخلة، تشمل تراجع النظام الإقليمي العربي وضعف مؤسساته المشتركة، وعجزه عن بلورة الحد الأدنى من التوافقات الداخلية بخصوص الملفات المحورية وقضايا الساعة الجوهرية، وانهيار الدولة الوطنية المركزية في عدة بلدان عربية، وانتشار الحروب الأهلية، والصراعات الداخلية فيها، بما أدى إلى غيابها الكلي عن الالتزامات الإقليمية المشتركة، وتنامي الاختراق الأمني والجيو سياسي الأجنبي للمنطقة العربية، بحيث تزايد وتعمق حضور وتأثير القوى الإقليمية غير العربية في القضايا العربية على حساب مقتضيات التضامن الإقليمي العربي، وظهور مشاريع إقليمية جديدة على الطاولة الدولية مثل الشراكة الشرق المتوسطية وتجمع القوى الإسلامية العربية الآسيوية، وتراجع الدور السياسي والديبلوماسي العربي في الأجندة الدولية، بما انعكس سلبا على المصالح الاستراتيجية العربية، وتجلى في ضعف الصوت العربي في المحافل العالمية.
محمد أوجار وزير العدل المغربي الاسبق
ظرفية دقيقة
قال محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة "منتدى أصيلة"، في افتتاح الندوة، إن الخارطة العالمية تغيرت نوعيا في الآونة الأخيرة، كما أن الموازين الجيوسياسية تبدلت، وقواعد النظام الدولي لم تعد كما كانت. ومن هنا، يضيف بن عيسى، لا بد من مراعاة هذه المستجدات في أي تفكير معمق وجاد.
وأضاف أن هناك حاجة إلى "تسليط الأضواء الكاشفة على هذه المعادلة في اتجاهاتها، ورهاناتها، وآفاقها المستقبلية "، بشكل يوفر رؤية واضحة، وفهما رصينا للمعادلة الجيوسياسية العالمية بتأثيراتها الإقليمية، تلمسًا للمسلك الناجع لاستعادة العرب زمام المبادرة الاستراتيجية في سياق دولي متغير.ليخلص إلى أن "المطلوب منا هو نبذ الأحكام المتسرعة، والمصادرات التبسيطية، من أجل الإسهام الفاعل في الحوار الجدي المطروح حول آفاق المستقبل العربي، الذي نصبو إلى أن يكون واعدا ومشرقا".
السفير المغربي محمد لوليشكي والى جانبه محمد بن صقر السلمي رئيس المعهدالدولي للدراسات اللايرانية في الرباط،والكاتبة التونسية خيرة الشيباني خلال الندوة
دروس "الربيع العربي"
بدورها ،قالت ابتسام الكتبي، رئيسة مركز أبو ظبي للسياسات، التي ترأست الجلسة، في كلمتها التقديمية، إن الأمور ليست في أحسن الأحوال، بالنسبة للعمل العربي المشترك ودور المؤسسات العربية، ومدى تأثير الصوت العربي في مجريات السياسة العالمية، مشيرة إلى أن هناك عدة متطلبات لاستعادة الفعالية، دون إغفال العوامل الخارجية والتدخلات القوى الإقليمية والدولية.
ورأت الكعبي أن انسداد آفاق المشاركة السياسية، وتنامي منظومة الفساد،وضعف الحوكمة، وفشل خطط التنمية تقدم أرضية خصبة لأشكال مختلفة من موجات الاحتجاج والغضب والمظاهرات المتكررة، علاوة على وجود فرص محتملة لظهور تيارات راديكالية.
جانب من ندوة منتدى اصيلة
وتساءلت الكتبي: "ما العمل؟ وما هي الدروس التي ينبغي أن نستفيد منها بعد تجربة الربيع العربي؟"، لتقول بأن دولة المواطنة المتساوية والدولة الوطنية المدنية لجميع المكونات هي الحل لأزمة الهوية في المنطقة العربية، مع تشديدها على أن أي مشروع إيديولوجي لا يؤمن بالدولة الوطنية ولا يحسن التنمية ولا يعزز الاستقرار ولا يزيد التواصل مع العالم والحداثة والعلم هو مشروع فاشل، حتى لو تغطى بشعارات دينية أو قومية أو إيديولوجية.
كما أشارت إلى أن العيش المشترك بحرية وكرامة ومساواة أهم من الشعارات والخيارات الإيديولوجية والمشاريع السياسية العابرة للدول.
ورأت الكتبي أنه لا يجوز أن يتم احتكار الدين والوطنية واستلهامهما في التنافس على السيادة والسلطة، مع تشديدها على أن الإصلاح المتدرج أفضل من التغيير الدراماتيكي المفاجئ، قبل أن تخلص إلى أن من المهم لأي إصلاح مستدام أن يكون أفقيا وليس عموديا.
حلول مستقبلية
بدوره، تحدث عبد الكريم بن عتيق، الوزير المنتدب السابق لدى وزير الخارجية المكلف المغاربة المقيمين بالخارج، عن عوامل التراجع وآفاق الإصلاح، مقدما معطيات رقمية حول العالم العربي مقارنة بمناطق ومنظمات إقليمية.
وركز بن عتيق على ما يمثله العالم العربي كفضاء جغرافي مهم، وتاريخ منظمة الجامعة العربية، والرأسمال البشري، قبل أن يعبر عن أسفه لأن العالم العربي يعيش نوعا من الانكماش على المستوى الاقتصادي، وارتفاعا في نسبة الأمية ، وضعف على مستوى التبادل التجاري البيني، والأزمات الغذائية التي يشهدها. كما تحدث عن الحروب الأهلية تشهدها المنطقة، والدول التي تعيش الهشاشة، فضلا عن تداعيات "الربيع العربي".
وقال بن عتيق إن التحديات المطروحة كثيرة، مشيرا إلى أن الإصلاح ممكن لعدة اعتبارات، تشمل اولا ، بروز أجيال قادرة على التعامل مع الماضي والأزمات بدون عقد على خلاف الأجيال السابقة.ثانيا ، السياق الكوني الحالي الذي يتميز بالهشاشة والخوف من المستقبل.وثالثها، الصراع الاستراتيجي بين الكبار في حاجة إلى عالم عربي قوي ومتماسك، مع شرط أن يكون قادرا على التفاوض.
جمهور الندوة
ورأى بن عتيق أنه يبقى من الضروري أن نبدأ بما هو موجود، مشيرا إلى أن الأزمة تحمل بوادر الانفراج من داخلها.
وقال بن عتيق ،في سياق ذلك ، أنه يجب أن "ننتقل من مشروع الجامعة العربية إلى مشروع اتحاد الدول العربية، ليس كقطيعة ولكن كانتقال، كما انتقلت كل المنظمات الإقليمية الأخرى، عندما تكيفت مع المراحل الصعبة التي مرت منها".
حسن جوار
من جهته، شدد عبد الرحمن شلقم، وزير خارجية ليبيا الاسبق، في بداية كلمته على أنه يبقى من المهم تحديد المفاهيم، ليتساءل: "من هم العرب؟". ورأى أن التعبير عاطفي تكوّن في مرحلة معنية.
وتحدث شلقم عن الواقع العربي، مشيرا إلى أنه "ليس بيننا تبادل ولا نثق في بعضنا، بل نتآمر على بعضنا". وتساءل: "لماذا الانهيار صار في الدول التي صار فيها انقلاب، ولماذا الدول ذات النظام الملكي والأميري، ومنها دول فقيرة، لكنها متقدمة ومتطورة علميا وثقافيا، هي أحسن من الدول التي بجوارها مع أنها غنية جدا؟".
ودعا شلقم إلى التركيز على حسن الجوار، بدل الوحدة والاندماج. وتساءل "ما العمل؟"، ليقول بأن العمل يمر عبر الدولة الوطنية وحسن الجوار والتعاون والعلم الذي يتعين تكييفه حسب الاقتصادات العربية.
عوامل التراجع وآفاق الإصلاح
من جهتها ، تناولت سميرة إبراهيم بن رجب، المبعوثة الخاصة للديوان الملكي في البحرين، موضوع الجلسة من محوري العرب والنظام الإقليمي العربي، وعوامل التراجع وآفاق الإصلاح. ورأت أنه لا يمكن الحديث اليوم عن عوامل تراجع للنظام الإقليمي العربي من دون الرجوع إلى فهم وتحليل أبعاد التطورات الجيو سياسة التي عرفتها المنطقة العربية مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والقراءة الدقيقة لمسألة الخروج تدريجيا من نظام القطبية إلى النظام العالمي الجديد، الذي تميز بفرض الأحادية القطبية ونشر العولمة الاقتصادية والثقافية بأشكالها المختلفة، بقيادة غربية أميركية متغطرسة، في غياب دور عربي ضمن هذه المعادلة الجديدة.
ورأت بن رجب أن أول الأجندات الكارثية التي ضربت المنطقة العربية بدأت مع إنهاء الدور المركزي المصري بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، والتخلص التدريجي من الدور العراقي الذي كان سدا منيعا أمام تمدد المشاريع الدولية والأطماع الإقليمية لدول الجوار.
واضافت أن "الربيع العربي" دفع بالمنطقة إلى مزيد من الضعف، وجعل الأمن القومي العربي في أسوء حالاته، وصولا إلى عجز دول كبرى عربية وتواطؤ أخرى ضد بعضها. كما تحدثت عن الإرهاب الذي بدأ معه عصر الغموض والدمار، وبالتالي عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي في عدد من الدول العربية، وتحول أخرى إلى دول فاشلة مع انتشار الجماعات الإرهابية المسلحة.
وتطرقت إلى تغلغل بعض دول الجوار الإقليمي في القضايا العربية المصيرية، مشيرة إلى أنه صار أمرا واقعا ومتداخلا مع مصالح القوى العظمى.
حسن عبد الرحمن مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية السابق في واشنطن والسفير اللفلسطيني السابق في الرباط يناقش خلال الندوة
وبخصوص آفاق الإصلاح، تحدثت عن تطورات جديدة يمكن أن تدعم آفاق الإصلاح وتساهم في استرداد النظام العربي ولو جزئيا. ومن بين هذه العوامل، تحدثت عن الوضع الدولي الذي أفرزته الحرب الروسية - الأوكرانية وما لحق بالسياسة الغربية من فشل، وظهور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، فضلا عن والحرب الوحشية على غزة.
أجيال جديدة
انطلق محمد أوجار، وزير العدل المغربي سابقا، من قناعة شخصية تقول بعدم وجود نظام عربي إقليمي، مشددا على أنه لا يؤمن به. وتساءل: "كيف أقبل على نفسي أن أقر بوجود هذا النظام وجاري المباشر الذي هو الجزائر، يعبئ كل طاقته لتدمير بلادي؟ كيف يمكن لليبي أن يشعر بالانتماء إلى نظام إقليمي ومواطنو بلده يستشعرون أن كثيرا من المسؤولية على الكوارث التي يعيشها يتبناها ويمولها أشقاء عرب؟".
وقال أوجار إنه "لابد لنا، ونحن نتحدث إلى جيل عربي جديد، أن نتساءل: هل تكفي اللغة العربية والامتداد الجغرافي والانتماء لنفس الدين لصناعة نظام عربي إقليمي؟ ليرد بأن تجاربنا على امتداد الستة عقود الأخيرة توصلنا إلى الإقرار الأليم بأن هذه الاعتبارات لا تكفي. وأضاف: "اليوم، لابد، ونحن نتحدث للأجيال الجديدة، أن نقر بفشلنا الجماعي في إشراك المواطنين في التدبير الديمقراطي، وبناء منظومة قيم تجمعنا. وتساءل: "ماهي منظومة القيم التي تجمعنا وأغلب بلداننا لا يؤمن بالديمقراطية والحكم الرشيد وحسن الجوار، كما تعبث بثرواتها الوطنية في مشاريع تسليحية هدفها إسكات المعارضة وإيذاء الجار والأشقاء؟". وواصل: "أعتقد أن النخب كانت جبانة"، لأنها "تستأسد بالسلط الحاكمة، وتختفي في جلباب الحاكم".
وخلص أوجار إلى التشديد على أنه لا يمكن بناء نظام إقليمي بعضوية دول وطنية لا تحترم الحريات والدساتير، كما لا يتم التداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع، ولا يتم إشراك المرأة، أو تدبير الاختلاف بوسائل ديمقراطية وبوسائل القانون. ثم قال: "نحن نتباكى على جامعة عربية كل تراثها بيانات"، معبرا عن أمله في أن تنخرط النخب العربية في مشروع جديد.
حديثة خليجية
انطلق أحمد المسلماني، الكاتب الصحفي والمستشار السابق للرئيس المصري السابق عدلى منصور، من مصطلح "الخواء"، وقال إنه موفق رغم قسوته، لكنه شدد على عدم الاستسلام له، داعيا إلى البحث في طبيعة هذا المصطلح في أفق إطلاق مبادرة استراتيجية لتجاوزه.
ورأى المسلماني أن دول العالم العربي، يمكن تقسيمها إلى دول فاشلة، عددها ستة، هي اليمن ولبنان وسوريا والصومال وليبيا، ودول لديها استقرار وازدهار تشمل دول الخليج، عددها ستة، فيما تمثل العشر دول الأخرى الطبقة الوسطى، التي لا هي في وضعية الازدهار الخليجي ولا في وضعية الدول الفاشلة.
وتساءل المسلماني: "كيف نقرأ العالم الآن؟"، قبل أن يستعرض جملة عناصر، بينها اللايقين، والصيغة المنتظرة للقرن الجديد، واللامبالاة في النظام الدولي، ونهاية الهوية الواحدة، و"الزحام في المنطقة"، والإسلام السياسي، والحداثة الخليجية.
التعليقات