إيلاف من بغداد: في تاريخ الدول، هناك أزمات محورية تعمل كمقياس حقيقي لصلابة القيادة وقدرة المؤسسات. لم تكن قضية اختطاف الباحثة الروسية-الإسرائيلية إليزابيث تسوركوف في مارس 2023 مجرد حادث أمني، بل تحولت إلى اختبار استثنائي لحكومة محمد شياع السوداني، ورهان على هيبة الدولة العراقية بأكملها. كانت المواجهة متعددة الجبهات: ضغط إعلامي دولي، حساسية داخلية مرتبطة بدور الفصائل المسلحة، وموقع العراق الدقيق في توازنات المنطقة.

شهور من العمل الصامت

عندما أعلن رئيس الوزراء العراقي عن تحرير تسوركوف، لم يكن ذلك إعلانًا عن صفقة عابرة أو نتيجة لمصادفة. كان، كما وصفه بنفسه، "تتويجًا للجهود المكثفة التي بذلتها أجهزتنا الأمنية على مدار أشهر عديدة". منذ اللحظة الأولى، وجدت حكومته نفسها أمام مسؤولية مزدوجة: حماية سمعة العراق كدولة ترفض أن تكون ساحة للفوضى، وفي الوقت نفسه، إدارة شبكة معقدة من الضغوط الدولية.

هنا، برز ما يمكن تسميته "الصبر الاستراتيجي" للسوداني. بدلًا من الانجرار وراء دعوات المواجهة السريعة أو الرضوخ لتنازلات تكتيكية، اختار مسارًا أطول وأكثر تعقيدًا. أدار الملف بحنكة رجل الدولة الذي يدرك أن الأزمات الكبرى تتطلب حسابات دقيقة، لا ردود أفعال انفعالية. كانت رسائله للشركاء الدوليين هادئة، وثقته في الأجهزة الأمنية العراقية كاملة، مانحًا إياها المساحة للعمل بعيدًا عن الأضواء والاستعراضات الإعلامية.

"قد يطول الطريق، لكن النهاية محسومة"

جسدت هذه الفلسفة جوهر المقاربة العراقية. لم يخفِ السوداني أن العملية ستستغرق وقتًا، لكنه راهن على أن تحقيق الهدف النهائي بسيادة كاملة أهم من أي انتصار سريع منقوص. لقد أثبت أن الزعامة الفعالة لا تظهر فقط في أوقات الاستقرار، بل في الشجاعة على خوض معارك النفس الطويل، حيث تُختبر العزيمة بالقدرة على الثبات دون انكسار.

هذا المزيج بين الواقعية السياسية والتصميم الصلب هو ما حوّل عملية الإفراج من مجرد حل لأزمة رهينة إلى انتصار سياسي ومعنوي. حين حانت اللحظة المناسبة، جاء الإعلان ليؤكد أن القرار كان عراقيًا خالصًا، وأن بغداد هي من أمسكت بزمام المبادرة من البداية إلى النهاية.

رسالة إلى الداخل والخارج: زمن الاعتماد على الغير قد ولّى

يحمل هذا النجاح رسالة استراتيجية تتجاوز حدود القضية نفسها، وتتصل مباشرة بمستقبل العراق الأمني. لطالما أثيرت شكوك حول قدرة بغداد على ضبط المشهد الداخلي بشكل كامل، خاصة مع التحولات الجارية في طبيعة وجود قوات التحالف. جاءت هذه القضية لتكون الرد العملي الأقوى على تلك الشكوك.

لقد قدم العراق صورة لدولة تملك قرارها الأمني، وتدير ملفاتها الشائكة بقدرات ذاتية. أظهر أن قواته الأمنية هي الطرف الذي يمسك بخيوط اللعبة، وأن مرحلة الاتكاء على القوات الأجنبية تتجه نحو نهايتها.

في المحصلة، قصة الإفراج عن إليزابيث تسوركوف ليست مجرد حادثة في السجل العراقي، بل هي شهادة على أن الصبر، حين يقترن بالتصميم والرؤية الثاقبة، يصبح أقوى أسلحة الدولة. لقد أرسل العراق رسالة واضحة بأن أمنه وسيادته تُصاغ بإرادة وطنية، وتُحسم الأزمات الكبرى بيد عراقية.