عصام محمد
تتضمن تلك النقائص المشاركة في تأكيدات امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل، وفي وجود علاقة ما بين نظامه ومنظمة القاعدة، والتغطية احادية الجانب للحرب خلال معاركها الاولى، والتأكيد بأن صدام حسين قتل قبل بداية هذه المعارك ثم "التبشير" بأن الحرب قد "انتهت" فور سقوط تمثال الرئيس العراقي في بغداد، والامتناع عن نقل أنباء الضحايا من المدنيين او بث ما يسيء الى قوات الغزو، او تجنب تناول الاخطاء التي ارتكبتها بما في ذلك احداث "ابو غريب" التي كانت في واقع الامر معروفة للإعلاميين قبل تفجرها على هذا النحو.

ولكن لماذا ارتكبت اجهزة الاعلام الامريكية هذه الاخطاء التي يعرف تلاميذ الاعلام - بعد صف دراسي واحد - ان من الضروري تجنبها؟ ليس ثمة اجابة بسيطة. ذلك ان اخطاء تلك الاجهزة لم تكن نتيجة قرارات فردية سيئة اتخذها مديروها بسبب حالة اعتلال مزاج غير مفهومة اعترتهم جميعا في نفس اللحظة. لقد نتجت هذه الاخطاء عن اسباب متشابكة تفاعلت جميعا لتجرد الاعلام الامريكي - خلال ايام - من قسم هام من رصيده الذي راكمه بشق الأنفس على مدار عقود بأكملها.

ولكن قد يتعين اولا - وقبل رصد اسباب هذا الاداء الاعلامي السيئ - مناقشة المعايير التي يستخدمها كثيرون للحكم على ذلك الأداء. اذ ان البعض يسقطون عنصرين هامين عند صياغة معيار تقييم اداء اجهزة الاعلام الامريكية، العنصر الاول هو انها امريكية، والعنصر الثاني هو ان الولايات المتحدة تمر بحالة حرب.

ليس من السهل اسقاط هذين العنصرين من معايير الحساب. فمطالبة اي اعلام وطني بأن يكون محايدا في لحظة اشتباك بلاده في حرب خارجية هو امر غير منطقي. فضلا عن ذلك فإنه لا يوجد في الاعلام من الاصل شيء يسمى حياداً، وهو امر انطبق دائما على حالة الاعلام الامريكي.رغم ذلك فإن هذين العنصرين لا يبرران ما حدث من اخطاء. فقد طور الاعلام الامريكي بصفة خاصة معايير بالغة التطور في تحري الدقة، كما انه نجح الى حد كبير - يتجاوز نجاح اي اعلام آخر في العالم - في الفصل بين التغطية الاخبارية وصحافة الرأي.إلا ان من الصعب - مع ذلك - النظر الى الاعلام الامريكي باعتباره جزيرة معزولة عما يحيط به. وعلى أولئك الذين يحكمون على هذا الاعلام باعتباره اعلاما دوليا ان يلوموا انفسهم فحسب. فذلك الاعلام ليس موجها لمشاهدين في جاكارتا او كييف او موزمبيق، انه موجه للشارع الامريكي. وفضلا عن انه يؤثر دون شك في صياغة "العقل الجماعي" لهذا الشارع فإنه يتأثر به أيضا، اي انه لا يضع نفسه في موقع المؤثرالمعزول، "من فوق" ان جاز التعبير.

ان ذلك الاعلام - في حالة حرب اخرى هي الحرب الفيتنامية - ظل بعيدا عن انتقاد الحرب طيلة سنوات الستينات، ولكنه بدأ ينتقدها في نهاية ذلك العقد الذي لا ينسى حين بدأ الشارع الامريكي نفسه ينتقدها بصورة متزايدة. وما لبث الاعلام الامريكي ان بلور حالة السخط العارمة في الشارع من سياسات الرئيس نيكسون في مسلسل من التقارير التي كشفت فضيحة ووتر جيت وأسقطت الرئيس.

إلا ان فضيحة اخرى - اكثر هولا بكثير من ووترجيت - لم تحظ بتغطية اعلامية مشابهة بعد ذلك بـ15 عاما. فحين تكشفت اخبار فضيحة "ايران - كونترا" جيت التي خالف فيها الرئيس رونالد ريجان قوانين البلاد بصورة مكشوفة كان التناول الاعلامي لذلك "حنونا" ان جاز التعبير. ذلك ان شعبية ريجان في الشارع الامريكي كانت دائما مرتفعة.ثمة تأثير متبادل اذن. اذ لا يخطو الاعلام الامريكي على درب منفرد معزول عما عداه من دروب المجتمع واتجاه آرائه ومواقفه الاجمالي، واذا تناول هذا الاعلام قضية جديدة، تهدد هذا او ذاك من الساسة او من السياسات، فإنه يفعل ذلك بحذر في البداية، وعبر عشرات من بالونات الاختبار، لاستكشاف اتجاه المناخ العام لرأي المجتمع على وجه الاجمال.الا ان ظاهرة جديدة بدأت تزحف على الاعلام الامريكي منذ مطلع الثمانينات، وهي ظاهرة لم تمنح حقها بعد عند اي تناول تحليلي لمواقف اجهزته واتجاهاتها، تلك هي ظاهرة استيلاء المحافظين الجدد على عدد مؤثر من وسائل مخاطبة الرأي العام الامريكي. فقد أظهرت احصائيات اخيرة اجرتها مراكز متخصصة للدراسات المتعلقة بالاعلام في الولايات المتحدة ان المحافظين الجدد باتوا يسيطرون على نحو نصف وسائل الاعلام التي تدرج عادة في قائمة القوى المحافظة، او اليمينية. وتحتل هذه القائمة 56% من مجمل وسائل الاعلام الامريكية. اي ان المحافظين الجدد يسيطرون على نصف هذه الحصة، او بالأحرى 28% من مجمل وسائل الاعلام الامريكية.

ويسهم ذلك في اشاعة مناخ شديد التوتر في دنيا الاعلام بالولايات المتحدة، ذلك انه يؤثر ايضا على اجهزة اعلامية اكثر رصانة .ان جريدة واشنطن تايمز لم تكن موجودة في مطلع الثمانينات، وشبكة فوكس نيوز لم تكن موجودة - بصورتها الراهنة - في منتصف التسعينات.والاولى يملكها القس مون كاهن كنيسة التوحيد المتطرفة، والثانية يملكها روبرت مردوخ امبراطور الاعلام الاسترالي الاصل الذي جعل من مهمة دعم المحافظين الجدد همه الاول.في عام 1945، وفي قضية مشهورة نظرتها المحكمة الامريكية العليا تحت اسم "الاسوشيتدبرس ضد الولايات المتحدة" نصرت المحكمة السلطات الفيدرالية في منعها وكالة الانباء المعروفة من شراء وكالات منافسة. وقالت المحكمة في حكمها "ان من مصلحة الرأي العام ان تقوم مؤسسات متنافسة وليست على وفاق فيما بينها بالعمل في مجال الاعلام لتقديم جوانب متباينة من الاحداث والتعليقات للقرار.الا ان الامر اختلف الآن فقد اجازت المحكمة العليا ان تشتري شركة "ايه.او.ال - تايم - وارنر" العملاقة شبكة "سي.ان.ان" وشركة جنرال اليكتريك تمتلك بالفعل "ان.بي.سي" وشركة ديزني تمتلك "ايه.بي.سي" وشركة فياكوم تمتلك "سي.بي.اس". وكل هذه الشركات تندرج في اطار نحو 12 شركة عملاقة تسيطر على حصة الاسد من مخارج الاعلام الامريكي.وقد لا يكون من المناسب في هذا السياق عرض الاسباب التي ادت الى هذا التمركز الكبير في ملكية وسائل الاعلام. الا ان تأثيره واضح على اي حال، اذ يكفي التأثير في 12 مجلس ادارة للتأثير في اتجاه الضخ الاعلامي لحصة واسعة من الامريكيين. ولا يعني ذلك بالضرورة ان ذلك جعل من الممكن "شراء" التغطية الاعلامية في الولايات المتحدة، او ان هذه التغطية باتت شبيهة بما درجت عليه دول الكتلة الشرقية ايام كانت هناك كتلة بهذا الاسم، ولكنه اثر على نحو تدريجي على هامش الموضوعية الذي طالما احترمته اجهزة الاعلام الامريكية.

وظهر ذلك واضحا عند تغطية الحرب في العراق. فقد وضع وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي لم يعرف بحبه لأجهزة الاعلام الا لو قالت ما يريد لها ان تقول، مجموعة قواعد صارمة تضبط حركة اجهزة الاعلام الامريكية خلال الحرب.

البروفيسور روبرت فلاتزجراف استاذ دراسات الامن الدولي في جامعة تفت قال في تفسير ذلك ان الحرب على العراق شهدت موقفا اكثر تشددا اتخذه البنتاجون ازاء اجهزة الاعلام، وأضاف فلاتزجراف "انها حرب جديدة من حيث ان وزارة الدفاع ستستخدم اسلحة جديدة تجري تجربتها للمرة الاولى".ويقول رامسفيلد ان تقييم هذه الاسلحة ميدانيا يجب ان يكون سراً، ولذلا فانه لن يسمح للاعلام بالتنقل بحرية على نحو قد يكشف عن امور تتماشى مع الامن القومي.وقال توم كنت نائب مدير تحرير اسوشيتدبرس: تعتقد وزارة الدفاع ان وزن الاعلام في حروب هذه المرحلة يدخل في صلب خطط الحرب وفي وقعها على العالم الخارجي والرأي العام هنا في الولايات المتحدة. ولذا فإن الوزارة رأت ان الافضل الحاق الصحفيين بوحدات عسكرية. لقد قالوا انهم يريدون من ذلك الحفاظ على حياة الصحفيين، ولا اشك في صدق هذا، ولكنني اعتقد ان هناك عوامل اضافية.
واجتمع وكيل وزارة الدفاع لشؤون الاعلام توري كلارك مع مندوبي شبكات "فوكس نيوز" و"سي.ان.ان" و"ايه.بي.سي" و"سي.بي.اس" و"ان.بي.سي"، اي كل "الكبار" قبل بدء الحرب وعرض خيارات الوزير. وعلق مدير قطاع الاخبار في "سي.ان.ان" ايزون جوردون على الاجتماع بقوله: رفضنا منطق الوزارة الا ان المفاوضات بيننا لم تتوقف.
وبعد المفاوضات وعقب اتصال مسؤولي الادارة بمديري الشبكات واقناعهم بتبني "موقف وطني" ولو من قبيل الحرص على حياة "اولادنا في الجبهة"، توصل الجانبان الى اتفاق. وقال "المتمرد" جوردون بعد ان هدأ تمرده "المشكلة ان مخاطر هذه الحرب تتجاوز كثيرا مخاطر حرب 1991". هناك احتمال حقيقي باستخدام اسلحة كيماوية وبيولوجية، وسوف يعرض هذا صحفيينا الميدانيين لأخطار هائلة اذا ما كانوا يتجولون بحرية. ثم ان هناك احتمالا بأن يأخذهم العراقيون كرهائن. وكان علينا ان ندرس كيف سيمكننا ان نخرج رجالنا قبل ان نفكر في ارسالهم".
ومن المحتمل - للإنصاف - ان خطر هذه الحرب بالنسبة لصحفيين امريكيين اي يحملون جنسية احد الاطراف المتقاتلة، كان بالفعل خطرا استثنائيا، الا ان ذلك ترافق مع "نظرية رامسفيلد" حول ما ينبغي ان يكون عليه الدور المحدود للاعلام في لحظات مشابهة، ومع دواعي استخدام اسلحة جديدة لا يرغب الامريكيون في كشف النقاب عنها امام "حلفاء" آخرين مثل روسيا وبعض بلدان اوروبا الغربية في صياغة علاقة اوثق مما ينبغي بين الاعلام والبنتاجون.
واشارت تقارير امريكية متواترة الى ان حجم معارضة الحرب ضد العراق قبل بدئها يفوق بـ70 ضعفا حجم معارضة الحرب الفيتنامية قبل بدئها، وقد استدعى ذلك "تحركا سريعا" لضبط ايقاع الرأي العام، عبر ضبط ايقاع اجهزة الاعلام، حتى لا تصل الامور الى ما وصلت اليه في نهاية الستينات ومطلع السبعينات. وما لبث الواقع ان برهن على ان ذلك كان رهانا خاطئا، اذ انه هز ثقة الرأي العام الامريكي في مصداقية اجهزته الاعلامية. فقبل الحرب كان 73% من الامريكيين يقولون ان "اغلب ما ينشر في اجهزة الاعلام حول العراق يتسم بالدقة"، اما بعد عام واحد، اي في مارس الماضي، فقد تراجعت النسبة الى 47%.

لقد فرضت الحقائق نفسها، وأدت تغطيات اجهزة اعلامية اخرى خاصة قنوات فضائية عربية مثل الجزيرة الى نقل صور لما يحدث حقا. والمشكلة في ذلك لم تكن تكمن في هذه الواقعة او تلك، لا في الفلوجة ولا في النجف وانما في وجود نافذة اخرى، اذ ان من شأن ذلك ان يحدث فجوات في تماسك "القصة" - او بالاحرى الصورة العامة - التي ينقلها الاعلام الامريكي، اذ كيف يمكن لهذا الاعلام ان يستمر في بث تصريحات دونالد رامسفيلد بأن الامور "تتحسن بسرعة"، وان يستمر في تجاهل بث صور المدرعات الامريكية المحترقة والقتلى والجرحى من الجنود الامريكيين اذا كانت تلك الصور والمشاهد تجد قناة اخرى تخرج عبرها الى سطح التناول الاعلامي العالمي لاحداث العراق؟
الانتقادات الراهنة - ولو كانت بأثر رجعي - لأداء الاعلام الامريكي خلال الحرب وبعدها قد تنجح في استعادة تاريخ هذا الاعلام الذي تميزه المحاولة الجادة لتحري الحقيقة، وهي محاولة لم تكن ابدا تامة او كاملة، بدليل التغطية المائلة "بصفة دائمة" لمعاناة الشعب الفلسطيني وتضحياته، ولكنها كانت بالتأكيد افضل ما شاهده العالم خلال الحرب العراقية والعام الذي تلاها. وقد نجد خلال فترة قصيرة من الوقت كتبا تتناول تلك الفترة وكيف غطاها الاعلام الامريكي بالنقد الاكاديمي المتزن، وهو امر يعرف الجميع انه بات ضروريا. فقد رسب الاعلام الامريكي - باقتدار - في ذلك الامتحان الصعب.