عادل مالك: النظام العربي يحتاج الى استنساخ عمود فقري جديد
تصحيح الانزلاق الغضروفي للرئيس حسني مبارك عن طريق اخصائي ألماني قد يكون انقذ الموقف ولو بصورة موقتة ومرحلية بالنسبة الى شخص الرئيس المصري، حيث أعقب عودته من ميونيخ صدور التشكيلة الوزارية الجديدة التي طال انتظارها. وقبل الخوض في جدوى التغيير الحكومي وتأثيره الفعال على التخفيف من وطأة الأزمات الحياتية والمعيشية والاقتصادية الخانقة في مصر، يجب ان نتذكر ان الولايات المتحدة عبرت مراراً وتكراراً في السر والعلن انها تعتبر مصر مصدر التغيير والتطوير في المنطقة ونقطته المحورية في تصدير هذا التغيير الى العالم العربي. وهذه واحدة من النظريات التي طرحها بعض خبراء البيت الأبيض من الذين يزعمون خبرة في اسلوب التعاطي مع دول الشرق الأوسط عندما قال في دراسة موثقة له: «لقد كانت مصر أول دولة عربية تعقد اتفاقاً مع اسرائيل قبل ما يزيد على ربع قرن، لذا فإن مصر نفسها يمكن ان تكون أول دولة عربية تطبق الديموقراطية لديها وتعمل على نقلها بالتالي الى سائر دول المنطقة».
والسؤال الذي رافق تشكيل الحكومة المصرية الجديدة: هل هذا التغيير سيكون طليعة تطوير أنظمة الحكم في الحكم؟ أم ان المشاكل التي ترزح تحتها مصر باتت تحتاج الى سياسة المعجزات ومبدأ الإنقاذ الاستثنائي الخارج عن كل إطار تقليدي رتيب؟ وغير المتاح اصلاً؟
والمهم في هذا المجال ان يكون اختيار مبارك لرئيس الوزراء الجديد (أحمد نظيف) اسماً على مسمى لجهة تجريد حملة على الفساد المستشري ووضع حد لكثير من الممارسات الخاطئة التي اصبحت هي القوانين السائدة بحد ذاتها، في حين ان تطبيق القوانين الحقيقية بات هو الاستثناء والذي قليلاً أو نادراً ما يطبق.
وها لا يهم الاستغراق في التصنيفات السياسية كالقول بأن الحكومة الجديدة تكاد تكون حكومة جمال حسني مبارك باعتباره رئيس لجنة السياسات في الحزب الوطني وانه استطاع ان يستقطب العديد من الأسماء الجديدة التي يمكن ان تسهم في احداث تغيير نوعي تحتاج اليه مصر في كل وزارة من وزاراتها. فإذا تمكن «اتجاه» جمال مبارك فرض سياسات اصلاحية معينة تنقذ الوضع القائم من الشللية التي تحكمها فلماذا الاعتراض؟ المهم ان خطورة الأزمات تتخطى الأفراد والأسماء كبيرة كانت أم صغيرة، وحسناً فعل التعديل الوزاري الأخير في الاستغناء عن خدمات بعض الوجوه التي أمضت فترات قياسية في الحكم «بعدما أدوا قسطهم للعلى»!
واذا كان الوضع في مصر استهلالاً للوضع العام العربي يجب القول ان النظام العربي بأجمعه وبكامله يحتاج الى عملية استنساخ سريعة لإيجاد عمود فقري كامل ومتكامل ومرتب الفقرات بشكل منتظم وصحي، والأهم من كل ذلك ان لا يكون مستعملاً من قبل، هذا إذا كنا نريد أملاً حقيقياً بقيام حركة تاريخية فعلية من التغيير والتطوير اللذين يجري الحديث عنهما كثيراً هذه الأيام.
وفي اطار الأولويات على الساحة العربية لا شك في ان العراق ما زال يحتل الأولوية الأولى والمطلقة في هذا السياق.
فما الذي حدث بعد الثامن والعشرين من حزيران (يونيو) الماضي يوم تم نقل السلطة و«السيادة» من الجانب الاميركي الى الجانب العراقي؟ برزت آمال وطموحات كثيرة بأن الحكم الوطني العراقي سيتمكن من النجاح في ضبط الوضع الأمني المتفجر بعض الشيء على الأقل. وكان في قناعة كثير من العراقيين ان تسليم الأمن الوطني للقوات العراقية ستكون له جدوى أمنية افضل بكثير من الفترة التي كانت تتولاها قوات التحالف الاحتلالي على ما يزيد على أربعة عشر شهراً.
لكن الذي حدث وما زال يحدث أصاب بعض التطلعات بالخيبة لأن المواطن العراقي العادي لم تعد تهمه متابعة «السياسات الكبرى» بل من حقه المطالبة بالحفاظ على أمنه وتأمين مستلزماته الحياتية والمعيشية قبل أي اعتبار آخر.
لكن الفريق الجهادي استمر في أدائه نضاله في العراق الأمر الذي يعني بوضوح ان هذا الفريق يستهدف المواطنين العراقيين العاديين الذين سحقوا بين وضعين أحدهما سيئ والآخر أكثر سوءاً: أي بين ممارسات قوات الاحتلال من جهة، والجهاد الظلامي الذي اخترق العراق عبر الحدود وهو ماضٍ في محاربة الأميركيين وكل الجنسيات المتعددة، لا بل وكل العراقيين الذين يتعاونون مع قوات التحالف ومساواتهم في العداء حتى آخر عراقي. وهذا الأمر يكشف عن حال فرز واضح للمواقف، ويشير إلى أن العناصر المخربة مصرة على الاساءة إلى الأمن وتعريض حياة الناس من كل الأجناس إلى الخطر في رسالة مزدوجة الأهداف: إن التخريب ما زال قادراً على القيام بدور مدمّر في العراق من ناحية، وان مواصلة هذا الدور وعدم القضاء عليه واستئصاله يعنيان أن الحكومة العراقية الموقتة غير قادرة على ضبط الوضع. لذلك يمكن القول بكل صراحة ان ما يجري ليس مقاومة، إنما هو عمليات عصيان وقتل جماعي وعشوائي سواء من بقايا فلول النظام السابق الذين يكافحون للإبقاء على بعض المكاسب، بالإضافة إلى الإرهاب العالمي الوافد المحتشد في العراق والذي أتاه عبر مختلف حدود دول الجوار.
وهنا يطرح فصل كبير بعنوان «حساسية العراق من دول الجوار». ومع استعداد الدكتور اياد علاوي القيام بجولة عربية وشيكة يمكن التوقف عند بعض النقاط المتصلة بهذا الموضوع والأهداف والانجازات المتوقعة منها.
gt; الهدف الأول: من يريد خدمة العراق فعلاً فأول عمل يمكن أن يؤديه هو عدم التدخل في شؤونه الداخلية على الاطلاق.
gt; الهدف الثاني: إذا توافرت الغاية النبيلة في الرغبة بالتدخل، يجب أن يكون هذا التدخل من النوع الايجابي، كضبط الحدود مثلاً لمنع تصدير الإرهاب الوافد من شتى الجنسيات عبر هذه الحدود على رغم أن الوقت تأخر كثيراً عن الإقدام على هذه الخطوة، وهي واحدة من أخطاء وآثام بول بريمر.
gt; الهدف الثالث: الإدراك بأن أي ابطاء في عملية إعادة الاستقرار للعراق ينعكس سلباً ليس على العراق فحسب، بل على دول الجوار نفسها.
يضاف إلى كل هذه العوامل الوسائل التي تلجأ إليها العناصر المخربة باختطاف الرهائن لإرغام الدول المشاركة مع القوات المتعددة الجنسية من العراق، بالإضافة إلى اعتماد قطع الرؤوس لبعض الرهائن؟ لممارسة أقصى الضغوط على الدولة التي ينتمي إليها. ومع تقدير بعض الدوافع الإنسانية التي تضطر الدول إلى الرضوخ لضغوط معينة لإنقاذ بعض رعاياها من الموت المحتم، فإن الرضوخ لهذه المطالب المعروضة من جانب الإرهابيين هو عملية خضوع للابتزاز، وتعني توجيه رسالة خاطئة للإرهابيين الوافدين الذين يعملون لمصالح كثيرة ولكن بالتأكيد ليس لمصلحة الشعب العراقي.
ومع جولة اياد علاوي العربية ومعرفة رأيه و«الحساسيات» التي يشعر بها العراقيون من استقدام بعض القوات العربية للعمل ضمن القوات المتعددة الجنسية، وهذا مفهوم لأكثر من سبب وعامل، لكن يصح هنا استخدام تعبير «الجوار مثل الدار»، حتى لا نكرر استعمال القول التقليدي الشائع وهو «الجار قبل الدار» ومن ساواك بنفسه لم يظلمك. ويبدو ان هناك بعض الاختلاف في الآراء داخل القيادة العراقية حول هذا الموضوع: بين فريق غير قادر على التفلت من رواسب المشاعر العربية السابقة التي كانت متعاطفة مع النظام السابق لصدام حسين، وبين فريق آخر يرى ضرورة اطلاق مبادرة تفاهم وتحسين العلاقات مع الجوار مع عدد من الدول الفاعلة والمحيطة جغرافياً بالعراق وهي معروفة من الجميع. ويأمل هذا الفريق أنه في حال تنفيذ هذه المهمة، ولو بحد أدنى من النجاح، أن ينعكس ذلك على مصلحة الاستقرار في العراق، وهذه هي المهمة القصوى في هذه الظروف بالذات.
وفي هذا الاطار يمكن الاشارة الى محادثات «هادفة وجادة» جرت بين العراق وسورية عبر نائب رئيس الوزراء العراقي برهم صالح والرئيس السوري الدكتور بشار الاسد.
وجاءت اهمية هذا اللقاء بين الزيارة التي وصفت بالمهمة التي قام بها الرئيس الاسد الى طهران والاجتماعات والمداولات المكثفة التي عقدها مع الرئيس محمد خاتمي ومع مسؤولين آخرين وعلى ذمة بعض الرواة ان الرئيس الاسد بحكم واقع تحالفه الاستراتيجي مع طهران نصح المسؤولين الايرانيين بعدم التمادي في اسلوب التغاضي عن موضوع عناصر «القاعدة» الذين لجأوا الى ايران منذ فترة من افغانستان وان لهذا الامر الكثير من التداعيات غير الحميدة. ونتجت عن محادثات برهم صالح والرئيس الاسد عدة قرارات تفاهمية عدة عرف منها: اقفال الحدود بين سورية والعراق اقفالاً محكماً والاتفاق على صيغة تعاون لتبادل المعلومات بين الطرفين. ويمكن ان نضيف الى ذلك ان استسلام الملقب بأبي سليمان المكي الذي ظهر في صورة شهيرة مع اسامة بن لادن، الى القيادة السعودية عن طريق السفارة في طهران ليس حدثاً او تطوراً معزولاً عما سبق. على رغم انه حرص على الظهور بمظهر التقوى والافادة من فترة شهر العفو التي طرحها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز والتي اعلنها ولي العهد الامير عبدالله بن عبدالعزيز، بالاضافة الى استسلام ابراهيم الحربي عن طريق السفارة السعودية في دمشق.
ولان امور المنطقة مترابطة شكلاً ومضموناً بشكل وثيق ببعضها البعض، وطالما ان العراق هو المحك الكبير على الصعيدين الاقليمي والدولي لدى الولايات المتحدة فيلاحظ وجود امتدادات لهذا الاختبار الكبير في الاتجاهين الافقي والعمودي، وفي طليعة ذلك العلاقات السورية ـ الاميركية التي يبدو انها تشهد تصعيداً صامتاً حيناً او تحسناً ملفوفاً ببعض «الغموض المدروس والمتعمد» حيناً آخر.
واذا ما تأكدت ملامح التحسن الفعلي في العلاقات الاميركية ـ السورية فسيكون لهذا الانجاز العديد من المكاسب في غير اتجاه. اتجاه التعاون السوري ـ الايراني من جهة، واتجاه التعاون السوري - الاميركي ثنائياً.
ومن بين المنتظرين لمسار ومصير هذا الحوار وهذه العملية الحادة من التجاذبات العديد من الاطراف ومنها لبنان الذي يرصد اي همس سوري قادم من الشام تتضح بالنسبة اليه والى السياسيين فيه صورة شبه واضحة عن الاستحقاق الرئاسي خصوصاً في ظل هذه الضوضاء السياسية المنظمة والمحكومة بحد ادنى من التوافق يمكن بعض الزعماء اللبنانيين من معرفة كلمة السر في هذا الاستحقاق في حين لا يعلمها البعض الآخر حتى الآن.
على ان الامر اليقيني هو ان اي تطور ايجابي على الوضع الأمني في العراق ستكون له انعكاسات ذات اهمية معينة على صعيد العلاقات بين سورية والولايات المتحدة الاميركية.
وعلى رغم كل ما حدث وما يمكن ان يحدث تتذكر دول الجوار العراقي على اختلافها وفي قرارة نفسها ان حدودها ليست مفتوحة على العراق فحسب بل هي على تماس مباشر مع الولايات المتحدة الاميركية.
ويبقى مصير الوضع في العراق هو الاختبار الكبير، حيث الانتصار الاميركي من النوع الصعب لكنه هو المطلوب بأي ثمن، ولان الهزيمة ممنوعة ولها الكثير من المضاعفات العابرة لكل الحدود والخارجة عن كل السيطرة.
التعليقات