مشاري الذايدي
هناك مزاجان يتصارعان الآن على المشهد السياسي في منطقتنا العربية، والتي تقع اسرائيل، جغرافيا، فيها: الاول: هو المزاج الحالم الحاد الخلاصي، والثاني: هو الواقعي التفاوضي المعيشي. من ينتصر منهما سيكتب تاريخ العرب، وربما أغلب المسلمين الى عقود طويلة من السنين.
المزاج الاول يمثله أناس وأحزاب، وربما دول ايضا، والمزاج الآخر كذلك. ولهذه المعركة بين المزاجين مسارح وحلبات متنوعة على طول الارض العربية وعرضها. وهناك حالات تنقل تحدث بين سكان خيمة المزاج الاول الى الخيمة الثانية، والعكس ايضا.
دعونا نحدد اكثر، هذه الايام انعقد لقاء مصالحة وحوار وطني بين بعض القوى العراقية المتنافرة، في القاهرة بمبادرة من الجامعة العربية، ورعاية مصرية، ودعم من الامم المتحدة ومباركة دولية. لقاء شارك فيه الرئيس طالباني ورئيس الحكومة الجعفري وممثلون عن الطرف السني الديني المعارض، هيئة علماء المسلمين، وكان مثنى الضاري، ابن حارث الضاري، صوت الهوية السنية الأكثر حدة ضمن ما يمكن احتماله في السياسة، كان موجودا في هذا اللقاء، وتم الحديث عن اطراف بعثية شاركت، طالباني قال انه سيحاور جميع العراقيين، حتى من انضم منهم للجماعات المسلحة، والبعث بطبيعة الحال منهم. الجعفري، قائد حزب الدعوة الشيعي، رفض ذلك بشدة، طالباني أصر، الضاري انتقد حدة الجعفري، ومضى النقاش والحوار، يهدأ ويتوتر، حتى ان ممثل الاشوريين المسيحيين، كاد ان ينسحب احتجاجا على ما يراه ظلما لطائفته، لولا وساطة وزير الخارجية السعودية سعود الفيصل...
العراقيون يتحاورون، بل ويختصمون في القاهرة، ويبحثون عن قارب يتسع لهم كلهم في لجة هذه الفوضى، وهذا بحد ذاته مؤشر جيد، واجراء سليم، يقع في دائرة الاختلاف المشروع، ما دام ان لغة التعبير عنه سياسية، والمعارضة سلمية، وحتما ستكون هناك صيغة توافقية سيصل اليها الفرقاء، فهذا هو المرسى الاخير الذي ترسو عليه سفينة التفاوض عادة.
وفي النهاية، فإن هذا النمط من الفعالية السياسية، نمط التفاوض والنقاش، ينتمي الى أحد المزاجين اللذين اشرنا اليهما، وهو المزاج الواقعي، لكن انصار وابناء المزاج الثاني، الحالم الحدي، بل والعنيف، عبروا عن موقفهم من خلال الرفض المباشر، وتفضيل اللجوء للقوة لفرض (الحق) الذي لا يمكن ان يتعايش مع باطل السياسة الواقعية، فرفض حزب البعث العراقي المشاركة في مؤتمر القاهرة، وقال ان من حضر بصفته يمثل حزب البعث فهو كاذب، ولا يمثل الا نفسه. وقال قائد القاعدة في العراق، الاردني ابو مصعب الزرقاوي، في رده على دعوة الرئيس العراقي جلال طالباني الى الحوار مع المتمردين، ان: «السيف والدم هما الوسيلة الوحيدة للحوار». وقال بيان منسوب الى تنظيم القاعدة في العراق: «لن يكون بيننا وبينهم الا حوار السيف وبحور الدماء». (القدس العربي، 21 نوفمبر الجاري).
المشكلة ان افق المزاج الحالم مسدود، رغم لانهائية الحلم وتوالد حدوده المحاربة للتثبيت دوما! افق الحالمين السياسيين، بما فوق الواقع، وضد اهل الواقع، دوما ما يكون مغلقا بجدارن الامكانات التي لا تعرف الا لغة القياس والحسبة والوزن، لا تعرف الا الكيل والميزان، فقط.
وربما نجد الزرقاوي الرفضوي الحاد صاحب المزاج الثنائي غير المتعدد ولا التركيبي، ربما نجده يوما ما أكثر الوانا من الابيض والاسود، كما هي الطبيعة... والسياسة ايضا! لكن هل سيكون بمقدروه حينها التخلص من أنهار الدم التي أسالها قبل أن تجرفه وتغمره؟!.
لدينا نماذج ودلائل شاخصة على ان الغلبة في النهاية هي لمعسكر الواقع، ضد معسكر الحالمين الحادين، فهذا هو رمز الجماعات الجهادية في مصر (عبود الزمر)، والذي يقبع في السجون المصرية منذ حوالي ربع قرن، على خلفية اغتيال الرئيس المصري انور السادات، قد نقلت الانباء عنه انه كان والى فترة قريبة من المتحفظين على سلسلة التراجعات (الفقهية)، التي قامت بها الجماعة الاسلامية المصرية من داخل السجن، لكن الزمر بعد ذلك أصدر بيانا، هذه الايام، وفي حمأة الانتخابات المصرية يدعو فيه الى مساندة مرشحي الاخوان المسلمين في الانتخابات النيابية، اي انه سلّم، وبعد اكثر من ربع قرن، بجدوى الوسيلة السياسية (الجاهلية)، حسب تعبير تلميذه او صديقه ايمن الظواهري. اي أنه حط من سماء الاوهام الى اشجار الواقع، بعد رحلة تهويم طويلة في اجواء الاحلام.
وكان عبود الزمر قد اصدر في اغسطس الماضي بيانا دعى فيه الاحزاب المصرية التي قررت مقاطعة الانتخابات الرئاسية، الى العدول عن ذلك و(مراجعة) موقفها من جديد، والمشاركة بإيجابية في الانتخابات. وأضاف الزمر، انه لا بد من ضرورة التزام احزاب المعارضة بالالتفاف حول مرشح واحد، من اجل تحقيق غاية التغيير، اذا تمت الانتخابات مع الشفافية والحيدة من الحكومة، واليقظة من القضاة والمعارضة و(منظمات المجتمع المدني).
لغة جديدة، أليس كذلك؟! تختلف حتما عن لغة كتاب (الفريضة الغائبة) لزميل الزمر، محمد عبد السلام فرج، مفتي مجموعة اغتيال السادات، وتختلف ايضا عن الحاكمية، وإقامة الخلافة الاسلامية، وكفر الدولة الجاهلية، وحتمية الكفر بالطاغوت وبهيئاته السياسية وبرلمانه واعلامه...
من يدري؟! لعلنا نرى ذلك اليوم الذي يتحدث فيه الظواهري، لو استطاع، ولا اظن ذلك، ان يتحدث بمثل ما تحدث به رمزه والرجل الاقدم منه في عالم الجهاد، ويغادر لغة (الحصاد المر)، و(فرسان تحت راية النبي).
حتى الاخوان المسلمين، الجماعة التي تعتبر نفسها قائدة المقاومة الثقافية والحضارية والسياسية للغرب الصليبي، عبر ترويجها لمفاهيم انكفائية ضد الغرب طيلة خمسين عاما، مثل (الغزو الفكري) بدعوى الحفاظ على الهوية، وكانت دوما تعيّر الانظمة السياسية بعمالتها للغرب والنكوص عن هوية الامة... ها هي تخفف من لغة العداء لأمريكا، تخفف ولا تلغي، لأنها لو ألغت هذه اللغة فستلغي نفسها اصلا! ونرى علي صدر الدين البيانوني مراقب الاخوان السوريين يقول، حينما سألوه عن الحوار مع الامريكان من اجل تسويق الرؤية الاخوانية البديلة للنظام السوري المترنح هذه الايام، يقول: «ليس عندنا ضير في اللقاء مع أي جهة، لتوضيح مواقفنا، وبيان رؤيتنا ووجهة نظرنا».
ونرى مرشد الجماعة (الحديدي) مهدي عاكف، يتحدث بلغة زاهدة عن الرئاسة وطموح الاخوان لحكم مصر، مقرّا بسلطة الشعب وكونه هو الحكم (ترى: هل يتفق هذا مع رؤية الاخواني سيد قطب؟!). يقول عاكف في لقاء له مع احدى المجلات المصرية: «أعلن بأعلى صوتي أننا لا نريد أن نحكم، ولكننا نريد أن يحكم الشعب»، لكنه قال في لقاء له مع جريدة (لارازون) الاسبانية في مارس الماضي: «نستطيع حكم مصر»، لكنهم لن يفعلوا الآن.
وتحدث بلغة لينة عن الاقباط، وان الاخوان لن يتعاملوا معهم بفقه أهل الذمة، او يفرضوا عليهم الجزية لو استلموا الحكم وطبقوا مشروعهم الاسلامي (المفقود)، رغم ان نائبه الصقر الاخواني، محمد حبيب، اشتهر بمواقفه المتكررة، التي ردد فيها عدم تخليه عن تطبيق فقه اهل الذمة، بما فيه تحصيل الجزية من الاقباط، وحسبما تذكر الكاتبة الزميلة منى الطحاوي، التي التقت حبيب في مصر فإنه قال إن حكومتهم ستكون مدنية، إلا ان «الحرية ستكون من خلال إطار ديني».
هذه الحرية ذات الإطار الديني، يوضحها المثال التالي من حياة النائب محمد حبيب، فهو في 1987 واثناء تحالف الإخوان مع حزب العمل، للدخول بقوائم مشتركة إلى الانتخابات البرلمانية، رفض أن يأتي تاليا في القائمة لمواطن مسيحي، علما بأن حزب العمل كان قد أصر على وضع جمال أسعد على رأس القائمة في الدائرة الأولى بأسيوط، وعلل حبيب موقفه بأنه لا يجوز أن يأتي مسلم تاليا لمسيحي في قائمة لاختيار منصب من مناصب الولاية العامة. («الشرق الأوسط»، 10 يونيو 2005).
على كل حال، كان هذا استطرادا لا بد منه، للتعرف على حدود الحقيقة والتكتيك في تحولات الخطاب الاخواني، وبالعودة الى صلب الموضوع، وهو الاطلالة على مشهد الصراع بين المزاجين، فها نحن نشاهد ان لغة الواقعية هي التي تكسب، وهي التي تحقق اكثر، خصوصا اذا علمنا ان الاخوان في مصر هم اقرب ما يكونون الآن الى تحقيق هدفهم التاريخي بحكم مصر، لو بقيت رياح التملق الامريكي على هبوبها، واستمرت المعارضة المصرية العلمانية على هزالها, بعدما أخفقوا في تحقيق ذلك مع حلفائهم الضباط الاحرار في ثورة 52.
وها نحن نرى ان هيئة علماء المسلمين في العراق، وحارث الضاري وابنه الصقر الدكتور مثنى، استطاعوا ان يحصلوا على اعتراف صريح من الحكم العراقي الجديد بمشروعية المقاومة، مع إدانة الارهاب بطبيعة الحال.
بلغة الواقع تحصل على شيء من مطالبك، قلّ او كثر، أما بإدامة اللجوء للحل القاطع والجذري، فإنك يمكن ان تكسب كل شيء، يمكن، ولكن وارد جدا ان تخسر كل شيء ايضا... هذا هو الحال لمن تفكّر في المآل..
التعليقات