لقائي وعون لم يغيّر خطّي

تلقيت الرد التالي من الرئيس الدكتور سليم الحص على مقالي الصادر صباح الاحد بعنوان "رأفة بعقول اللبنانيين... ودمائهم"،

وبعد التأمل في الرد، اشكر الرئيس الحص على روح الصداقة التي قال انه يكتب بها، مؤثراً، رغم دعوته المبطنة الى "السجال"، بل تهويله به ("ان شئت متابعة هذا السجال، فأنا على استعداد لذلك، لا بل ارحّب بذلك ففي جعبتي الكثير" كذا)، عدم الخوض في السجال وابقاء ما في الجعبة، والجعبة الاخرى "احتراماً لعقول الناس" المشغولة الآن بأمور حيوية لا نريد المساهمة في إلهائهم عنها.

واما دعوة الرئيس الحص اليّ لأن اجري، انا كذلك، نقداً ذاتياً مثل ما دعوته الى اجرائه... فحسبي الكتابة المستديمة التي هي نقد ذاتي اسبوعي، بل يومي احياناً، منذ انطلاق اللبنانيين في "حروب من اجل آخرين". وفخري انني اكاد اكون الوحيد الذي لم يبدّل موقفه منها ولا مسلكه، والرئيس الحص بذلك اعرف. وكفى.

غ. ت.

و"النهار" تأمل ان يجد الرئيس الحص في نشر رده في اليوم الذي كان مخصصاً لنشر مقالاته الاسبوعية في "النهار" دعوة لاستئنافها.

الاخ الاستاذ غسان تويني المحترم

صدمني مقالك الافتتاحي امس (الاحد) بما حفل به من تحامل وافتراء وتجن عليّّ شخصياً، مع انني كنت دوما اشعر انك ربما تكن لي الاحترام كما تزعم في مقالك تكرارا، ولكنك لم تكن يوما تكن لي شيئا من الود.

وكنت اتفهم موقفك الى ان هاجمتني شخصيا في مقالك امس.

انك يا استاذ غسان تطالبني بنقد الذات عن فترة الانقسام خلال العام 1989 1990. هل فكرت يوما انت في ان تقوم بمثل هذا النقد الذاتي على ادائك في الصحافة والسياسة؟ هذا مع العلم ان "النهار" ما كانت يوما، وخصوصا في السنوات الاخيرة، مجرد وسيلة اعلامية تتوخى الموضوعية والحقيقة المجردة. انها كانت في واقع الحال بمثابة المنبر لسياسات معينة. لقد شعرت بذلك اكثر ما شعرت عندما اطلقت ما يسمى "القوة الثالثة"، تحت عنوان "منبر الوحدة الوطنية". فقد ادى انحيازك السافر الى قرنة شهوان الى تحجيم اخبار "القوة الثالثة" وبياناتها ومواقفها وقذفها في معظم الاوقات الى الصفحات الخلفية من جريدتكم.

هذا من حقك، وما اعترضنا على ذلك يوما. ولكن من حقي انا ايضا، بعد هجومك علي، ان اطالبك بالنقد الذاتي. فقرنة شهوان اولا واخيرا لقاء طائفي في رئاسته وتكوينه وبالتالي في سياساته. وانت كنت في واقع الحال عضوا غير معلن فيها. وقرنة شهوان كانت شريكا اساسيا، مع ما كان يسمى موالاة، في جر البلاد الى أسوأ حال خلال الاشهر الاخيرة، اذ بلغت الانقسامات الطائفية اقصاها، كما لم تبلغ حتى خلال الحرب القذرة، وما زلنا نعيش تداعيات هذا الواقع الاليم. وكانت الانتخابات النيابية التي عصفت بها التجاذبات الطائفية غير المسبوقة، شاهدا ساطعا على ذلك.

هالك اجتماعي مع العماد ميشال عون بعد خمسة عشر عاما من القطيعة، وتساءلت: اما كنا وفرنا على البلاد الكثير لو تم هذا اللقاء قبل سنوات؟ عجبا كيف انك لم تتوقف للحظة واحدة امام مشهد تحالف الاضداد من الذين كانوا على طرفي نقيض في بيروت والجبل خلال الحرب القذرة او خلال مرحلة الازمة الاخيرة، فاذا بهم يعقدون الخناصر في الانتخابات. لماذا يا ترى لم تهاجم هؤلاء كما هاجمتني، ولم تطرح عليهم مثل الاسئلة التي طرحتها علي؟ لماذا لم تفعل مثل ذلك مع الشهيد المغفور له رفيق الحريري عندما قرر التحول عن الخط السوري بعد السير في هذا الخط لسنوات وسنوات، مع العلم ان لقائي والعماد عون كان لقاء بناء ولكنه لم يكن تحالفا ولم يرتب اي انحراف او تحول في خطي السياسي المعهود والمعروف من قريب او بعيد؟

هذا السؤال الكبير الذي تطرحه ببراءة يا استاذ غسان، وهو ليس من البراءة في شيء على ما يتراءى لنا: ما الذي كان يمنعني والعماد عون ان يكتشف واحدنا الآخر فنلتقي من 15 سنة؟ هذا السؤال يحدوني الى سؤالك ايها العارف: ما الذي منع النواب اللبنانيين الذين اجتمعوا في الطائف عام 1989 من ان يجتمعوا في بيروت قبل 15 سنة، اي في عام 1974، للاتفاق على ما توافقوا عليه في الطائف بعد خراب البصرة؟ اما كانوا وفروا على البلاد والعباد كل ما كان من خسائر بشرية ومادية ومعاناة لا حدود لها؟ بالله عليك يا استاذ غسان: اما وقد تحالف المعارضون والموالون في الانتخابات النيابية، وسمي ذلك مبادرات في خدمة الوحدة الوطنية، فماذا كان يمنع هؤلاء من ان يلتقوا قبل بضعة اشهر؟ اما كانوا وفروا على البلاد والعباد كل ما كان من الانقسامات والقلق على المصير طوال الازمة الوطنية الاخيرة؟

انني اعجب لهذا المنطق منك انت بالذات، وانت المعروف باستيعاب دروس التاريخ. بمثل هذا التساؤل الذي تطرح فانك تطعن في منطق التاريخ كله وتتمنى لو لم يكن. بمثل هذا التساؤل كان يمكن تدارك الثورة الفرنسية والثورة البولشفية، وكان يمكن تجاوز الصراع العربي الاسرائيلي وكل ما تخلله من حروب وأزمات وانقلابات. اسأل نفسك يا أستاذ غسان: لماذا لم يسلم العرب سلفا بالكيان الصهيوني ويسلموا بما ستحتله اسرائيل من الاراضي العربية في ما بعد؟ اما كانوا وفّروا الكثير من الشقاء والمعاناة والخسائر، لو فعلوا؟

عجباً كيف أنك تحاول بسؤال ظاهره بريء، اختصار التاريخ، لا بل ابتساره والغاءه؟

ثم تتساءل: لماذا لم نلتق لتدارك الانقسام عام 1989؟ كأن الانقسام نشأ في ذلك العام ولم يكن شيء منه قبل ذلك. لا أخالك تجهل أن الانقسام بين الحكومتين في عام 1989 ما كان سوى امتداد للانقسام الذي كان محتدما لسنوات قبل ذلك. كيف تتجاهل ذلك وتحملنا وحدنا مسؤولية ذلك الواقع؟ ولا بد ان تكون قد قرأت في كتابي عن تلك المرحلة انني حاولت الوقوف دون قرار الهجوم العسكري على بعبدا، داعيا الى سلوك طريق الحل السياسي. وأنت تتهمني ضمنا بالمسؤولية عن ارواح ضحايا تلك المرحلة. هذا منتهى الظلم. فقد كان همّي التخفيف قدر الامكان من غلواء العنف الذي طبع تلك المرحلة. وقد تعرضت للتهديد في حياتي بسبب ذلك. كما تعرضت لمحاولة اغتيال. وأنا كنت ولا أزال أبعد الناس عن العنف.

البلد يعيش اليوم أسوأ حالاته، جراء ما يمارس من شحن طائفي سافر، وما يبذل من مال فاجر في شراء الذمم والضمائر. وانت لا تتجرأ على تسمية المسؤولين عن هذا الواقع بأسمائهم فلم تجد من تهاجم سواي على لقاء كان لي مع العماد عون، ربما لأن هذا اللقاء جاء معاكسا للاجواء الكريهة السائدة، فهل أنت راض عن هذه الاجواء؟

ومنتهى التضليل في زعمك انني دعيت الى مؤتمر الطائف ولم ألب لاسبابي الخاصة التي، بحسب قولك، كانت في غير محلها. كلا يا استاذ غسان. لم أدع الى مؤتمر الطائفن لعل رعاة الطائف آثروا عدم توجيه الدعوة الي لأن وجودي في لبنان على رأس الحكومة كان في نظرهم ضروريا، ايا يكن رأيك. وصدق او لا تصدق، فانا مع ذلك شريك في الطائف. كان اتصالي يوميا مع المشاركين فيه. كما انني والرئيس حسين الحسيني كنا قد وضعنا معا نواة صيغة وفاقية في مستهل العام 1989، تمّ تبني الكثير مما جاء فيها في اتفاق الطائف. وقد شاركنا في صياغة هذا التصور وزير العدل الحالي القاضي خالد قباني.

وتتهمني ايضا بعدم تلبية الدعوة الى مؤتمرات الكويت ولوزان وجنيف. هذا ايضا عار عن الصحة تماما. انني لم اتلق دعوة الى اي من هذه اللقاءات. رويدك.

ثم تلومني أيها الاستاذ الكبير على عدم الحؤول دون صدور قانون الانتخاب عام 2000 باحالة الأمر على المراجع القضائية الدستورية. انت قرأت كتابي عن المرحلة، ويجب ان تعلم أنني طرحت مشروعا بديلا، واعترضت على التقسيمات الانتخابية في قانون العام2000، وطرح الموضوع بعد نقاش طويل في مجلس الوزراء على التصويت وفق نص الدستور فحاز موافقة سائر اعضاء مجلس الوزراء، وقد سجلت اعتراضي.

كما فعل مثل ذلك الوزير عصام نعمان. وادليت بموقفي في حينه الى وسائل الاعلام. لقد رضخت لحكم الدستور، فهل في هذا عيب؟ كان بامكاني الاستقالة، ولكن هذا الاحتمال ما كان واردا عمليا في ذلك الوقت، اذ كنا من جهة نتطلع الى التحرر من الاحتلال الاسرائيلي في وقت قريب، كما كنا في تلك اللحظة امام احتمال استئناف محادثات التسوية على المسار السوري، الامر الذي كان سيفضي الى استئنافها على المسار اللبناني. ولو تنكبت لهذين الاستحقاقين لكان من حقك ان تهاجمني ايضا.

تقول يا أيها الاستاذ الكبير "ان الطريق الى تحول لبنان الى جمهورية فضلى، كما يتصور افلاطون او الفارابي، لا يفترض ان يصبح الحكام ملائكة، ولا المواطنون او الناخبون". لا ايها الاستاذ، ولا الصحافيون.

المعذرة ايها الاستاذ الكبير اذا كان في ردّي شيء من الحدّة، فذلك عائد الى انني لا احتمل المساس بكرامتي. وانت جرحت كرامتي متعمدا او غير متعمد. كانت لي تجارب سياسية مريرة جدا، اذ توليت المسؤولية في احلك الظروف، وازعم انني خرجت منها والحمد لله مرتاح الضمير.

ان شئت متابعة هذا السجال، فأنا على استعداد لذلك، لا بل ارحب بذلك. ففي جعبتي الكثير.

سليم الحص