الإتحاد: الأربعاء: 29 . 06 . 2005

شيء واحد يربط هذه المفاهيم: لا غنى عن أحدها للحصول على تصور متكامل للمشهد السياسي في العراق وفي المنطقة هذه الأيام. حسب الأحداث وتطوراتها في العراق، وحسب التقارير الميدانية من هناك بدأ الشك يأخذ طريقه إلى العلاقات الاجتماعية والسياسية بين العراقيين، خاصة بين السنة والشيعة. من ناحية أخرى بدأت دائرة القلق الأميركي من الحرب في العراق تتسع حتى وصلت أخيرا إلى البنتاغون والقيادة العسكرية الأميركية. أما في العالم العربي فلا زالت ثقافة الهزيمة وسيلة التعبير المهيمنة. الواقع الذي تصدر عنه هذه المواقف واحد: شك يهدد الوحدة الاجتماعية والسياسية في العراق، وقلق يستبد بالأميركيين نتيجة لهذا الواقع الذي يفرض نفسه مع الوقت، وقبل ذلك وبعده شعور عربي بالهزيمة.
واللافت هنا أن ما يحصل للعراقيين والأميركيين يعبر عن تغير في الرؤى والتوجهات حيال الحرب. في البداية، مثلا، كان التبرير وراء الاجتياح الأميركي للعراق هو نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية. تبين أنه لا وجود لهذه الأسلحة, فأصبح المبرر إسقاط نظام الطاغية واستبداله بنظام ديمقراطي يكون نموذجاً للعرب. الآن تكشف أن النظام السياسي الذي يجري التأسيس له في العراق لا يقترب من النموذج الديمقراطي المرتجى. مع تسريح أكثر من نصف مليون عراقي، عسكري ومدني، من أعمالهم، وتصاعد أعمال المقاومة والإرهاب، فضلا عن الدمار الذي تنشره القوات الأميركية في العراق، وما ترافق مع ذلك من فضائح بشعة في أبو غريب، تبين أن الواقع العراقي لم يبتعد فقط عن حكاية الديمقراطية، بل يبتعد عن متطلبات الأمن والاستقرار، الشرط الضروري لإعادة تأسيس النظام السياسي، وإعادة الإعمار.
في موازاة ذلك تراكم القلق الأميركي حتى فرض نفسه على أركان الإدارة، التي وجدت نفسها مجبرة على تغيير طريقة تعاطيها مع الحرب في العراق أمام الشعب الأميركي. التطورات والظروف ذاتها أخذت تفعل فعلها على الواقع الاجتماعي والسياسي داخل العراق, وخاصة بين السنة والشيعة، مما أدى إلى اتساع مساحة الشك وعدم الثقة. يذكر مراسل "الغارديان" البريطانية أنه اطلع على رسالة لأحد العراقيين في البصرة جاءته من عم له يقول فيها، "أحبك كما يحب الأكراد الفيدرالية، وكما يحب الشيعة الحزن على الحسين, وكما يحب السنة الإرهاب". هذا تطور ملحوظ في مجتمع تعود على علاقات بين الطائفتين تصل إلى حد التزاوج المتبادل بينهما. لاشك أن تصاعد أعمال العنف واستمرار تدهور الوضع الأمني ساعد في توتر العلاقات وعمق الشك، الأمر الذي قد يؤثر سلبا على نجاح العملية السياسية، وتحديدا إنجاز صياغة الدستور في موعده، أواخر أكتوبر القادم، ثم إجراء الانتخابات على أساسه.

هذا تطلب قيام رئيس الحكومة المؤقتة، إبراهيم الجعفري، بزيارة كل من واشنطن ولندن. وقد سمع الجعفري في العاصمة الأميركية تحذيرات من أعضاء في الكونجرس من أن تأخر الدستور عن موعده قد يفرض على الأميركيين التفكير في وضع جدول محدد لانسحاب قواتهم. واللافت أن الإعلان عن اتصالات ومفاوضات بين الجماعات المسلحة، ومسؤولين أميركيين وعراقيين تم الإعلان عنه أثناء هذه الزيارة. وهذا يعني أن الزيارة جاءت كجزء من حرب إعلامية لمواجهة تدهور الوضع الأمني داخل العراق.

ما يحصل في العالم العربي في المقابل لا يواكب، ولا يستجيب للأحداث وتطوراتها. ومن ثم فهو لا يعبر عن تغير في الرؤية أو الموقف، بل يعبر عن حالة وليس عن عملية أو سيرورة متحركة مع الأحداث. يتضح ذلك أكثر في الإعلام العربي حيث تبدو "ثقافة الهزيمة" هي الخطاب الأرفع صوتاً. ولعله من الواضح أن ثقافة الهزيمة لا تعبر عن رؤية بقدر ما أنها تعبر عن غياب لهذه الرؤية، أو ربما عن حالة خوف من التبعات السياسية من امتلاك رؤية معينة. المطلوب حسب هذه الثقافة هو التأقلم مع الواقع القائم بأي شكل، وبأي ثمن. تتم المطالبة بذلك باسم "العقلانية". أولى متطلبات العقلانية هو الإدراك والفهم، أو إدراك وفهم الواقع قبل النظر في شرط التأقلم معه، لكن ثقافة الهزيمة لا تطالب بأكثر من التأقلم مع الواقع مهما كان الثمن.

الهزيمة حالة وليست رؤية، وكذلك هي "ثقافة الهزيمة" كأداة للتعبير عنها. لذلك تظل ساكنة تدور في حلقة مفرغة، هي حلقة التأقلم لا غير. تستبعد كل الخيارات، حتى السياسية منها. والهزيمة في الثقافة العربية, ونتيجة لتجارب مريرة، أضحت حالة معترفاً بها. أوضح مؤشر على ذلك هو تبلور خطاب خاص بها، (ثقافة الهزيمة)، وهي ثقافة تعبر عن نفسها فيما يكتبه الكثيرون من المراقبين والمحللين العرب عما يعصف بالمنطقة من أحداث وانكسارات، خاصة في مواضيع مثل الصراع العربي الإسرائيلي، أو الإسلام السياسي، أو الحرب في العراق.

من معالم ثقافة الهزيمة في خطابها عن الحرب في العراق هو اختزال ما يجري في هذا البلد من أعمال عنف ضد القوات الأميركية وضد الحكومة العراقية في شيء واحد هو "الإرهاب". وقد وصل الأمر أن البعض كتب عن مأساة الفلوجة مثلا بأسلوب بدا نفس التشفي يغلب فيه على نفس التحليل. وليس ذلك إلا استجابة لشعور بضرورة التكيف وقبول التفوق العسكري الأميركي. وأن مواجهة قوات الاحتلال الأميركي في هذه الحالة هي ضرب من التهور، والاستسلام لحالة إرهابية مرفوضة. لاشك أن هناك إرهاباً في العراق، خاصة منه الذي يستهدف المدنيين من عراقيين وغيرهم، وهو الإرهاب الذي يمثله الزرقاوي وحلفاؤه. لكن هناك أيضا مقاومة لها مشروعيتها حتى يقوم نظام سياسي يمثل جميع العراقيين بإرادتهم واختيارهم، ويحفظ حقوقهم. ثم إنه غاب عن التحليل أكثر من سؤال: من الذي فجر العنف، بما في ذلك الإرهاب؟ أليس الاحتلال الأميركي؟ والاصطفافات الطائفية؟ وحل مؤسسات الدولة، وتسريح الجيش العراقي؟ ثم بعد ذلك فتح العراق على مصراعيه للشركات الأميركية.

كتاب ثقافة الهزيمة في العالم العربي، وفي هذه الحالة تحديداً، تجاوزوا ليس فقط الإعلام الأميركي، بل وبعض المسؤولين الأميركيين الذين لا يستخدمون مصطلح "الإرهاب" لوصف الجماعات المسلحة التي تمارس العنف، بل يستخدمون مصطلح " المتمردين" Insurgents أو "التمرد" Insurgency. بل إن الإعلام الأميركي، خاصة غير الخاضع لمدرسة المحافظين الجدد، لا يستخدم إلا أوصاف التمرد والمتمردين. والشاهد هنا هو أن ثقافة الهزيمة لا تريد أن تعترف بحق المقاومة كحق مشروع تعترف به كل القوانين القديمة والحديثة، السماوية منها والوضعية، الدولية منها والمحلية. والسبب أنها تعبر عن حالة سياسية يخيم عليها الضعف وانعدام الخيارات، وبالتالي تخشى من وضعها أمام اختبار الخيارات الذي قد يكشف هذا الضعف، ومن ثم يفاقم من تبعاته عليها. الأفضل هو عدم الاصطدام مع الواقع، أو واقع الاحتلال الأميركي للعراق وإفرازاته السياسية والاجتماعية، في داخل العراق وخارجه المباشر. والحقيقة أن الاصطدام مع الأميركيين ليس هو المطلوب، بل ليس هو الخيار الوحيد للتعاطي مع الوضع العراقي. لكن ثقافة الهزيمة ليست خياراً هنا لأنها تفرض الجمود أمام واقع متحرك بشكل سريع.

لاحظ القلق الأميركي، وهو تطور ليس جديد تماما. الآن تجد ثقافة الهزيمة العربية نفسها أمام موقف أميركي لم تنتظره. وهي مواجهة تكشف عن فشل هذه الثقافة وتخلفها حتى عمن تحاول مداراته. القلق الأميركي من تدهور الوضع في العراق وصل نقطة لم يعد من الممكن السكوت عليها. شعبية الرئيس تتراجع بشكل مستمر، والتأييد الشعبي للحرب يتراجع بشكل متواصل أيضا. الكونجرس بدأ يضع سياسة الإدارة تحت النقد والمساءلة عن تدهور الوضع وما يمثله من مخاطر على القوات الأميركية، ويطالب بوضع جدول لانسحاب هذه القوات. ومما فاقم من القلق ليس فقط تزايد العنف والقتل، وتصاعد أعمال المقاومة، بل التناقض بين تصريحات كبار مسؤولي الإدارة. فنائب الرئيس يقول إن التمرد في لحظاته الأخيرة، في حين أن وزير الدفاع يقول إن التمرد في العراق قد يستمر لأكثر من عشر سنوات. أما إبراهيم الجعفري فيرى أن التمرد لن يستمر أكثر من سنتين. هناك تخبط واضح. أحد أسباب ذلك هو المقاومة. ولذلك بدأت الإدارة حملة إعلامية داخل أميركا وصلت ذروتها بخطاب الرئيس يوم أمس. وقبل ذلك بدأت الولايات المتحدة الاتصال بالجماعات المسلحة، مثل الجيش الجهادي، وأنصار السنة، وغيرهم كما يقال. بل إن رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، قال أمام الجعفري "إن المتمردين جزء من العملية السياسية". هذا يعني أن المقاومة نجحت في فرض نفسها كطرف في المعادلة العراقية. ماذا ستقول ثقافة الهزيمة أمام هذه التطورات؟.