الخليج:الخميس: 07 . 07 . 2005


أصدرت مجلة “أبيض وأسود” الدمشقية ملفاً خاصاً حول الأحزاب في سوريا، يعد إنجازاً بمعنى الكلمة، ليس فقط بما ضمه من معلومات جديدة عن الأحزاب السورية، بل لأنه عرّف القراء بأحزاب لم يسبق لمعظمهم أن سمع بها أو عرف بوجودها أو لمس أي تأثير لها في حياته أو بلاده.

وكان أحد المتحدثين في لقاء الجبهة الوطنية التقدمية مع المثقفين، الذي جرى عام ،1979 قد أخبر ممثلي الأحزاب أنه لا يعرف أسماء أحزابهم، ولا يعرف أي شخص منهم، وماذا يمثل أو يفعل، ولا يشعر بوجودهم أو بنشاطهم في الواقع، رغم أنه صحافي ويلاحق الحياة العامة، ويكتب من حين لآخر في السياسة. آنذاك، نظر ممثلو أحزاب الجبهة الحاضرون إلى ما قاله وكأنه دعابة وتجاوزوه في كلماتهم وردودهم، ولم يقف عنده أحد كما لم يفكر أحد في معانيه الخطيرة، التي جعلت شخصاً مهتماً يجهل أسماء أحزاب يفترض أنها تقود بلاده وتشارك في تقرير أمورها الاستراتيجية، وتتربع على قمة قيادتها السياسية ونظامها الاقتصادي الاجتماعي، ويتوقف على نشاطها وعملها معاش الشعب وأمن الوطن.

واليوم، وبعد حوالي ثلاثين عاما، تصدر مجلة “أبيض وأسود” ملفاً واسعاً عن الأحزاب السورية، موالية ومعارضة، دون أن يتوقف أحد عند دور الحزب السياسي في حياتنا، الذي هو قليل الأهمية لسببين:

أن حزب البعث، الذي يضم حوالي مليوني عضو، ويحكم البلاد باسمه، هو حزب سلطة لا يد له غالباً في ما يصدر عن النظام من قرارات ويعتمده من سياسات، وأنه يحتاج إلى حماية أجهزة السلطة الأمنية، التي ملأته باتباعها وعملائها، وأخضعته منذ ثلاثين عاماً ونيف لرقابة شديدة باعتباره خزاناً شعبياً كبيراً ومنظماً، يضم أطيافاً مختلفة من المواطنين يمكن أن يصدر عنها تذمر قد ينقلب، في حال تجاهله أو السماح باستمراره، إلى احتجاج جدي، فيه ما فيه من الخطورة على الأمر القائم، الذي يحكم باسمه وتحت يافطته.

إن بقية الأحزاب هامشية الوجود والدور، لكنها تخضع، إن كانت في الموالاة، لرقابة صارمة، لأنها ليست بعثية تماماً، وإن كانت في المعارضة، لقمع شديد، بذريعة أنها معادية للوطن، الذي يجسده نظام يعد أي معارض له مختلفاً مع وطنه وخارجاً عليه.

ثمة حزب هامشي تابع للسلطة يضم مليوني مواطن اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي. وهناك أحزاب أخرى، معارضة وموالية، هامشية بدورها، بسبب بعدها عن السلطة، أو قلة عدد المنتسبين إليها وانعدام تأثيرها في الحياة العامة وضعف قدرتها على اجتذاب أنصار جدد. في هذا الوضع، من الطبيعي ألا يكون للحزب بذاته وزن في عالم المواطن العادي، ما دام الحزب الكبير يشارك الأحزاب الصغيرة، والحزب الموالي يقاسم الأحزاب المعارضة، ثانوية دوره وخضوعه للسلطة: إيجابياً بصفته حزبها، وسلبياً باعتباره معادياً لها.

يواجه الحزب السياسي السوري مأزقاً حقيقياً يتعلق بوجوده ذاته وبوظيفته، بعد أن فقد السوري العادي ثقته بالحزب الكبير، حزب البعث، ورآه يتحول إلى أداة بيد سلطة استغلت أيديولوجيته وشعاراته وجعلت منه تابعاً لها بلا حول أو قوة، تنطق باسمه أو تنطقه بما تريد. بينما الأحزاب الأخرى عاجزة عن التأثير في الواقع، وعن خدمة المواطن، الذي لا يعرف لماذا يمنحها ثقته ويعلق آماله عليها، ويعرف تماماً أن لدى السلطة من القوة ما يجعلها قادرة على سحقها، لذا، لا يرى المواطن غير السلطة، ويتجه إليها بطلباته وحاجاته، راجياً أن تستجيب لها، لأنه لا يملك غير الرجاء، وفي حالات كثيرة غير التوسل وسيلة لمخاطبتها والتعامل معها، خاصة أنها وحدها صاحبة التنظيمات الأهلية والمنظمات الشعبية، وواهبة الموت والحياة، والغنى والفقر!

قوضت السلطة السورية الحزب السياسي، بما في ذلك حزبها الخاص، حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي صار تكويناً ملحقاً بها يفتقر إلى دور مستقل في حياة البلاد ومواطنيها. وبما أن السلطة ألغت حق المواطن في تقرير أي شأن من شؤونها، فقد احتلت موقعاً يتيح لها التحكم فيه والتدخل في شؤونه ومعرفة كل شيء عنه، دون أن يتمكن هو من التأثير فيها والتدخل في أمورها ومعرفة ما يجري فيها، وهذا ما ربط حياته بطريقة شاملة بها، بينما جعلها مستقلة كلياً عنه، في حين تلاشى دور الحزب، الذي إما أنه لم يفهم في الوقت المناسب، أي في مرحلة مبكرة، نمط السلطة الذي كان ينشأ ويتخلق في البلاد، أو لأنه وعاه وألحق نفسه به جنياً لمغانم يتيحها الالتحاق بها والذوبان في مؤسساتها وأجهزتها وعالمها الغريب العجيب.

أي دور يبقى للحزب في وضع كهذا: يتمحور حول سلطة تتمحور بدورها حول شخص، ترفض أي نشاط سياسي يتم خارجها وتقمعه، كما ترفض مبدأ المواطنة، وتعرف كيف تحول الحزب ومنظمات المجتمع المدني والأهلي إلى توابع لها؟ وأي إصلاح يمكن أن يكون مجدياً في وضع كهذا، إذا لم يبدأ من المشكلة المركزية: مشكلة السلطة، التي يتوقف عليها كل شيء، ولا يصلح أمر إلا بصلاحها؟

حضرت السلطة الشمولية، فغاب المواطن ومات تمثيله السياسي الذي يسمونه: الحزب. في هذه البيئة السياسية، لا يعرف الأول شيئاً عن الثاني، ولا يفعل الثاني شيئاً من أجل الأول، وتغرق سوريا في ضعف سياسي يظهر بين فينة وأخرى في أزماتها الداخلية الخارجية.

هل تسارع سوريا إلى الخروج من ورطتها الراهنة عبر تصحيح علاقة هذه الأطراف بعضها مع بعض: بجعل السلطة اختيار المواطن، والحزب شكل وجوده السياسي في دولة يتجسد فيها المجتمع؟