الشرق الأوسطالجمعة: 08 . 07 . 2005

لندن ليست كباقي المدن، هي عالم في مدينة، وهي اليوم عاصمة الدنيا بحق. تتعايش فيها أديان ومذاهب، وتكايا صوفية وبوذية وكونفوشوسية، ومَنْ آمن على طريقته، من دون تدخل وإيذاء.

قال لي يوماً أحد الإسلاميين القادمين من إيران، من الذين لم يجدوا بطهران، وفي ظل الثورة الإسلامية، ملاذاً ، إنه يشعر بلندن وكأنه في دولة المهدي المنتظر، تلك الدولة الموعودة بخيرها المطلق. بلندن تقول كلمتك صوتاً أو كتابة، وتسمع ما تريد ، فليس على الكلام فيها ضريبة ، علاوة على هذا لك فيها معاش ومسكن بالمجان.

لجأ إلى لندن، هروباً من سياسات دولهم بشر من مختلف المشارب. الإسلاميون، المعتدلون والمتشددون، وجدوا لهم موقع قدم، وتشرطوا أن تكون لهم مساجدهم الخاصة، وجمعياتهم الخيرية وغير الخيرية. والعلمانيون، من القوميين والشيوعيين، وجدوا ضالتهم بلندن. مدينة لا تسأل ضيوفها ولا تضيق بهم بعد ثلاثة أيام، ففيها شيدوا منظماتهم، وأقاموا مقراتهم، بل ولا يمنع الكل من التصريح ضد السياسة البريطانية وهم على بعد أمتار من داون ستريت، حيث مقر حكومة بريطانيا العظمى.

تتواجد بلندن أجيال من المعارضات، الروس المعارضون لثورة أكتوبر الاشتراكية تواجدوا في شارع موسكو، المقام في وسطها منذ ذلك التاريخ. والبولونيون وجدوا أسواقهم ومراكزهم الثقافية، يتوارثنوها من جيل إلى جيل. والمسلمون، سُنَّة وشيعة، وجدوا مساجدهم وحسينياتهم. بل لا يمتنع البريطانيون من تحويل مبنى كانت تشغله كنيسة إلى مسجد. هذه هي لندن، فقيسوا عظمة خسارة الجميع بإيذائها في صباح الخميس الدامي.

تحولت لندن، بفعل اختلاطها إلى واحة دولية للمعرفة، جامعاتها ومعاهدها ومكتباتها. فكم كاتب طمح بنشر كتاب يعارض به دولته اتخذ منها مكان نشر وسوقاً لكتابه، وكم صحيفة عدت من الصحف الصفراء، داخل بلادها الأصلية، اتخذت من لندن منزلاً. فلا يستغرب البريطانيون أن يقرأوا ملصقات تبشر بالخلافة الإسلامية على أعمدتها وحيطانها. ولا يستغرب أهلها إذا قرأوا تصريحاً مزيجاً من الإسلامية والقومية يقول: إذا أصبحت لندن مسلمة يجب أن تكون عربية. فما الذي جعل لندن تحتمل كل الاختلاف، بين رأي صالح وآخر طالح؟ غير ليبراليتها، وشعورها أنها لم تبق ملكاً للإنكليز، بل تحولت بامتياز ومنذ زمن إلى عاصمة لكل الشعوب.

اختلفت لندن عن بلدات أوروبا الأخرى، كل يجد فيها مناخه وطعامه، بداية من الكاريبي وحتى إيران وتركيا، وكل يجد فيها ملبسه، نساء محجبات ومنقبات وسافرات. تعددت أسواقها بتعدد أقوامها، لا تحبس على أحد رغبة أو تحقيق أمنية. وبهذا لا تجد أثراً فيها للتعصب. والأمر لا يرتبط بتعدد شعوبها فحسب، وإنما بخلفية تجربتها الدولية أيضاً، فهي بالأمس عاصمة إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وأينما تحل تنقل تجربتها، وتأخذ من تجارب الآخرين، ففيها رائحة الهند والسند، ومنها طراز عمارة شارع الرشيد ببغداد، واستوعبت المقهى التركي رغم شغف أهلها بباراتها الخاصة. شيدت لعدوها المهاتما غاندي تمثالاً، واستقبلته بحفاوة وهو يفاوضها على الاستقلال. ومجمل القول إنها مدينة لا صلة لها بسياسة دولتها وقوتها البحرية الفكتورية.

هذه هي حقيقة لندن، الحاضرة الدولية، التي تتعايش فيها الحضارات من دون تقاطع وتصادم، كل ينهل من حضارته ومنها. وهنا يأتي السؤال: إلى أي مدى ستغير ضربات لندن من هويتها؟ وماذا سيتغير لو ثبت أن تنظيم القاعدة نفذ تهديداته، التي أُعلن عنها غير مرة؟ ماذا يتغير في البريطانيين تجاه مدينتهم التي تنازلوا عنها لجميع الأمم؟ بالتأكيد ستحضر دروس الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي لم تجن نتائجها غير الشدة ضد كل ما هو عربي ومسلم! وحروب واجتياحات، وتهميش لحق فلسطيني، وتحجيم للديمقراطية، التي تنعم بها العرب المسلمون ببلاد الغرب قبل غيرهم. لكن الضرر الذي سيصيب المسلمين بلندن سيكون أبلغ بكثير، ذلك انطلاقاً من كونها داراً لدور نشر ولمقرات صحف وفضائيات، وتجمعات معارضة عربية عربية. ستحجم حرية التواجد الديني والثقافي والحضاري، وستنتهي حالة الحرية بلا قيود التي امتازت بها لندن من دون عواصم الغرب الأخرى. أرصفة مملوءة بالنشرات الدينية السياسية، وتجمعات إسلامية تعرض الإسلام بكل حرية على أهل لندن وضيوفها من السياح والمقيمين.

تعودت لندن على إرهاب من نوع آخر، نستطيع القول إنه الإرهاب الرحيم، أو العفيف عن الدماء. فكانت معارضتها المسلحة تضع أكياس متفجراتها على باب محطة أنفاق أو دائرة حكومية، ثم تحرص الإبلاغ عنها، فينقذ الموقف وقد حقق غرضه، من إحراج الدولة ودعوتها إلى النظر في سياستها. لكن لندن في الخميس الدامي هي أمام إرهاب من نوع آخر، وهو قصد إرهاب الناس، وتعمد قتلهم. ليس في ضربات الخميس شجاعة بل لا يحتاج الفعل غير نزع الضمير، والتخلي عن الإنسانية. فالذين قتلوا هم من عامة البريطانيين، والسياح والدارسين، والمرضى القادمين من أجل العلاج. أهداف سهلة وفي متناول الجميع. ربما لم تأخذ الشرطة البريطانية التهديدات المتلاحقة بجدية، لأنها اعتادت الوصول في الوقت المناسب، بعد بلاغ مجهول، لتفكيك عبوة ناسفة، أو العثور على حقيبة فارغة. إرهاب يلوح ولا ينفذ.

لا نريد أن نسبق الحدث، ونتحدث عن فعل إسلامي، ولكن علينا أن نحتاط، ونعتاد على لندن أخرى، قد تفتقد فيها صلاة العيدين خارج دائر مسجدها الكبير. وقد تفتقد فيها ظاهرة قيام المحافل الإسلامية، وربما تأثرت زاويتها الحرة في الهايدبارك، وأغلقت بوجه الدعاة. فليس هناك أغلى من الأمن والأمان، ولا لائمة تقع على لندن إذا ضاقت ذعراً بمصلين اتخذوا من حدائقها مساجد، ومن شوارعها أمكنة للتعبير عن صوتهم حتى ضد بريطانيا نفسها. إذا تكرر الخميس الدامي في صباحات لندن ستغادرها الدلافين، ويكثر في طرقاتها العسس الصارمون، يسألون عن الشاردة والواردة. ستغادر لندن سهولة العيش، وتضطرب فيها الحياة، والخاسر الأكبر هم العرب المسلمون، ففي وسطها لهم شوارع وأحياء ومقاه، كانت تحرسها لندن حتى الصباح.