أسرته تنشر رسائله الشخصية بعد تــردد طـــويــل (2 من 3)

أبو إياد يتجنب لقاء عبد الناصر ويذهب للقاء كاسترو في كوبا


القاهرة ــ من عماد سيد أحمد:

بعد 14 عاما من رحيله نشرت أسرة الشهيد الفلسطيني صلاح خلف (أبو اياد) -المقيمة في القاهرة - أخيرا كتابا يضم رسائل أبو اياد الشخصية لزوجته وأبنائه، والتي أزاحت الستار عن الكثير من الأسرار وعن العديد من الجوانب الغامضة في شخصية الرجل الذي أرّق الاسرائيليين لسنوات طويلة، وحاولوا اغتياله بأكثر من 10 عمليات دبرها الموساد الاسرائيلي، لم تنجح سوى آخرها، التي وقعت في 14 يناير عام 1991، في تونس.
وأبو اياد يحتل مكانة بارزة في أدبيات الثورة الفلسطينية وفي الضمير الجمعي الفلسطيني، ليس، فقط، لأنه مؤسس أكبر وأهم جهاز لحماية الثورة الفلسطينية (جهاز أمن الثورة الموحد)، ومن أبرز مؤسسي حركة فتح التي جعلت من القضية الفلسطينية قضية شعب وليست قضية لاجئين، وهو الذي دبر واشرف على تنفيذ الكثير من العمليات الموجعة للعدو الاسرائيلي، مثل عملية ميونخ للألعاب الأوليمبية 1972، والتي سوف نكشف عن جانب من خباياها وأسرارها للمرة الاولى، لكن مكانة وأهمية أبو اياد، الذي دفع حياته ثمنا لقضيته التي لم يساوم عليها يوما، ولم يتخلّ أو يتراجع أبدا عن حلمه في التحرير والعودة الى بلاده ودياره، تتمثل في أنه ضمن العديد من قادة فتح كان يتمتع بما يمكن أن يطلق عليه الواقعية السياسية وكانت فلسفته تقوم على التضحية أو كما يقول الكاتب الفرنسي أريلك لورو في مقدمة مذكرات أبو اياد «فلسطينيين بلا هوية»: ان «تشكيكته» تقوم على القناعة التالية: «كل انسان مستعد للتضحية بحياته، يقدر على اغتيال أي شخص يريد».


بعد الخروج من عمّان أطلق أبو إياد منظمة «أيلول الأسود» التي فتحت جبهة المواجهة مع إسرائيل على اتساع العالم

القاهرة ــ من عماد سيد أحمد: انشغل أبو اياد عن أسرته خلال الفترة من «1967- 1970» أيما انشغال، فلم يكتب الى زوجته وأولاده أي رسائل لشهور متصلة خلال هذه الفترة التي كانت الثورة الفلسطينية تمر خلالها بمنعطف دقيق في مسيرتها منذ أن وقعت هزيمة يونيو 1967 وكانت المرة الأخيرة التي زار فيها أبو اياد منزله واطمأن على أهل بيته في يونيو 1968 أثناء انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الرابع في القاهرة.
في مقدمه صيف 1970، وصلت الى مسامع أبو اياد وهو في عمان، وأثناء انشغاله بتهدئة الأوضاع بين المقاومة الوطنية والجيش الأردني، أن عبد الناصر يعتزم اعلان القبول بـ«مبادرة روجرز» في الاحتفال بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لسقوط الملكية، (26 يوليو 1952) ثم أرسل عبد الناصر عبر الصحافي محمد حسنين هيكل، لأبواياد يلح عليه في المجيء الى القاهرة للمشاركة في الاحتفال, الا أن أبو اياد آثر تلبية الدعوة التي وصلته من الزعيم الكوبي فيدل كاسترو بمناسبة ذكرى الثورة الكوبية لتجنب مواجهة عبد الناصر حينما يعلن عن قبوله اجراء تسوية مصرية- اسرائيلية، هي الأولى من نوعها وهي مرفوضة كل الرفض من جانب المنظمات الفلسطينية، ومن جانب آخر أراد أبو اياد أن يشبع روحه الثورية بزيارة كوبا قبلة المناضلين والثوار، آنذاك، ولقاء قيادات حركات التحرر الوطني بعدما استفاد الى حد كبير من زيارته الأخيرة للصين وفيتنام.
وفي 18 يوليو أعلن وزير الاعلام الأردني، وقتها، عدنان أبوعودة في مؤتمر صحافي بأن اتفاقية أكتوبر (تشرين أول) بين الملك حسين والمقاومة باتت لاغية، وبعد يومين وقعت «الجريمة» (مذبحة ايلول) ولم يعد ممكنا أن يفعل أحد أي شيء لثلاثة آلاف فدائي فلسطيني من القتلى والجرحي والموقوفين أو الهاربين من المجازر التي بدأها الجيش الأردني ضد المقاومة الوطنية الفلسطينية.
بعد معركة عمان لم يكن المسؤول العسكري لحركة فتح «أبو علي اياد» ليتراجع أو يهرب وصمم على الاستمرار في المقاومة، واتجه شمالا مع مجموعة من الفدائيين الى الريف الأردني حول جرش وعجلون- مسرح المجزرة- وبدت مهمته «انتحارية» فالملك حسين أرسل قوات خاصة للقبض على أبو علي أو قتله وكانت الأوامر الصادرة اليهم صارمة ومحددة ولم تكن هناك أي رحمة، ويقول فلسطينيون عاصروا الأحداث: ان الدبابات الأردنية كانت تدهس الجرحى، وكان المشهد مفزعا للغاية حتى أن حوالى سبعين من الفدائيين الفلسطينيين فروا عبر النهر ولوحوا بالقمصان البيضاء مفضلين الاستسلام للاسرائيليين على مواجهة الموت على أيدي قوات الملك حسين.
في 23 يوليو 1971 تناقلت أنباء عن مقتل القائد العسكري، وكان قبل ذلك بأيام قليلة قد أرسل رجلا الى قادة فتح ينتقدهم بشدة لفرارهم وقرارهم بالخروج من عمان، هذا القرار الذي اضطر صلاح خلف الى تنفيذه بناء على موقف القيادة الوطنية المتنفذة ومباحثاتها مع الملك حسين، وهذا ما أقرته أيضاً لجنة الوساطة العربية برئاسة وزير خارجية تونس الباهي الأدغم تلك اللجنة التي تدخلت بناء على قرارات مؤتمر القمة العربية في القاهرة، وأجبرت الفلسطينيين على توقيع هذا الاتفاق ووافقت القيادة الوطنية تحت الضغط العربي رغم معارضة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الخروج من عمان وتسليم سلاح الفدائيين.
أنهى أبو علي رسالته الى القيادة بعبارة حفرت في ذاكرة كل المخلصين والمنتمين للثورة الفلسطينية، وأصبحت صرخة شباب فتح جميعا «نموت واقفين ولا نركع».
وكان أبو اياد قد التقى في أوائل يوليو 1971 رئيس الوزراء الأردني وصفي التل في منزل رجل الأعمال الفلسطيني، منيب المصري وحينما رأى أبو اياد وصفي هاجمه بوابل من الشتائم «يا سفاح، يا قاتل» الا أن وصفي ذلك الداهية، لم ينبس ببنت شفه، وعندما انتهى أبو اياد من هجومه نظر اليه وصفي، وقال: «دعنا نعقد ما اتفقت أنت والملك عليه، وهو اخراج السلاح من عمان»، قال أبو اياد متحمسا: «نعم سنخرج لأننا أناس شرفاء ولا نريد قتل الشعب أو اندلاع حروب أهلية».
نهض هاني الحسن الذي كان حاضرا اللقاء واستأذن أبو اياد في أن يتحدث اليه على انفراد، وقال هاني الحسن لأبو اياد: لماذا تقول هذا الكلام؟ وكيف تخرج من عمان؟ واذا خرجنا فلماذا نخرج الى جرش، اذا خرجنا فلنخرج الى أربد حيث نضع قواتنا، فنتصل بالحدود السورية، وكثير من القوات قد خرج الى سورية -حوالى 5 آلاف مقاتل- فاذا كان لنا خط تموين نستطيع أن ندافع، وأضاف الحسن: يا أبا اياد ماذا يعود علينا من تجميع القوات وعزلها في جرش؟.
كان هاني الحسن عضو مجلس ثوري لحركة فتح، وقتها وأبو اياد عضو لجنة مركزية الا أن أبو اياد كان حريصا أشد الحرص على أن ينقذ الموقف برمته، وكان يرى أنه لايزال في الامكان التسوية بين المقاومة الوطنية الفلسطينية والجيش الأردني، واستمرار الفدائيين في الأردن لاكمال ما بدأوه من نضال ضد الاحتلال الاسرائيلي فطعم النصر والزهو بمعركة الكرامة لايزال حيا في الصدور الثائرة, ورد أبو اياد على هاني الحسن، قائلا: «لقد اتفقنا مع الملك أن يدخل الجيش المخيمات والمعسكرات، صوريا، فيفتش ثم يخرج من عمان، ولذلك أخبرت الشباب أن يخبئوا كثيرا من السلاح».
ما لبثت القوات الفدائية الفلسطينية الخروج من عمان حتى طوق الجيش الأردني جبال جرش، فسقطت عسكريا، أي أن المقاومة خرجت من العاصمة حيث النظام الأردني مضطر أن يحسب ويتراجع لأن قتل المدنيين يثير الرأي العام الا اذا جرى في منطقة جبلية لا يسمع أحد في العالم صدى الصدام بها.
هذه المذبحة علمت الفدائيين أن يمارسوا عنفا ثوريا من نوع جديد:
ولقد عكست رسائل أبو اياد لزوجته في تلك الفترة مدى حزنه وتأثره الشديد لما جرى للفدائيين على يد الملك حسين وقواته التي تعاملت من دون رحمة مع الشباب الفلسطيني، وتحدث في أكثر من رسالة عن الخيانات العربية.
وكان كثيرا ما يردد قول مفتي القدس الحاج أمين الحسيني: «كل الثورات التي تندلع في فلسطين تجُهض في العواصم العربية».
في تلك الفترة كتم أبو اياد أنفاسه وأحزانه، بعد أن قرر الانتقام من الملك حسين ورجاله.
وفي 28 نوفمبر من العام نفسه (1971) أطلق النار على وصفي التل، أمام أحد الفنادق الشهيرة في العاصمة المصرية فأردى قتيلا «أخيرا نفذتها، أشعر برضا، لقد أرقت دم التل»، سمع أحد قتلته «مشير خليفة» وهو يقول ذلك في تحدٍ عند اعتقال السلطات المصرية له، لقد كان خليفة أحد أشبال أبو اياد، وشنت الصحافة المصرية هجوما شديدا على منظمة التحرير الفلسطينية، وفتح موسى صبري النار على القادة الفلسطينيين بعد أن هاجمهم السادات بضراوة وبشكل علني، وذهب وفد من اتحاد المرأة الفلسطينية لزيارة جيهان السادات عبرت فيها عن أسفها من الحوادث الدامية.
ولقد كان لجيهان رأي مخالف للسادات وقالت له: «ألم تكن مثل الشباب الفدائي الفلسطيني في شبابك»، فهدأ السادات، وتغير موقف الصحافة المصرية الى النقيض بل وتوج الأمر أن السادات أعلن قطع العلاقات مع الأردن في أبريل 1972 أثناء انعقاد الدورة العاشرة الاستثنائية للمجلس الوطني الفلسطيني وبناء عليه قدم نائب الرئيس حسين الشافعي استقالته بحجة أن السادات لم يشاوره في الأمر، سمح السادات لأبو اياد يومها أن يزور الشباب الفلسطيني الذين اتهموا في قتل وصفي التل في سجن القلعة، وتنكر أبو اياد في ثياب شيخ كويتي.
عام 1971 كانت الحركة الفدائية الفلسطينية في فوضى تامة فقد شهدت انقسامات داخلية من جانب، وسحقتها اسرائيل على الضفة الغربية، وجيش الملك حسين على الضفة الشرقية من جانب آخر، في هذا العام وحده تم قتل حوالى ألف فدائي، وقد تم اطلاق وحدات الكوماندوز الاسرائيلية على المدنيين، وفرض حظر تجول ممتد، وحدث هدم للمنازل وتعذيب وعمليات اعدام عاجلة، واعتقال جماعي لعائلات رجال وفدائيين مطلوب القبض عليهم، وتدمير المزارع، واعمال الجرافات الثقيلة في المزارع الفلسطينية.
ولما كان الفدائيون في أشد الحاجة الى مأوى آمن فقد تجمع الناجون من كل هذه المعارك في جنوب شرق لبنان ليتم تعقبهم عن طريق الغارات الجوية الاسرائيلية العقابية,,, وبدا أنه لا يوجد «في العالم العربي» من هو مستعد لقبول حركة المقاومة الفلسطينية كقوة سياسية خطيرة,,, ولما جن جنونهم بسبب مقتل رفاقهم، وتم تعقبهم من كل جانب، واثارتهم عن طريق اهتمام الاعلام العربي الذي أعقب عمليات اختطاف الطائرات الأولى، تحول بعض المقاتلين، من مختلف الفصائل الفلسطينية الى العمليات الخارجية- في أوروبا والعالم- ضد الاسرائيليين في عام 1972 فجاءت هذه العمليات تعبيرا عن اليأس وصرخة للفت الأنظار الى قضيتهم والى شعب تعامله غالبية الدول بالغطرسة وكثير من الترفع بما فيها الأنظمة العربية.
شارك أبو اياد بنفسه في عملية ميونيخ، التي اقتحم فيها ثمانية مسلحين فلسطينيين في 5 سبتمبر 1972 جناح الفريق الاسرائيلي المشارك في دورة الالعاب الأوليمبية بميونيخ، وقتلوا اثنين، وأخذوا تسعة كرهائن، وأطلق أبواياد على هذه العملية اسم «كفر برعم» وهي قرية فلسطينية دمرها جيش الدفاع الاسرائيلي، وطالب أبو اياد، من خلال الفدائيين المشاركين في العملية اطلاق سراح مائتين وخمسين فلسطينيا ولبنانيا معتقلين في السجون الاسرائيلية، لكن اسرائيل رفضت التفاوض فكانت المعركة التي خاضها فدائيو الثورة مع البوليس الألماني وكانت نتيجتها قتل تسعة رياضيين اسرائيليين، وخمسة فلسطينيين، واستطاع أبو اياد أن يدخل الى ألمانيا وبصحبته فتاة فلسطينية ساعدته في المهمة وفي حمل السلاح، ومر أبو اياد من المطار الألماني بجواز سفر ديبلوماسي عربي، وبهذه العملية أصبحت السفارات الاسرائيلية والمبعوثون وخطوط الطيران عبر البحار منيعة على الهجوم، وفي تصميم على هزيمة العنف الثوري أصدرت غولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيلي في ذلك الوقت تعليمات لرئيس المخابرات أن يخرج ويقتل بقانون اسرائيلي أقره الكنيست وعلقت صور أبو اياد المختلفة في جميع المطارات الألمانية الا أن أبو اياد استطاع الخروج بجواز سفر ديبلوماسي عربي آخر خلاف الذي دخل به.
وبقانون جولدا مائير بدأت عمليات اغتيال واسعة في صفوف المقاومة الفلسطينية، أغلبها نجح وقليل منها باء بالفشل، وسعت اسرائيل لقتل ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في أكثر من بلد، مثلما جرى لوائل زعيتر في أكتوبر 1972 ممثل المنظمة في روما، والدكتور أبو خليل ممثل المنظمة في الجزائر في نوفمبر من نفس العام، وأيضا محمد الهمشري ممثل المنظمة في باريس، في ديسمبر من العام ذاته وغيرهم.
وبعدها بأربعة أشهر قام فريق من الكوماندوز الاسرائيلي باغتيال كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وكمال ناصر أعضاء اللجنة المركزية لفتح.
وعام 72-1973 حدث تغيير مهم في شكل العنف الثوري نظرا لانضمام فدائيي فتح تحت لواء منظمة «أيلول الأسود» الى وديع حداد وآخرين في عمليات ثورية واسعة النطاق وكان يمكن تمييز اتجاهات ثلاثة مختلفة، فقد أراد بعض هؤلاء الفدائيين قتل الاسرائيليين، وأراد آخرون ممارسة ضغط على الملك حسين لاطلاق سراح ثلاثة آلاف أسير فلسطيني محتجزين في سجونه منذ سبتمبر 1970 ولكي يسمح بعودة رجال المقاومة الى الأردن، وأراد آخرون مهاجمة أهداف أميركية، وخاصة خطوط الطيران وشركات البترول لمعاقبة الولايات المتحدة على دعمها لاسرائيل.
أحدثت جماعة «أيلول الأسود» تأثيرا كبيرا في أبو نضال فقد أعجب بعملياتها ولكنه لم يكن جزءا منها في الواقع فان شبابها الغاضبين قد تجاهلوه ولم يرغبوا في مشاركته في عملياتهم على الرغم من أن العديد من هذه العمليات قد تم التخطيط الفعلي لها وبدؤها في بغداد حيث كان مقيما، بل وربط أبو نضال نفسه بالعراقيين بصورة مطلقة.
في تلك الأثناء، وبعد لقاء لأبو اياد مع الرئيس العراقي أحمد حسن البكر جمع أبو نضال اصطحب الأخير أبو اياد الى منزله وما كان من أبواياد الا أن شن هجوما عنيفا على أبو نضال أمام زوجته، وقال له أبو اياد: لقد سمعت أن لك علاقة خاصة مع سعدون شاكر الذي كان رئيسا للمخابرات العراقية في ذلك الوقت، وثارت ثائرة أبو نضال بهذا الاتهام، ورد على أبو اياد قائلاً: أنا لست عميلا لأحد.
وبعد هذه الزيارة نصح أبو اياد رفاقه في فتح أنه من الافضل لو حاولوا احتواء أبو نضال بدلا من طرده ففي ذلك مخاطرة قد تدفعه أكثر فأكثر الى أحضان العراقيين.