الخميس:05. 01. 2006

الحسن بن طلال

قبل أيام ودّعنا عاماً ميلاديّاً، وبعد أيام نستقبل عاما هجريّاً جديداً. فاسمحوا لي برسالة نابعة من الوجدان إلى الوجدان.

أبدأ رسالتي هذه بكلمات لإدوارد غيبون، صاحب الكتاب الفذ سقوط الإمبراطورية الرومانية:

laquo;في نهاية المطاف، فإنهم كانوا يريدون الأمن أكثر من إرادتهم للحرية. كانوا يريدون حياة مريحة رغيدة. لكنهم فقدوا كل شيء: الأمن، والراحة، والحرية... حين أراد الأثينيون أن يأخذوا من المجتمع لا أن يعطوه، حين أصبحت الحرية التي طالما طمحوا إليها حرية بلا مسؤولية، لم تعد أثينا حرّةraquo;.

نعم! الحرية هي إحدى القيم التنويرية في كل زمان ومكان، إلى جانب العقلانية والتقدم والمساواة الاجتماعية. وهذه في جوهرها مبادئ إنسانية عالمية. والديموقراطية لن تتحقق من دون فهم عميق للحرية: متطلباتها وشروطها وحدودها ومحدداتها. والتعامل مع التحديات - مثل الفقر والبطالة والأمية بأنواعها: الحرفي والرقمي والقانوني، ومثل التطرف والإرهاب، تلك التحديات التي تهدد الأمن والسلام والاستقرار في جميع أرجاء المعمورة - لا يتم إلا بتعميق الديموقراطية وبناء المؤسسات الديموقراطية كي يتم توطيد ثقافة السلام والتنمية.

والديموقراطيات المستدامة والمستقلة لا تعتمد على إجراء انتخابات فقط، وإنما أيضًا على تبني ثقافة تشاركية تؤهل المجتمع للاشتراك في وضع السياسات، بدلاً من إشراكه الصوري في صوغ السياسة.

إن تفعيل المجتمع الأهلي يؤدي إلى زيادة التفاعل بين الجهات الحكومية والمواطنين، ما يساعد على تحقيق ممارسة فعلية للديموقراطية، وتأكيد مفاهيم المواطنة والانتماء والمشاركة، والقضاء على أشكال التهميش ودواعي الفرقة والانفصال.

نحن بحاجة إلى بناء المواطن الفاعل المتسلح بالعقل والعلم. هو المواطن المعتز بهُويته وثقافته، والمدرك في الوقت نفسه للقيم الاجتماعية الثقافية ذات الطبيعة العالميّة. إنه المواطن الحر المسؤول الذي يعي تمامًا واجباته وحقوقه.

إن قضية: laquo;من نحن؟raquo; - وهي سؤال الهوية الأساسي - تبقى على رأسِ الأولويات. ويتلخص مدخل التوافق مع الأوضاع العالمية المتجددة دوماً في ثلاثة أمور: أولها معرفي إنساني يتمثل في ضرورة الاعتراف بالقيم الإنسانية التي لا تتناقض والروح السائدة في ثقافتنا. وثانيها رؤيوي تغييري، يتمثل في الإصغاء للمتغيرات والإرهاصات حولنا. وثالثها تطوير رؤىً لقراءة العالم المعاصر ومتغيراته الثقافية والسياسية، وليست التكنولوجية وحدها.

لا بد من الإقدام من دون خوف، ذلك أن الذات المتجددة هي الذات المنفتحة التي تتشكل باستمرار في تواصل حواري ndash; في تلاقٍ، إن شئتم - مع الآخر.

هنالك صراع دائر منذ عقود حول صورتنا، وحول حاضرنا ومستقبلنا: عرباً ومسلمين. إن لكل حضارة رؤيا لعالمنا. فأين رؤيانا بتفصيلاتها؟ بإشكالياتها وحلولها؟ بنظراتها إلى الكون المترامي؛ إلى طيف الحياة من أقصاه إلى أقصاه، إلى الآخَر؟ إن المشكلة القائمة ليست صراع حضارات، بل صراع laquo;جهالاتraquo;. فعلينا العمل على تحقيق ضرب من توازن المصالح الذي يحد من هيمنة طرف على طرف آخر، ويمهد الطريق أمام حوار ندّيّ بين الثقافات يتعرّف من خلاله كل طرف حقيقة الطرف الآخر.

يقول فولتير: laquo;إن اللإنسانية تمثل أسوأ رذيلةraquo;. فعلى خطابنا الثقافي أن ينهض بدور فاعل في الدفاع عن الإنسانية وتعميق مفهومها، وتحقيق التوازن بين القيم والتقاليد. نحن في أمسِّ الحاجة إلى ديبلوماسية بوجه إنساني، وسياسة من أجل البشر. فقد تحولت حقوق الإنسان في الثقافة المعاصرة إلى مدوّنات ودساتير جامدة لا روح لها ولا طعم ولا رائحة.

التحديات أمامنا تضم: النزاعات في ما بيننا ومع الآخر، الخروقات للنظم القيمية، فقدان التضامن العالمي، حصر التفكير بالمدى القصير، الأمن مقابل الحقوق المدنية، التوزيع غير المناسب للقوى السياسية والاقتصادية، ضعف المجتمع المدني أو حتى غيابه أحياناً، انحسار القيم التقليدية، التحول الديموغرافي، عدم كفاية التربية والتعليم، سوء إدارة الصالح العام، عدم التساوي في فرص استعمال البضائع والمعلومات والتكنولوجيا.

و laquo;نحنraquo; هنا تشير إلى إقليمنا الذي يمتد من مراكش إلى بنغلادش أو من كازبلانكا إلى كلكتا، أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، وأكثرها خطورة وفقراً، مع أنها تحوي سبعين بالمئة (70%) من احتياطيّ النفط في العالم، وأربعين بالمئة (40%) من الغاز الطبيعي. هو الإقليم الذي يتكون من غرب آسيا، والشرق الأوسط/ شمال إفريقيا، ووسط آسيا، وجنوب آسيا. أفلم يحن الأوان لأن نتعامل مع التحديات والاشكاليات في إطار فوق قطري، وفوق إقليمي، بل فوق قاري؟

مثلاً، وفقاً للدراسات الأخيرة التي أجرتها الإسكوا، سيحتاجُ إقليم غرب آسيا إلى خمس وثلاثين (35) مليون فرصة عمل خلال العشر سنوات المقبلة، وإلا ستغرق المنطقة في لجّة من التطرف والعنف وعدم الاستقرار. فكيف يمكن أن نواجه مشكلة كبرى كهذه من دون إطار فوق قطري؟

لا بد من إصلاح شامل: في المجال التربوي والتعليمي، لمواكبة العصر، وفي المجال السياسي، لصون الوجود والمصالح، وفي المجال الثقافي لتصويب علاقتنا بديننا وثقافتنا. وحتى لا نقع في مصيدة laquo;الينبغيّاتraquo; و laquo;اللابديّاتraquo;، أفلم يحن الأوان لسلسلة لا تنقطع من برامج العمل و laquo;خطط الطريقraquo; القابلة للتنفيذ؟

هذه دعوة لصوغ ميثاق شرف، أو مدوّنة حضارية كبرى، تنظم علاقاتنا فيما بيننا، وبيننا وبين الآخر. كما تحثنا على العمل المشترك فوق القطري، حتى لو اختلفنا سياسيّاً وعقائديّاً.

فهل من مجيب؟


منسّق منظمة المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام، رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه، رئيس نادي روما.