وهيب سعيد بن زقـر

يعتبر الوضع الاقتصادي للدول الصناعية الثماني الأكثر وضوحا بين باقي دول العالم التي في إجماليها فقيرة ونامية في تحسين أحوالها المعيشية والتطلع لزوال جهالتها وتطوير معرفياتها، وبعضها تتوافر له إمكانات متواضعة وأخرى أكثر حظا لتوفر دخول كبيرة من خامات طبيعية تتفاوت أهميتها من دولة إلى أخرى في التجارة العالمية، وتؤثر أسعارها والطلب عليها في الدخول النقدية المحققة، وتهافت الدول الصناعية لاحتواء توجهاتها بتقنيات مختزنة وضغوط نافذة، بينما الغالبية العظمى من اقتصاديات دول العالم النامية وأنماطها الاجتماعية وأساليب وآليات إدارة اقتصادها متأثرة بفكر الدول الصناعية وقابلة لفكرهم الاقتصادي في أن العالم أصبح قرية صغيرة تجمعه ترويج الحرية التجارية وانفتاح الأسواق وإزالة القيود وإلغاء الإعانات وتفعيل النشاطات الأكثر مزاحمة على ما دون ذلك، من منظور نفعي تسانده دول ومؤسسات مطالبة وعن طريق مؤسساتها الدولية من صندوق النقد الدولي إلى البنك الدولي بأن نمو الاقتصاديات الفقيرة وغير المكتملة النماء لا بد أن تتبع الطرق والأساليب نفسها التي تسير عليها الدول كاملة النماء ويتطلب من الدول الفقيرة والمحدودة القدرة على إنتاج وتصنيع احتياجاتها أن تقدم التضحيات وتعدل المسارات وتطبق الفكر الغربي الصناعي دون أي اشتراطات لإجراءات تصحيحية مماثلة من جانب الدول الصناعية، لأن كل نشاط اقتصادي اجتماعي قائم في الدول الصناعية لا يمكن تغيره ولا تعديله حيث إنه مرتبط بحضاراتها وموروثها ويوفر الاستقرار الاجتماعي والحياة الأسرية التي يصعب قبول زعزعتها.
واضح أن القوة الفكرية والسلطوية الرأسمالية وتمتع الدول الصناعية بقدرات هائلة في توفير الاحتياجات من البضائع والسلع المصنعة والاستيعاب الكبير للخامات والمنتجات التقليدية، يوفر لها قوة احتكارية مهيمنة على المقدرات التجارية المتبادلة مع باقي دول العالم، ومعطلة لنماء كثير منها، ومؤثرة على انطلاقة البقية القليلة بعرقلتها في فرض اتفاقيات تجارية ثنائية أو ترسيخ توجهات محددة ووقوعها فريسة المبالغة في تغيير الأنماط الاجتماعية نحو زيادة الإنفاق الاستهلاكي والاستثمارات المتدنية الدخل.
تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2005 يشاهد على التباين في المستويات المعيشية والخلل التنموي العالمي واعتراف التقرير في الختام: (أي مستقبل مبني على أسس الفاقة الواسعة النطاق وسط الوفرة، غير فعال اقتصادي، وليس قابلا للاستدامة سياسيا، ومن المتعذر تبريره أخلاقيا) التقرير يُبرر ما توصل إليه من خلاصات مكررة لرؤيته أن خُمس سكان العالم قادرة ومتقبلة إنفاق دولارين على فنجان قهوة وخمس سكان العالم قانعة بالعيش بأقل من دولار واحد في اليوم.
التقرير لا يتعرض إلى تقييم الأضرار التي تنتج من محاربة دول وصحافة ومؤسسات غربية لشركات ومؤسسات من بلادهم لأنها تنقل نشاطاتها من مناطق تكلفتها العمالية مرتفعة، وتعداد المهارات العادية غير متوافرة بأكلاف مزاحمة إلى حيث توافرت أجور متحسنة وأعطتهم أحوالا اجتماعية وصحية متقدمة مقارنة بالأوضاع السائدة في تلك المناطق، وترتب عليها إصدار تشريعات عمالية عالمية مقيدة لحركة انتقال عمالة آسيوية خدمية كثيفة إلى مناطق قريبة جغرافيا واجتماعيا وتتعايش سويا في مجتمعاتها وتُدفع لها أجور أضعاف ما تحصل عليه من بقائها في الفقر الذي هي عليه والبطالة الخطيرة اجتماعيا وسياسيا.
الفقر والبطالة والعوز والجهل أمراض اجتماعية علاجها يتطلب مداراة إنسانية واهتمامات خاصة تؤثر إيجابا في المحتاج وتتفاعل مع احتياجات وقدرات وإمكانات المستفيدين منها. التنظيمات المطلوبة لا تفرق بين إجماليات المستويات العالمية في العمل والمعيشة والنظم المتخصصة المواكبة للأهداف التي توافق الأفراد المعنين وتتوافق مع سيادة الأمم بدلا من أن تأخذ المنظمات العالمية التمكين الكامل والسيادة المطلقة لأساسيات العلاقة الاقتصادية الاجتماعية عالميا لأمور تتعلق بالأفراد والدول بين بعضها بعضا ناهيك، أن كثيرا من المسؤولين العماليين في الدول النامية والفقيرة لا يسيرون على فكر واضح المعالم, منبثق من واقعهم في معالجة المشاكل الاجتماعية الاقتصادية العمالية في بلادهم بدلا من التأثر المطلق بالأفكار والنظريات الكثيرة الغريبة عن مجتمعاتهم وتعاملاتهم ومنطلقة حصرا من دراساتهم في مدارس غربية وشرقية وتعويض النقص في الخبرة بالتعسف في التطبيق والتحوير والتدوير في مقدرات البشرية تغطية لأخطائهم.
التوجه العالمي الواضح المعالم لمتابعة البطالة والفقر تتبناه الأمم المتحدة ويظهر جليا في تقاريرها مدافعة عن برامج الإعانات من الدول الغنية والقادرة إلى الدول الفقيرة والنامية، وتعارضه أخيرا وبكل جلاء سياسة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وتوجهاتها في تسخير قيد التجارة العالمية لخدمة المصالح الإمبريالية تحت فلسفة (صينية) مستوردة في أن تعليم الصيد أهم وأجدى من التغذية بثمارها دون أي مبالاة للعددية البشرية المتساقطة بالوفاة والمرض، طالما أن الوفورات المالية الرأسمالية متوجهة لنشاطات اقتصادية ولاستراتيجية تصنيع مداخيلها المجنية كبيرة لهم وتستنزف فوائض خارجية لدى الغير, وما زاد وفاض يتوجه لتوفير الآليات الفتاكة لانتشار الحروب والاقتتال بين شعوب فقيرة في آسيا وإفريقيا والتطاحن مع أمريكا اللاتينية لما يجعلها متقلبة بين الاستقرار المؤقت والتصادم المتتابع بين الداخل والخارج والنظم المحلية وجيرانها ليكون الرابح الإدارات الإمبريالية في القرن الواحد والعشرين تحت غطاء إعلامي قوي ومعلومات مفصلة لخدمة أغراض ضررها على العالم أكثر من المنفعة الفردية.
يشير التقرير إلى أن (صادرات الموارد المعدنية والطبيعية الأخرى توفر الوسيلة لاستمرار النزاعات العنيفة، فمن كمبوديا إلى أفغانستان وبلدان في غرب إفريقيا، تساعد صادرات الأحجار الكريمة والأخشاب في تمويل النزاعات وإضعاف قدرة الدولة). ويؤكد التقرير الأضرار على البشرية من التباطؤ في مواجهة تجارة الحكومات في الحروب الطائفية والجهالة في استغلالها موضحا أن (القرن العشرين أكثر دموية في تاريخ البشرية فقد عرف الحرب العالمية وشهد الحرب بين الشعوب والمخاوف إبان الحرب الباردة من مجابهة عنيفة بين القوتين العظمتين. غير أن هذه المخاوف تراجعت الآن أمام حروب محلية وإقليمية ولكنها مستمرة في بلدان فقيرة تكون نظم الدولة فيها ضعيفة أو مخففة وبالأسلحة الخفيفة معتبرا أن في العالم الآن نزاعات أقل مما كان في العام 1990، لكن نسبة هذه النزاعات الناشئة في بلدان فقيرة ازدادت عن السابق).
البطالة والفقر والتخلف الإنمائي والتطلع لتحسين الأوضاع الاجتماعية والنهوض بالعلم والبحوث والرقي بالاختراع والتقانة .. إلخ, تمثل احتياجات البلدان النامية ومتوافرة في مهارات شعوب الدول الثماني الصناعية. مقدرات تنظيم وتسيير الترتيبات والنظم والأفكار لإصلاح الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية في الدول النامية ضمن سياق السيادة والمسؤولية الوطنية المطلقة في الظاهر على رمية حجر من الدول النامية وفي الواقع فإن حكره لدولة واحدة قادرة أن تسيس النظريات والأفكار والتوجهات الاقتصادية بعيدا عن مصالح هذه الشعوب ومن زوايا مصالحها (بالمروة) أو من دونها وبالقوة أو المسايرة. الدولة النامية ما زالت إما مسيَّرة وإما مسايرة ربما من دون أن تدري، بالمخططات الغربية (المتلحفة) بالمثل والموروث والتقاليد المرنة في بلادهم، أو متخذة من الفقر والبطالة والجهل طريقا تروج له وتدعو لتقوية النظم الداخلية القائمة ضمن مساندة خارجية لمصلحة (في قلب يعقوب) بما يُحدد نوعية المصلحة الاقتصادية لتوفر النمو للشعوب المحتاجة ويمكن الدول الصناعية في أن تكون مثل تلك (الهرجة) في أنه كلما امتلأت تقول هل من مزيد!!.
دعاوى تحقيق الزيادة والريادة للدول النامية لا تنحصر من باب متابعة الدول الصناعية لتنظيمات وظفتها لإغراضها واستفادت من الفرص الطبيعية في كثير من البلدان النامية ولا تكون قاصرة على جهودها الفردية بل تتخطاها في تسخير أجنحتها وعملائها في إظهار الحق والدفاع عنه عالميا في قوالب من الفكر الذي يراد به باطل وبعيد عن المنطق والحق.
التقرير يعتبر quot;المعونة المقيَّدةquot; بأنها quot;إحدى أفظع الإساءات لمساعدات التنميةquot; معتبرا quot;أن ربط الإمدادات والخدمات من البلد المانح بدلا من السماح للبلدان المتلقية باستخدام السوق المفتوحquot; كما ويسهب التقرير في الإيضاح أن quot;الشراكة الجديدة في المعونات التي أسست خلال مؤتمر مونتيراى تبدو على نحو مريب، وكأنها صيغة منقحة للشراكة القديمة حيث الخلل في التوازن مستمر في المسؤوليات والواجبات. فعلى البلدان المتلقية أن تحدد المواعيد المرتقبة لإنجاز الأهداف الإنمائية، وتفي بمرامي الموازنة التي يراقبها صندوق النقد الدولي كل ثلاثة أشهر، وتتقيد بمجموعة مربكة من شروط الجهات المتبرعة، وتتعامل مع ممارسات المانحين التي ترفع تكلفة الصفقات وتخفض قيمة المعوناتquot;.
الفقرة الأخيرة من المنقول بعاليه تستحق وقفة من المهتمين بالبطالة والفقر والمضايقات الاجتماعية والاختناقات الاقتصادية في الدول النامية والمتخلفة عامة والعربية خاصة التي تعانى من وفرة يحسد بعضهم البعض عليها وفقر كبير ونقص في المعرفية والتقانة والفكر السديد من جهة أخرى، وتقع جميع هذه المناطق تحت (خيمة) الدول الصناعية الثماني وتؤثر في توجهاتها الاجتماعية والاقتصادية بصورة كبيرة وبأفكار وتطلعات مظاهرها حانية وحقيقتها ليست فقط معطلة لدول المنطقة بقدر ما هي محتوية لكل ما يقع في طريقها من تأسيس حق لها لما هو ضائع من الغير. القراءة الغربية للأولويات المنطقة العربية جيدة كما تتحدث عنها أرقام المؤسسات المالية والنقدية القائمة ولمكاسب الغرب الصناعي وليس هنالك إشارة إلى أي ارتباط بالتخلف أو حتى quot;النصف نصquot; ويجعل تقرير التنمية البشرية (دول الخليج العربي في مقدمة البلدان العربية في التنمية البشرية حيث جاءت قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة في المرتبتين 40 و41 على التوالي من 177 التي تطرق لها التقرير والبحرين والكويت في المرتبتين 43 و44 على التوالي ثم ليبيا 58 وسلطنة عمان 71 والسعودية 77 ولبنان 81 وتونس 89 والأردن 90 والأراضي الفلسطينية المحتلة والجزائر 102 و103 وسورية 106 ومصر 119 والمغرب 124 ثم جيبوتى واليمن وموريتانيا).
التقرير يعتبر سجلا نمطيا لجانب مهم من اقتصاديات ومجتمعيات العالم ويوضح بجلاء أن الأموات من الفقر يمكن إنقاذهم بموارد مالية تقل عما ينفقه الباريسيون على العطور والعرب على التسليح والسياحة الغربية وأن إنفاق منطقة الخليج على العمالة الآسيوية يوفر دعما كبيرا تنمويا لاقتصاديات متخلفة وكسبا حلالا لعوائل ومجتمعات فقيرة، وأن يعي مسؤولو اقتصادياتهم أن الاستفادة المنظمة من العمالة الوافدة والمحلية، يمكن ألا ينتج منها ضرر ولا ضرار على اقتصاديات المنطقتين وفاتورة هذه العمالة المنتجة ليست في حقيقة الأمر مدمرة لاقتصاديات المنطقة، وليست بالضرورة المانعة في طريق خفض البطالة الوطنية للمستويات المقبولة.
ومن المحيط إلى الخليج تعتبر تكلفة العمالة الأجنبية اجتماعيا واقتصاديا بعد خصم الأرباح والعوائد المرتبطة بنتائج مجهوداتهم إيجابية، في أحسن الأحوال، وأقل كثير من فاتورة السياحة الخارجية وكمالياتها المستوردة في أسوأ الأحوال. والمنطق أن صاحب الحق يشرع وفقا لما يعود لمصلحته الخاصة والعامة وأن يستفيد في بناء اقتصاده ورفعة مواطنيه من تجارب الأمم خلال نصف قرن مضى في كثير من دول أوروبا والأمريكيتين وآفريقيا وآسيا. الفرق بين التخطيط والتخبيط واضح في وقته لمن يأخذ (الفرش) في الفلكه ويظهر ويبان مجتمعيا تأثيره ونتائجه بعد فوات الأوان. مهم دراسة مقارنة لتاريخ نيجيريا الاقتصادي في معالجة الأمور العمالية بعد انتهاء الاحتلال البريطاني ومرارة المعاناة التي تواجهها زمبابوى وأسباب تكرارها ببشاعة أكثر من الحكم القائم. الدراسة الجامعية الغربية والشهادات العالية الأمريكية هي مجرد أوراق مرور جيدة لا تمنح الطمأنينة ولا توفير الثقة في تحمل المسؤولية وإنجاز المهمة إلى بعد معرفة حقيقتها في نهاية المطاف وسلبيات وإيجابيات المتغيرات.
إن من نعم المولى, عز وجل, ألا يعي الإنسان الأمور ما بطن منها وما خفي، شريطة أن يعي مقدار حاله ويعرف قيمة مكتسباته وحقيقة قدراته وإمكاناته وأن الدوام لله سبحانه وتعالى. البناء المدعوم بالخبرة والمال أسهل بكثير من تحوير وتطوير أوضاع اجتماعية بأهداف اقتصادية غير واضحة ولا يحكمها التزام. نعرف أن الهبة الربانية تفيد لقضاء حوائج آنية ويترتب عليها أضرار لعدم توفر القناعة إن بقاء الحال من المحال، ومستهدفة ولا يعرف إلا الشاطر طريق منفعته ومصلحته في العمل المنتج من الخيرات والخبرات والثروات الداخلية والخارجية مغلفة بالتدريب والمعرفة والتعليم والثقافة الحديثة والاختراع والاستماع.
التقرير يوضح quot;أن العالم متجه إلى كارثة في التنمية البشرية، وأن أثمان هذه الكارثة ستحسب بوفيات يمكن تلافيها، وأطفال خارج المدرسة وفرص ضائعة لتخفيف الفقر ويضيف أن quot;للبلدان والأفراد الغنية والفقيرة أيضا مصلحة في هذه الصورة، فإتاحة الفرص للناس في البلدان الفقيرة كي يعيشوا حياة مديدة وصحية ويؤمنوا لأطفالهم تعليما لائقا، وينجوا من الفاقة، لن تقلل من رخاء الآخرين من الأغنياء والبلدان الغنية، وإنما على النقيض من ذلك ستساعد على بناء ازدهار مشترك وتعزيز الأمن الجماعىquot;. ولا يترك التقرير مجالا للبس ولا نقص في الفهم قوله quot;في عالمنا المترابط يكون أي مستقبل مبني على أسس الفاقة الواسعة النطاق وسط الوفرة، غير فعال اقتصاديا وليس قابلا للاستدامة سياسيا ومن المتعذر استمراره أخلاقياquot; والله أعلم.

تاجر وكاتب اقتصاد