الثلاثاء:17. 01. 2006
خيري منصور
واحدة من أهم المفارقات التي أشار إليها لورنس ماير صاحب كتاب ldquo;الدولة العبرية الآنrdquo;، هي ان أعمال التعمير وكل ما له علاقة بالبناء في الدولة العبرية يعهد به لعمال عرب، فاليهود لا يعملون في هذا الميدان، ولو كان ldquo;مايرrdquo; من مؤرخي الامبراطورية الرومانية لوجد جذراً يبني عليه المفاهيم التي تشكلت لديه عن النسيج العام للدولة العبرية، لكنه اقتصر على المشهد اليهودي الآن، وكما يتجسد في دولة دينية لا تعترف بالآخر ان لم يكن من صلب عقيدتها وعرقها.
نصف المفارقة يتلخص في ان العمال العرب يعمرون مدناً ومستوطنات داخل الدولة العبرية، في الوقت الذي تهدم فيه سلطات الاحتلال بيوتهم في مواقع أخرى.
لكن النصف الآخر للمفارقة، هو في ما يقوله عن وجود رؤساء يهود لورشات البناء والتعمير لأن العامل العربي لا يستطيع ان يستوعب بأن عربياً مثله يترأسه.
للوهلة الأولى يبدو هذا التوصيف قابلاً للفهم، لأن الظاهرة التي يتحدث عنها الكاتب لا تتعلق بالعرب وحدهم، بل هي كونية وتاريخية، خصوصاً في المراحل التي يسود فيها الاغتراب، والوعي الزائف وتفسد فكرة الضحية عن نفسها.
لهذا فإن التوصيف وحده لا يكفي، بل هو أشبه بمبتدأ جملة لا خبر لها، وهناك باحثون وعلماء اجتماع سبقوا السيد ماير الى تحليل هذه الظاهرة في أمكنة عديدة من العالم، ورأوا ان ضحية الاستعمار او الاستبداد تتورط بمرور الزمن بمركبات نفسية شاذة، هي من صياغة المحتل او المستبد، لكن هذا الشذوذ المؤقت والمرتهن لأسباب تاريخية وموضوعية ليس طبيعة ثانية مضادة للطبيعة الأصلية للانسان وإلا ما هي وظيفة التوعية، والتحريض على التحرر ان لم تكن حرباً معلنة على هذا الشذوذ، وعلى هذه الأوضاع الاستثنائية التي يزج البشر تحت سطوتها؟
اليهود يهدمون بيوت الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، والعمال العرب يعمرون ويساقون للبناء داخل الدولة العبرية، الأمر يتجاوز المفارقة ليصبح عنواناً كبيراً لعصر غاشم، يتم فيه التنكيل بالضحية عبر وسائل أخرى غير بتر أعضائها وسلخ جلدها.
وذات يوم، عندما يقرأ القادمون مثل هذه الوقائع في كتب التاريخ، سيدهشهم ما جرى في زمن يزعم سادته بأنهم الأعلم والأعدل، وستبدو القرون الوسطى مظلومة بالمقارنة مع القرون المتأخرة التي أعقبتها إذا احتكم الناس الى القرائن التي يسردها لهم المؤرخون عن هذا الزمن.
ولو كان ماير يعرف تلك الأسطورة ذات الجذر الواقعي عن طائر نقار الخشب لما تردد في استخدامها، وهو يتنقل بين مشهدين متناقضين، أحدهما لبيت عربي يهدم والآخر لبيت يهودي يبنى او يرمم بسواعد العمال العرب.
تقول حكاية طائر نقار الخشب انه يمكث شهوراً وهو يحفر لفراخه عشاً في جذع شجرة عملاقة، وما إن يفرغ من مهمته حتى ينقض على العش وما فيه من البيض او الفراخ طائر جارح كان يتربص به، وينتظره حتى يفرغ من المهمة.
لكن الانسان ليس نقار خشب او نساج خيش فقط، انه ذكاء وإرادة واستبصار لهذا ما من ضحية أبدية، وما من هزيمة كاملة أو نصر بلا حدود.. ولو كان الأمر كذلك لما استمر التاريخ، ولتوقف عند أول انتصار وأول هزيمة وأول عش تم السطو عليه.
إن ما يقوله المؤرخون الأكثر وعياً بحيثيات التاريخ والذين لا يتوقفون عند سرده أفقياً فقط هو أن الاسطورة تتشكل من ممكنات الواقع.. وفي ضوء هذا المفهوم فإن اسطورة المقاومة نبت ريشها العظيم على زغب الواقع، والأيدي التي طلب منها ان تبني بيوت أعدائها انتفضت واستدارت لترمم ما قوض من بيوتها.
التعليقات