أنيس منصور

عبد الوهاب يغني ويقول: ما أحلاها عيشة الفلاح.. نايم مرتاح.. إلى آخر الأغنية. هذا هو الزمن الجميل. اما الآن فلا اعرف أين يوجد هذا الفلاح.. فلا أتعس ولا ألعن من حياة الفلاح ولا أشقى من الريف المصري.. زمان كنا نهرب من المدينة إلى الريف.. أما الآن فالهرب إلى الريف (كالمستجير من الرمضاء بالنار).. عبد الوهاب يقول: الشمس طلعت نامت وصحيت.. وأنا اللي طول الليل سهران..

والشاعر محمود حسن اسماعيل يقول:

مات النهار وهذي الشمس جازعة

عليه في دامي الجلابيب..

اختفى هذا الريف الذي كان يغني له ويتغنى به محمد عبد الوهاب.. فلا الفلاح مرتاح ولا نحن، والأرض لم تعد خضراء و(الخيمة الزرقاء) التي يرددها عبد الوهاب يقصد السماء الزرقاء. لم نعد نرى السماء ولا اللون الأزرق.. وإنما السحب السوداء والتراب والهباب.. وحاجز الصوت أي ضوضاء الميكروفونات طول الليل والنهار.. طبل هنا وبكاء هناك ونصائح ومواعظ لا أول لها ولا آخر ولا معنى.. ولا أحد يجرؤ على أن يقول: laquo;بُمْraquo; لهذه التلوثات من الصوت والصدى والهباب والتراب والسحاب..

اذكر أن استدعاني الرئيس السادات ليلا. وكان الرئيس وحده. ولكن في الطريق إلى استراحة الرئيس في القناطر الخيرية كنت أخوض في كوروس فظيع من نقيق الضفادع وشواظ من نار الميكروفونات. وقلت للرئيس : إنت عايش هنا ازاي يا ريس؟ قال مستنكرا: جرى لك إيه.. إنت ناسي إنني فلاح!

يعني لا فائدة من الكلام ولا أمل في أن يصدر أي تحذير أو تنبيه الناس أن يرحموا من في الأرض فلن يرحمهم من في السماء!

وتمضي الليالي ولا شيء يهدأ ولا شيء يسكت ولا أمل.. وأطارد الشمس من غروبها إلى شروقها بعيون أكثر احمرارا من الغسق والشفق.. ولم أعد أضع يدي على رأسي أتلمس ألما أو صداعا.. فالدنيا كلها هي الألم وهي الصداع وهي اليأس من أي حل أو مخرج أو نية عند أحد. والذي لا يعجبه الريف فليذهب إلى المدينة والذي لا تعجبه المدينة فليذهب إلى المقابر. وشيء غريب. في كل مرة ازور قبر أمي لأقرأ لها الفاتحة.. أجد الهواء الصافي والهدوء الأبدي.. واحسد الموتى على ما هم فيه ولكن احسد (الحانوطي) الذي يعيش حيا سعيدا بين الأموات.. لا عنده ألم ولا دمعة في عين.. فقد اعتاد كالأطباء على أوجاع الناس.

ولم يتنبه الموسيقار محمد عبد الوهاب ومؤلفو أغانيه إلى أن هناك رجلا سعيدا آخر غير الفلاح هو الحانوطي..

والأطباء يقولون إن كل الأطعمة مثل كل الأدوية ضارة .. إذن كلنا نعمل في مهمة واحدة أن ندفن بعضنا البعض!