أحمد العجمي‮

أعتقد أن التعذيب السياسي‮ ‬ركن أساس من أركان دولة الاستبداد والقمع،‮ ‬هذه الدولة التي‮ ‬لايمكن لها أن تقف وتستمر دون ممارسة التعذيب والإسراف فيه،‮ ‬وعلى هذه البؤرة تم بناء جهاز القمع والتجسس،‮ ‬وإذا كانت فكرة بناء الجيش‮ (‬وزارة الدفاع‮) ‬مبررة ضمن قراءة تاريخ الحروب بالحفاظ على الدولة من الأعداء الغرباء أو الطامعين،‮ ‬وكذلك بضرورة توسع رقعة الدولة وبحثها عن مصادر أخرى للثروات عبر الفتوحات والاستعمار،‮ ‬فإن فكرة بناء الجهاز السري‮ ‬وتنور التعذيب‮ (‬وزارة الداخلية‮) ‬قائمة على هاجس خوف الأنظمة الاستبدادية من شعوبها،‮ ‬ومن أي‮ ‬فكرة أو رأي‮ ‬يرى فى النظام القائم نظاماً‮ ‬غير صالح أو لا‮ ‬يتمتع بالأهلية أو الشرعية‮! ‬وبالطبع كلما زاد النظام في‮ ‬فساده وطغيانه وجبروته زاد اعتماده على جهاز الغيبة والنميمة وعلى زبانية القسوة والعذاب،‮ ‬وشرع في‮ ‬الإنفاق بسخاء على هذا الجهاز،‮ ‬ومنحه سلطات‮ ‬غير محددودة للبطش والتنكيل‮! ‬والتاريخ العربي‮ ‬الإسلامي‮ ‬سلسلة متواصلة من أنظمة القمع والبطش،‮ ‬ربما تتفاوت قممها الحادة وبقعها الداكنة في‮ ‬خارطة التعذيب،‮ ‬ولكنها لم تمتلك دفتراً‮ ‬أبيض في‮ ‬رفوف التاريخ‮! ‬وربما‮ ‬يجد أحدنا عبارات أونصوص أو ألواح كلامية تعبر عن التسامح والعدل والمساواة،‮ ‬ولكنه سيفشل في‮ ‬أكثر من محاولة لإعطاء أمثلة على تحقق هذه الألواح‮!‬
جهاز الغيبة والنميمة
‮ ‬إن مهمة أجهزة الجيش في‮ ‬كشف العدو الخارجي‮ ‬والاستعداد له تبدو أسهل في‮ ‬معرفته وفي‮ ‬سبل مواجهته والتعامل معه‮! ‬ولكن‮ ‬يبقى الخوف الذي‮ ‬يغشى المستبد ويرهبه والذي‮ ‬ينبع من الداخل أشدة خطورة وسطوة‮! ‬فالحركات المعارضة التي‮ ‬تنمو من الداخل قادرة على كشف مكامن الضعف والخلل في‮ ‬الدولة وفضحها والدعوة ضدها والتحريض عليها،‮ ‬وقادرة على التسرب من تحت التراب،‮ ‬وتتنامى مع تنامي‮ ‬الفقر والفساد المنظم اللذين‮ ‬يعتبران من خصائص الدولة القمعية‮! ‬وهذا ما‮ ‬يجعل المستبدين‮ ‬يذهبون إلى الاستنجاد بجيش سري‮ ‬مكون من أفراد ذوي‮ ‬خصائص معينة منها‮: ‬
أولاً‮: ‬التحلل من القيم الإنسانية كالرحمة والتسامح وحب الخير‮!‬
ثانياً‮: ‬النزعة الشرهة إلى المصلحة الذاتية دون وازع وبأي‮ ‬وسيلة،‮ ‬حتى على حساب أقرب المقربين إليه‮!‬
ثالثاً‮: ‬القدرة على بناء جلد التمساح حول ذاته في‮ ‬مقاومة المجتمع حيث لا تهمة نظرة المجتمع السلبية والتحقيرية ضده،‮ ‬إذا ما افتضح سرّه‮!‬
رابعاً‮: ‬الاستعداد للكذب والتلفيق والقدرة على ممارسته في‮ ‬سبيل تحقيق أهدافه‮!‬
خامساً‮: ‬ميله إلى الخنوع والتخلي‮ ‬عن الكرامة‮!‬
سادساً‮: ‬امتلاك الخاصية الثعبانية وهي‮ ‬القدرة على الاندساس وسط الناس وحشر ذاته بينهم والتعامل معهم بما‮ ‬يريحهم وبث سمومه بينهم‮!‬
سابعاً‮: ‬التمتع بالمكر والخداع والذكاء الإجرامي‮!‬
ثامناً‮: ‬تمتعه بالكلبية،‮ ‬وهي‮ ‬خاصية تتبع أثر وروائح الأخبار ومصادرها‮!‬
تاسعاً‮: ‬الحربائية وقدرته على التلون حسب المواقف والآراء للتستر وإخفاء الذات‮!‬
وبتطور الاستبداد وأساليبه تطور هذا الجهاز السري‮ ‬وصار‮ ‬يستفيد من الخبرات التاريخية وخبارات الأجهزة المماثلة،‮ ‬ومن الأساليب العلمية المتمثلة في‮ ‬علم النفس وعلم الجريمة والقانون،‮ ‬وعلم الاجتماع،‮ ‬والسياسة،‮ ‬وبنى لنفسه ثقافة ومثقفين قادرين على تجديده وتزويده بكل ماهو مفيد في‮ ‬مجاله،‮ ‬مثقفين قادرين أيضاً‮ ‬على اختراق شبكة المعارضة والحركات السرية بالاندساس في‮ ‬وسطها والتدرج في‮ ‬هرميتها بغرض كشفها وتفكيكها‮!‬
وفي‮ ‬هذا السياق لم‮ ‬يعد‮ ‬يعتمد إداريو ومدربون ومبرمجو هذا الجهاز على التقاط العناصر المناسبة أو التي‮ ‬لها قابلية التجسس فحسب،‮ ‬وإنما العمل على صقلها وتدريبها وتنمية مهارات الخبث الكامنة فيها‮!‬
زبانية جهنم والبقع المظلمة
لايكفي‮ ‬الدولة المستبدة أن‮ ‬يتمكن جهازها السري‮ ‬المنعوت لديها بـ‮ (‬الفئة الصالحة‮) ‬المحبة للوطن،‮ ‬من خلال التفتيش والتقصي‮ ‬والتتبع باليقين أو الظن بالأثم،‮ ‬بالكشف عن‮ (‬الفئة الضالة‮)‬،‮ ‬مثلما‮ ‬يتردد هذا المصطلح دائماً‮ ‬في‮ ‬أدبيات ومقولات القمع والقامعين لوصف المعارضين والمنادين بالحق والعدالة والديمقراطية‮! ‬باعتبارها الفئة الخارجة على الجماعة وطاعة أولي‮ ‬الأمر والولاة،‮ ‬الفئة التي‮ ‬تتهم دائماً‮ ‬بعدم حبها للوطن‮! ‬فلابد من تأديبها وهدايتها ومحاسبتها على ما اقترفته من ذنوب كبيرة بحق الآلهة الأرضيين‮! ‬ومثلما‮ ‬يفعل الخالق في‮ ‬يوم الحساب بتعذيب من كفر،‮ ‬فإنهم هم أيضاً‮ ‬ظلُّ‮ ‬اللهِ‮ ‬لابد أن‮ ‬يشاكلوا أفعال الخالق‮! ‬فلم‮ ‬ينسوا أن‮ ‬يعدوا تنورهم وسعيرهم،‮ ‬موظفين مخيلتهم،‮ ‬ومستفيدين من ثقافة العقاب التي‮ ‬ينادي‮ ‬بها ويشرحها جمهور المتوهمين بمعرفة الغيب وعذاب القبور،‮ ‬وما تبثه قراطيس التخويف،‮ ‬ومن التراث الزاخر بفنون التعذيب التي‮ ‬تركها الأسلاف،‮ ‬أمثال‮: ‬الحجاج بن‮ ‬يوسف الثقفي‮ ‬الذي‮ ‬مات عن عشرة آلاف سجين من الرجال والنساء،‮ ‬وخالد القسري‮ ‬الذي‮ ‬أمر بإحراق المغيرة بن سعيد العجلي‮ ‬حياً،‮ ‬والمعتضد بالله الذي‮ ‬أمر بسلخ جلد محمد بن عبادة قائد الخوارج بعد أسره،‮ ‬وبشي‮ ‬محمد بن الحسن أحد قادة الزنج على نار هادئة‮! ‬وهشام بن عبد الملك الذي‮ ‬أمر بقلع أظفار وأضراس عمارة الكلبي‮! ‬وهناك أمثلة وتجارب متنوعة في‮ ‬التراث العربي‮ ‬والإنساني،‮ ‬قد وظفها وطورها زبانية جهنم،‮ ‬كما أن ثقافة التعذيب ابتكرت وسائل وأدوات جديدة وتتماشى مع العصر ومستثمرة التكنولوجيا،‮ ‬حيث تم الحرق بالأحماض،‮ ‬وبالمكواة والسيجار،‮ ‬وباستخدام الكهرباء عالية الجهد‮. ‬ومن استضافته السجون العربية والصهيونية‮! ‬والمعتقلات الأمريكية المنتشرة كبقع مظلمة على خارطة الكوكب سيكتشف فظاعات الموكلين بإضرام جهنم من جلود البشر‮!‬
‮ ‬ومن خلال ثقافة وتنور التعذيب ماذا لو أعدنا التفكير في‮ ‬مقولة الديمقراطية التي‮ ‬تشرحها سجون أبو‮ ‬غريب وغونتنامو‮!‬

‭*‬‮ ‬كاتب بحريني