الخميس:26. 01. 2006
د. خالد الدخيل
شكلت أزمة الحكم في الكويت التي انفجرت بعد وفاة الأمير جابر الأحمد رحمه الله، وانتهت الثلاثاء الماضي بتنحية الشيخ سعد العبدالله بسبب ظروفه الصحية، ووفقاً لمقتضيات الدستور، منعطفاً مهماً في تاريخ الكويتmiddot; هي كذلك لأنها أولاً كانت أزمة دستورية، واعترف بها على أنها كذلك، وتم التعامل معها على هذا الأساس وفي العلنmiddot; والأهم من ذلك، أو ثانياً، أن الأزمة أرغمت مجلس الأمة (وهذا ما قاله أعضاؤه) على أن يكون طرفاً في العملية السياسية لتنحية الشيخ سعدmiddot; حقيقة أن المجلس أرغم على المشاركة في عملية سياسية بأهمية وخطورة تنحية رئيس الدولة، ولم يعتبر الأزمة فرصة له لفرض مشاركته كمكسب سياسي ساقته له الأزمة يعكس الطبيعة العائلية للمجتمع السياسي للكويتmiddot; ربما قيل إنه بسبب ذلك لم يتجاوز دور المجلس مستوى المصادقة على ما اختارته أغلبية الأسرة الحاكمة لحسم الأزمة، وهو تفعيل المادة الثالثة من قانون توارث الإمارةmiddot; لكن يبقى أن خيار الأسرة لم يكن له أن يمر في هذه الأزمة، أو أن يكتسب شرعيته إلا بموافقة مجلس الأمةmiddot;
في هذا الإطار، وعلى مدى الأيام الأربعة الماضية كان المشهد السياسي في الكويت ينبض بالحركة، والمفاوضات، وتبادل الخيارات، وتداول المخارج، والتنازلات الممكنة لإنهاء الأزمةmiddot; ورغم أن كل التوقعات تقريباً كانت تتنبأ بنتيجة واحدة، تنازل أو تنحية الشيخ سعد لإفساح المجال أمام إمارة الشيخ صباح الأحمد، إلا أن المشهد ظل ينبض بالحيوية، وانطوى على شيء من مفاجأة اللحظة الأخيرةmiddot; قد يبدو أن المشهد لم يتمخض في الأخير عن مفاجأة حقيقيةmiddot; لكن يوم الثلاثاء الماضي شهد ولادة إمارة الشيخ صباح الأحمد داخل مجلس الأمة، وبطريقة لم تعرفها الأسرة الحاكمة من قبلmiddot; الجديد، وليس بالضرورة المفاجأة، أن بداية إمارة الشيخ صباح تزامنت مع بداية بروز القوة السياسية لمجلس الأمةmiddot; والسؤال هنا: هل إن هذا التطور يمثل حالة استثنائية، فرضتها ظروف استثنائية، وبالتالي قد لا تكون خطوة يمكن البناء عليها؟ أم أن ما حدث كان بالفعل تحولا سياسيا له مستتبعاته، وسابقة فرضت نفسها، وسوف تفرض ما سيأتي بعدها في قادم الأيام؟
أبرز لقطتين في المشهد السياسي الذي أسدل الستار عليه يوم الثلاثاء الماضي كان تسابق طرفي الأزمة (الشيخ سعد والشيخ صباح) على مجلس الأمة، ثم بعد ذلك وصول رسالة التنحي من الشيخ سعد إلى المجلس بعد أن انتهى بدقائق من التصويت بالإجماع على تنحيتهmiddot; اللقطة الأولى عكست القوة السياسية الجديدة التي اكتسبها المجلس نتيجة للأزمةmiddot; وما تجب ملاحظته هنا هو أن أزمة الحكم لم تبدأ في الواقع بعد وفاة الشيخ جابر، وإنما بدأت في شهر رمضان الماضي، أو قبل الوفاة بثلاثة أشهر على الأقلmiddot; والأرجح أن هذا أحد العوامل التي جعلت مجلس الأمة يميل منذ البداية إلى فكرة تفعيل المادتين الثالثة والرابعة من قانون توارث الإمارة، أو انتقال صلاحيات الأمير سعد العبدالله بصفة نهائيةmiddot; كان هدف كل الأطراف تقريباً، بما فيها المجلس، تفادي تكرار الأزمة الدستورية التي امتدت في الكويت لسنوات، ثم انفجرت بعد وفاة الشيخ جابر الأحمد الأسبوع الماضيmiddot; لكن السير في هذا الطريق تطلب دعماً سياسياً قوياً، وهو ما وفرته القوة السياسية لفرع آل جابر من الأســـــرة التي برزت فــــــي السنــوات الأخيــــرةmiddot;
في السياق نفسه، هناك سبب آخر وراء موقف المجلس، وهو أن انتقال صلاحيات الأمير إلى الشيخ صباح الأحمد يدعم قوته السياسية كأحد سلطات الدولة من حيث إنه يمثل تغييراً في الواقع السياسي القائم في هذا الاتجاهmiddot; الخيار الآخر، أو الاستمرار في تزكية إمارة الشيخ سعد، يعني تكريس الواقع السياسي الذي كان قائماً من قبل، وبسببه نشأت أزمة الحكم، ولا يمثل مكسباً سياسياً للمجلسmiddot; من ناحية أخرى، هناك عامل سياسي آخر، أن التنافس بين فرعي الأسرة الحاكمة ( آل سالم وآل جابر)، فرض بدوره أن أي خيار غير إمارة الشيخ سعد لابد أن يأتي من خلال مجلس الأمةmiddot; وهذا ما حدث بالفعل، ويعتبر سابقة تاريخية ليس فقط بالنسبة للكويت، بل للمنطقة العربية، وبشكل خاص دول الخليج العربي التي تشترك مع الكويت في أن الحكم فيها يقوم في أساسه على حكم العائلةmiddot; بعبارة أخرى، ما حدث في الكويت أن مجلس الأمة، شارك ولأول مرة في العملية السياسية المتعلقة مباشرة بمسألة الحكم، تنحية أمير وتمهيد الطريق أمام أمير آخرmiddot; وبذلك اكتسب قوة سياسية لم يكن يتمتع بها من قبلmiddot; وبما أن مجلس الأمة، يمثل الشعب فإن ما حصل هو مكسب للكويت كلها، بما في ذلك العائلة الحاكمةmiddot; وليس أدل على ذلك من أن المجلس عمل حتى اللحظة الأخيرة على أن يأتي حل أزمة الحكم من داخل العائلة الحاكمة، وليس من خلال الإجراءات الدستورية للمجلسmiddot; الأمر الذي يؤكد أن الشراكة السياسية بين المؤسستين، عائلة الحكم والمجلس هنا، لا تعني بالضرورة الافتئات على الحق السياسي لأي طرف دون الآخرmiddot; بل تعني تكريس شرعية الحكم، وتكريس وتجديد أسس الاستقرار التي يستند إليهاmiddot;
ما حصل في الكويت يوم الثلاثاء الماضي كان سابقة ديمقراطيةmiddot; وهي كذلك انطلاقاً من حقيقة أن الممارسة الديمقراطية في الكويت لم تكن حتى ذلك اليوم تتجاوز عملية الانتخابات لمجلس الأمة، والعملية التشريعية داخل المجلس في غير مسألة الحكمmiddot; وهي في كل ذلك، كانت تعتمد بشكل أساسي على الدور المركزي للأسرة الحاكمةmiddot; حتى يوم الثلاثاء الماضي بقي مبدأ الديمقراطية لا يستظل فقط بالدستور، بل بقدرة الأسرة الحاكمة على الإجماع في تسمية الأمير وولي العهد، ورئيس مجلس الوزراءmiddot; واقتصر دور مجلس الأمة دائما على المصادقة على اختيارات الأسرة لهذه المناصب المفصلية في الدولةmiddot;
هناك عوامل كثيرة وراء هذه الصيغة السياسية وموقع المجلس فيها: عوامل اجتماعية تتعلق بالطبيعة العائلية للمجتمع الكويتي وموقع الأسرة الحاكمة فيه، وتاريخية مرتبطة بالطريقة التي نشأت بها الدولة وتشكلت العلاقة بين النخب فيها، وسياسية تعكس توازنات القوة السياسية داخل المجتمع حالياmiddot; كل هذه عوامل لا يمكن تناولها هناmiddot; لكنها مجتمعة تشير إلى مركزية القوة السياسية للأسرة الحاكمة وثقلها في مقابل مجلس الأمةmiddot; هذا مع ملاحظة أن دور مجلس الأمة في هذه الصيغة لم يكن شكلياً، ومر بمراحل وتطورات عدةmiddot; والتوصيف الأقرب إلى الدقة، هو أن دور مجلس الأمة كان دائما دور الشريك، لكن الشريك غير المتساوي في قوته السياسية مع الأسرة الحاكمةmiddot; وهذا أمر طبيعي ومتوقع بحكم الطبيعة السياسية والاجتماعية للمجتمع الكويتيmiddot; بل إنه في ذلك كان متقدما بأكثر من خطوة على بقية دول الخليج التي تشترك مع الكويت في الكثير من السمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسيةmiddot;
لم يحصل قبل أزمة الحكم الأخيرة أن تعرضت العلاقة السياسية بين الأسرة الحاكمة ومجلس الأمة لحالة اختبار كما حصل في هذه المرةmiddot; ولعله بسبب هذه السابقة أن أعضاء المجلس شعروا بالحرج إزاء التطورات التي فرضتها أزمة الحكم على المشهد السياسيmiddot; اتضح ذلك في مواقف الكثير من أعضاء المجلس أثناء الأزمةmiddot; كانت هناك مثلا مناشدات متكررة، وصادقة من قبل رئيس وأعضاء المجلس لحكماء الأسرة لإيجاد مخرج من داخل الأسرة، بدلا من اللجوء إلى الإجراءات الدستورية للمجلسmiddot; وأثناء قراءة التقرير الطبي في جلسة تنحية الأمير ساد جو من الوجوم والرهبة في قاعة المجلس، وبكى عدد من الأعضاء، ودمعت عيون آخرينmiddot; مما يؤكد احتفاظ العامل الاجتماعي بأهميته في معمعة الأزمة، بل وحتى في مقابل الدستور، وهو المرجعية القانونية العليا للدولةmiddot;
أزمة الحكم الحالية، أزاحت، أو قللت من أهمية هذا العامل الاجتماعي، وأضافت إلى أهمية ومركزية الدستور، وبالتالي إلى دور مجلس الأمة في أخطر موضوع، وهو تنحية وتعيين رئيس الدولةmiddot; لأول مرة في تاريخ الكويت تتحقق لمجلس الأمة إمكانية أن يكون طرفاً مهماً في هذه العملية السياسيةmiddot; كانت الأزمة بالفعل اختبارا تعامل معه النظام السياسي بنجاح من حيث محافظته على إبقاء الأزمة ضمن حدود مرجعية الدستور، وإبقاء خيار اللجوء للبرلمان قائماً للفصل فيهاmiddot; وهذا بحد ذاته حدث سياسي مهمmiddot;
ويبقى السؤال: هل كان ذلك حدثا استثنائيا غير قابل للتكرار؟ أم أنه نقلة في سياق تطور النظام السياسي في الكويت؟ في ظني أن ما حدث كان نقلة سياسية، وهو ما يتمناه الجميعmiddot;
التعليقات