الجمعة: 2006.10.13


محمد الصياد

في صيف عام 1979 عبر الجيش الأحمر السوفييتي الحدود الى افغانستان المجاورة ليطيح نظام حكم محمد داود الذي كان انقلب على صهره الملك ظاهر شاه، وأقام نظاماً سياسياً مستقراً نسبياً، يومها كان الخبر الذي نقلته الإذاعة والتلفزيون ووكالة أنباء تاس السوفييتية، ان مفرزة محدودة من الجيش السوفييتي عبرت الحدود الأفغانية لدرء مؤامرة أمريكية كان يدبر لها في الخفاء لتحويل أفغانستان الى قاعدة تكون بمثابة خنجر في الخاصرة السوفييتية من جهة الجنوب الشرقي. أما في الواقع فإن مئات الآلاف من الجنود السوفييت قد غمروا الأراضي الافغانية وأقاموا نظاماً موالياً لموسكو في كابول.

وهكذا فقد وقع ما ظلت الولايات المتحدة تتمناه منذ هزيمتها وخروجها المذلين من فيتنام في عام ،1975 وهو ايقاع خصمها التاريخي: الاتحاد السوفييتي، في مستنقع شبيه بالمستنقع الفيتنامي والعمل على رد الدين اليه والانتقام منه. فكان تحالف أمريكا مع الإسلام السياسي وترتيبها لأكبر عملية تحشيد وتنظيم للمقاتلين الإسلاميين وتجهيزهم بالأسلحة والعتاد والتدريب، قبل إلقائهم في جبهة القتال لمقاتلة القوات السوفييتية وإدمائها وتمريغ هيبة الجيش الأحمر في التراب ودحره. وهكذا كان.

بيد أن القوى التي تسابقت على الانخراط في ldquo;الجهاد الافغانيrdquo; كانت من الكثرة بحيث انها سرعان ما انقض بعضها على بعض في حروب امتدت لسنوات من دون أن يقيض لإحداها السيطرة على كابول وحكم البلاد. فكان الرهان الباكستاني والإقليمي والأمريكي (المتواري) على حركة طالبان التي سيطرت في غضون فترة زمنية قياسية على كامل التراب الافغاني في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي.

وكانت تلك بداية ظهور ارهاصات الدولة الشمولية الحاكمة باسم الإسلام السلفي، الواضعة مجتمعها بأكمله أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الخضوع التام لنمط حياة قروسطية وإما مواجهة حزمة عقوباتها اللاإنسانية، وبداية تشكل قاعدة الانطلاقة للإرهاب المنظم والعابر للقارات.

كانت خطة مؤسسي هذه الدولة تتضمن توسيع دائرة نفوذها وتمددها في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية المجاورة وباكستان باعتبارها الحلقات الضعيفة في عملية الاستهداف، والعمل المنظم على عولمة هذه ldquo;الرسالةrdquo; بالعنف والإرهاب كسبا لمزيد من الارض والموارد. بيد ان هذه الاطماع والطموحات المثالية كان لا بد ان تصطدم بمصالح اللاعبين الكبار في نظام العلاقات الدولية، وان تدخل هذه الدولة في حروب غير متكافئة مع القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة دفع ويدفع ثمنها الآلاف من الأبرياء، وأشاعت الرعب والتوتر في عديد المجتمعات العربية الإسلامية ووضعت العالمين المسيحي والإسلامي على حافة المواجهة.

اليوم عندما نستعيد سيناريو تلك الأحداث فإننا إنما نتذكرها بصورة تلقائية أملاها على ذاكرتنا ذات السيناريو الذي اتخذ ذات المسار في الصومال في الآونة الأخيرة، حيث تمكنت ميليشيات ما تسمى المحاكم الإسلامية خلال فترة لا تتعدى بضعة شهور من اجتياح العاصمة الصومالية مقديشو، التي بقيت عصية طوال أكثر من خمسة عشر عاماً على السيطرة من قبل أي فصيل صومالي مسلح من فصائل أمراء الحرب، الذين كانوا يتقاسمون السيطرة على مناطقها، كما نجحت في السيطرة حتى الآن على سبعة أقاليم من أقاليم البلاد، وهي تطمح وتخطط لغزو بقية المناطق والسيطرة عليها بما في ذلك ما تسمى جمهورية ldquo;أرض الصومالrdquo; التي أعلنت منذ سنوات الحرب الأهلية الأولى انفصالها عن الوطن الأم. ولعل وقوع أفعال المحاكم الإسلامية الصومالية في تضاد مع أقوالها يؤكد اننا أمام تجربة طالبانية بنكهة افريقية هذه المرة ثانية في الصومال. فما كادوا يسيطرون على العاصمة مقديشو حتى أجبروا سكانها على الخضوع لقوانينهم المتزمتة، حيث أمروا اصحاب دور العرض السينمائي بإغلاق صالاتهم وحرموا الناس من مشاهدة مونديال 2006 لكرة القدم الذي أقيم صيف هذا العام في ألمانيا. وبعدما استولوا في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي على مدينة كسمايو الساحلية تصدوا لمظاهرة نظمها بصورة عفوية سكان المدينة احتجاجاً على السيطرة على مدينتهم، فما كان من افراد ميليشيات المحاكم التي دخلت المدينة من دون ان تواجه اية مقاومة، سوى اطلاق الرصاص على هؤلاء المتظاهرين حيث قتل صبي واعتقل العشرات. وبعد يومين من هذا الحادث توجهت مجموعة من أفراد هذه الميليشيات الى مكتب إذاعة ldquo;هورن افريكrdquo;، وهي اذاعة خاصة، في ساعة متأخرة من الليل وأمروا الطاقم العامل في الاذاعة بوقف البث. وفيما اعتقل ثلاثة من مراسلي الاذاعة فقد فر مديرها لتجنب الاعتقال.

ومرة أخرى فإن هذا الوضع الجيوسياسي للصومال يشبه إلى حد بعيد الوضع الذي كان سائداً في أفغانستان، حيث كانت حركة طالبان تسيطر على معظم الأراضي الافغانية باستثناء بعض الجيوب في الشمال التي حولها ما يسمى حينذاك تحالف الشمال الى قاعدة انطلاق لمهجمة معاقل طالبان في كابول والمدن الأخرى. ولذلك فإن طموحات اتحاد المحاكم الإسلامية لبسط سيطرته على بقية الأراضي الصومالية وما يقابلها من رفض حازم من جانب الحكومة الصومالية برئاسة عبدالله يوسف، ربما أدت الى تفجير حرب اقليمية من القرن الافريقي. ولقد بدأ التصعيد بين الطرفين بالفعل يأخذ منحى حربياً مع استيلاء ميليشيات المحاكم الإسلامية على مدينة كيسمايو وقبلها محاولة اغتيال رئيس الحكومة الصومالية عبدالله يوسف. وكان لا بد لهذا التصعيد ان يدفع الحكومة الصومالية أكثر فأكثر للاحتماء بإثيوبيا التي تتحرق للإسراع بتدخلها في الصومال لوضع حد لتمدد ميليشيات المحاكم الإسلامية. وهي تنسق في هذا المجال مع كل من أوغندا وكينيا المجاورتين.

لما كان ذلك، يصبح من نافلة القول الا يطمئن أحد أنه سيكون بمنأى عن شرارات ذلكم الصراع اذا ما اندلع، ناهيك عن تداعيات سيادة النسخة الصومالية من ldquo;النموذج الطالبانيrdquo; التي لا شك ستأخذ طريقها بأشكال مختلفة الى ldquo;شارعناrdquo; المحبط.