الخميس: 2006.11.02

صالح القلاب

ليس مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، لاختيار نصف عدد أعضاء الكونغرس، بل منذ العام الأول لاحتلال العراق، بدأ كثيرون عدهم العكسي لانسحاب القوات الأميركية الغازية. والآن، فإن هناك من بات يتوقع أنه بمجرد فوز الديموقراطيين في الانتخابات، فإن رحيل الأميركيين عن بلاد الرافدين سيبدأ على الفور، وأنهم سيتركون هذا البلد لمصيره وأنهم سيغادرون هذه المنطقة ويودعونها الوداع الأخير!!

الواضح أن الذين يفكرون بأزمة ضخمة كالأزمة العراقية، بهذه الطريقة المبسطة، ينظرون الى الأمور من ثقب المفاهيم الساذجة. ولا بد أن هؤلاء يعتقدون، أن الحرب في العراق كانت مجرد نزوة طائشة لرئيس غير متوازن، هو الرئيس جورج بوش الذي يسود اعتقاد في منطقتنا، أنه بما قام به، إنما نَفَّذْ laquo;هلوساتraquo; مجموعة محشوة بالخرافات التاريخية وبأحقاد لا علاقة لها بالإستراتيجية الكونية للولايات المتحدة الأميركية.

ولأن نظرة هؤلاء الى ما جرى ويجري في العراق، لا تتعدى أرنبات أنوفهم، فإنهم بدأوا بفرك أكفهم فرحاً، لأن استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة، تشير الى ان الديموقراطيين سيتفوقون على الجمهوريين في الانتخابات laquo;النصفية المقبلةraquo;، ولأن هذا التفوق حسب ظنهم سيكون مدخلاً لانسحاب القوات الأميركية من العراق، سواء كان هذا الانسحاب كيفيا وعلى طريقة الانسحاب من فيتنام، أم منظما ووفق أوقات زمنية محددة، وبالاتفاق مع الحكومة العراقية الحالية.

مؤكد ان كل عربي صادق، يتمنى ان ينسحب الأميركيون اليوم قبل الغد، وأن يتمكن الشعب العراقي من ملء الفراغ بالوحدة الوطنية والديموقراطية وبالحفاظ على بلده موحدا ومقتدرا، وبإبعاد هذا البلد عن كل ما يتعرض له الآن من مؤامرات خارجية وداخلية.

لكن، وبما أن المسألة ليست مسألة أماني ورغبات بل مسألة حقائق ووقائع، فإنه لا بد من التأكيد على أن الانسحاب الأميركي الذي يتمناه كثيرون، غير وارد وعلى الإطلاق في المدى المنظور. فغزو العراق لم يكن مجرد نزوة لرئيس أخرق وأرعن مسيطر عليه من قبل مجموعة مأفونة وحاقدة ومتخلفة، لقد كان تنفيذا للاستراتيجية الأميركية الكونية. وقد بدأ التخطيط لهذه الخطوة، في وقت سابق بعيد، حتى قبل مجيء الجمهوريين الى الحكم، إن في عهد جورج بوش الأب أو في عهد جورج بوش الابن.

ربما ان جورج بوش هذا وليس أبيه، لم يدرس الوضع العراقي دراسة جيدة قبل ان يرسل القوات الأميركية الى العراق، لإسقاط نظام صدام حسين، الذي بتصرفاته الرعناء قد هيَّأ كل الظروف التي يريدها الأميركيون للقيام بما قاموا به. وربما أن إدارته ارتكبت أخطاء قاتلة بعد إسقاط هذا النظام، لكن وبصورة عامة، فإن ما لا يمكن إنكاره هو أن الغزو كان سياسة أميركية معدة للتنفيذ منذ فترة بعيدة.

لذلك، يجب ألا يتوقع أي كان بأن الانسحاب من العراق سيبدأ بمجرد فوز الديموقراطيين في الانتخابات النصفية المقبلة أو حتى بمجرد فوزهم في الانتخابات الرئاسية القادمة. فالأمور أكثر تعقيدا من هذا، والمسألة متعلقة بنظرة الولايات المتحدة الى مستقبل هذه المنطقة التي تمتد الى ما وراء بحر قزوين في الشرق، وتصل الى شواطئ المحيط الأطلسي في الغرب.

هناك ارتباك شديد بالنسبة للتواجد الأميركي في العراق، وخسائر يومية يتكبدها الأميركيون، ورمال متحركة في بلد يعتبر بلد الرمال المتحركة. وأيضاً هناك تحول ضد الحرب داخل الولايات المتحدة نفسها، لكن كل هذا لا يعني أبدا ان الرحيل أصبح تحصيل حاصل، وأنه سيبدأ بمجرد سيطرة الديموقراطيين على الـlaquo;كابيتول هيلraquo; في واشنطن في الانتخابات المقبلة.

ما يجب إدراكه، هو ان رحيل القوات الأميركية عن العراق قبل ترتيب الأمور في هذا البلد، وفي المنطقة كلها، بما يتلاءم مع المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، ليس في الشرق الأوسط فقط وإنما في العالم بأسره، سيعني انكماشا للأميركيين في الكرة الأرضية كلها، وسيعني التخلي عن موقع القطب الواحد، الذي ثبته الأميركيون بعد انهيار الإتحاد السوفيتي السابق في بدايات تسعينات القرن الماضي، لمصلحة العالم المتعدد الأقطاب الذي تسعى إليه دول عديدة من بينها الصين وفرنسا وروسيا.

مؤكد أنه إذا بادر الأميركيون الى الرحيل عن العراق، بدون ترتيب أوضاع المنطقة بما يتلاءم مع تصوراتهم على المدى الطويل، فإن المشروع الكوني الأميركي، سينهار كله، ودور هذه الدولة العملاقة سيتراجع وسينتهي قريباً الى الانكماش وراء المحيط الأطلسي. وهذا لا يمكن ان يحصل وان يكون حتى لو بلغت خسائر الأميركيين أضعاف أضعاف خسائرهم في فيتنام، وحتى لو بقيت القوات الأميركية تعيش هذه الظـروف الصعبة لعقدين مقبلين.

إن الأميركيين، الديموقراطيين قبل الجمهوريين، يعرفون هذا كله معرفة أكيدة، وهم يعرفون أيضاً ان انسحابهم الكيفي الذي يتوقعه بعض الذين يبسطون الأمور أكثر من اللزوم، سيعني تلقائياً وضع المنطقة بنفطها وموقعها الاستراتيجي وبإمكانياتها وشعوبها في قبضة الامبراطورية الإيرانية الناهضة والتي ستتحول حتماً إذا تم هذا الانسحاب بالطريقة التي يجري الحديث عنها، الى قوة نووية رئيسية.

إنها أمنية ما بعدها أمنية، ان يستيقظ العراقيون والعرب ذات صباح على انسحاب الأميركيين كيفياً من العراق، وليحصل ما يحصل، لكن هذا لن يحدث، وهو غير ممكن، في المدى المنظور. فالولايات المتحدة بجمهورييها وديموقراطييها، تعتبر منطقة الشرق الأوسط وما يحيط بها، منطقة مصالح حيوية لها، ولذلك فإنها لا يمكن ان تصاب بالبله والجنون وتبادر الى الانسحاب انسحابا كيفيا من العراق، لأن قواتها خسرت، على مدى أربعة أعوام، نحو ثلاثة آلاف قتيل، ولأن القلق يسيطر على تواجدها في هذا البلد.

ثم وبما ان المعزوفة العربية المستمرة، منذ أكثر من نصف قرن، تقول ان السياسات الأميركية الكبرى تصنع في إسرائيل، فكيف إذا من الممكن توقع نهاية سريعة للاحتلال الأميركي للعراق الذي انتظره الإسرائيليون عقودا، وبخاصة إذا كان مثل هذا الانسحاب، سيتم بدون تأمين معادلة إقليمية تضمن المصالح الأميركية والإسرائيلية، الى أمد طويل.

ربما تبادر الولايات المتحدة بعد فوز الديموقراطيين في الانتخابات النصفية المقبلة الى فتح قنوات اتصال فعلية مع الإيرانيين، وربما تنجح في التفاهم مع طهران، ولو تفاهما محدودا. لكن على العرب الحريصين على عروبتهم أن يدركوا أنه، إذا تم مثل هذا التفاهم الإيراني ـ الأميركي الذي سيكون بالتأكيد تفاهماً إيرانياً ـ إسرائيلياً، فإنه سيكون على حسابهم وعلى حساب مكانتهم ودورهم الإقليمي.

للعرب مصلحة مؤكدة في ألا تشهد هذه المنطقة مزيداً من التوتر، بل ان في مصلحتهم أن ينعم الإقليم كله بالأمن والاستقرار، وألا تكون هناك أي مواجهة لا نووية ولا تقليدية بين الولايات المتحدة وإيران أو بين إيران وإسرائيل. لكن هذا يجب ألا يعني انه عليهم ان يقبلوا بتقاسم الأدوار، بين الأميركيين والإيرانيين، وبالتالي بين الإسرائيليين والإيرانيين، على حسابهم وعلى حساب مصالحهم الوطنية والقومية.

حكاية الانسحاب الأميركي الكيفي المتوقع من العراق، في أي لحظة من اللحظات غير صحيحة، وهي مجرد أوهام وتصورات خاطئة. ولذلك وحتى لا يجد العرب أنفسهم ذات يوم غارقين في سبخة تفاهم أميركي ـ إيراني، على الأدوار في هذه المنطقة، فإن عليهم ألا يخجلوا من إقامة تحالف عربي ـ عربي يبدأ بثلاث دول أو أكثر، وينتهي ليكون جبهة عربية عريضة لمواجهة كل الاستحقاقات الراهنة، وكل الاستحقاقات المتوقعة وتكون جدار حماية ضد الأطماع الإقليمية في بلدانهم وعلى حساب أنظمتهم.