رشيد الخيوّن


سبعة وأربعون عاماً تفصل بين الحكم على صدام حسين، غيابياً، وبين الحكم عليه حضورياً بالإعدام شنقاً حتى الموت، يوم أمس.

على الرغم من تسيد صدام حسين على أمر العراق، بإعلامه ومائه ونفطه وبشره، إلا أنه لم يتمكن من تحويل الحدث، حدث محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم، إلى بطولة، فقد بقي الحدث في ذاكرة العراقيين قضية جنائية، وهو ما قيد غرور صدام في دواخل نفسه.

لم يدر بخلد العقيد فاضل عباس المهداوي، الذي كان رئيس محكمة الشعب، التي تولت قضية المتهمين بمحاولة اغتيال قاسم، وهو يحاكم جماعة من الشباب، أنهم سيأتون بعد أربع سنوات إلى السلطة، حاملين معهم حلمهم القومي بالوحدة العربية، وما أن غلبوا، حتى تبدد الحلم أدراج الرياح، أهلكوا الناس وأهلكوا أنفسهم، ولم تأت الوحدة المرتجاة. ومن الثامن فبراير (شباط) 1963 وحتى التاسع من أبريل ( نيسان) 2003 ظلت المغالبة على السلطة، وأصبح ذاك الحلم موال الانقلابات، والحروب والعذابات. أقول الحلم! لأن المحاكمين، في قضية اغتيال رأس الدولة كانوا مهووسين بأيديولوجية الوحدة العربية، وكانت تأخذهم الحماسة بكل عنفوانها، إلى أبعد من عملية اغتيال نفذت ضد رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم (7 أكتوبر 1959). وكشف أحد المتهمين أنه كان من المرتب أنه ما إن يُعلن موت قاسم إلا ويجبر رئيس مجلس السيادة نجيب الربيعي على الطلب من القاهرة أن تبسط حمايتها على العراق.

لقد قضى العديد من الذين وقفوا في قفص الاتهام بيد شريكهم المجهول آنذاك صدام حسين التكريتي. فعندما سأل المهداوي سمير نجم، القيادي البعثي اللاحق، (شنو) صدام حسين؟ وهو المتهم الغائب قال: laquo;صدام حسين اشترك معنا في التدريب في منطقة الحصوة، وهو في الخطة الأولى، بعدئذ جاءت الخطة الثانية، وأيضا حضر الاجتماع في بيت سليم عيسى الزيبق، حضر الاجتماعين، ولما أخذنا نداوم بالشقة من السبت إلى يوم الأربعاء، هو أيضاً كان حاضرا (هكذا وردت في محاضر المحاكمة). بعدئذ نزل معنا ورمى، وأصيب في رجله، وبعد ذلك لم أرهraquo;.

كان صدام حسين، آنذاك، مجرد رقم، لم يذكره المتهمون ولا الشهود كثيراً، ولا بما يناسب مشاهد الفيلم laquo;أيام طويلةraquo; عن حياته. وحتى لا نوغل بتهمة صدام حسين بالطائفية أو التعصب القومي، وهو بريء منهما، نقول إن كاتب قصة ذلك الفيلم هو النجفي عبد الأمير المعله، وأن عبد الكريم الشيخلي، زميله في عملية الاغتيال، ثم وزير خارجية البعث، فيما بعد، كان كردياً. أقول هذا حتى لا ينزل الوهم إلى القلوب والضمائر، ويحسب كل قومي عربي وكل سُنَّي أنه صدام حسين، بل هو لم يترك لقومي ولا لسُنَّي حياة إذا ما شم رائحة عدم ولاء، أو ازدراء بماضيه. صدام حسين كان قومياً وطائفياً لذاته لا لقومية أو مذهب.

كان طريق عبد الكريم قاسم المعتاد عبر شارع الرشيد، وسط بغداد، لا يُقطع الشارع عند مروره، أو من قبل عند مرور الملك أو الوصي، ولا تتقدمه سيارات حماية. اتخذ المنفذون البعثيون شقة في وسط الشارع، والذي طوله 3 كيلومترات، عند محل مشهور يدعى رأس القرية، حيث laquo;عَقد الراهباتraquo;، تسلحوا برشاشات تدربوا عليها بين منطقة المسيب وكربلاء. وضعوا لخطتهم، التي باركتها، حسب الاعترافات، سلطة الوحدة المصرية السورية. واعترف القياديون في حزب البعث آنذاك، وجلهم في العشرينيات من العمر، بدعم مصري، مشروط بحضور أحد القادة. ومن عجب أن ميشيل عفلق استقبل أحد قادة البعث شاكر إبراهيم حليوة، وكان عمره آنذاك 21 عاماً، ونسق معه في أمر التنظيم، والدعم المحتمل من القاهرة، التي رفضت بالبداية تأييد الاغتيال، لأن سياسة عبد الكريم قاسم بدأت تميل للقوميين، لكنها في النهاية شجعت وسعت.

كان صدام حسين أحد المتهمين الغائبين، ولم تتطلب المحكمة تفاصيل عنه، ولم يعرفه أحد من الشهود والمتهمين، مثلما كانت تتداول أسماء الآخرين، سوى ما ورد في اعتراف سمير النجم، وكانت مهمة صدام حماية المنفذين، إلا أنه أخذ يرمي معهم، ثم طارده شرطي مرور بيده مسدس، وأصابه في قدمه، ولاذ بالهروب بمعية عبد الكريم الشيخلي، ثم هرب خارج الحدود. ونطقت المحكمة بحكم الإعدام على المنفذين، الحاضرين منهم والغائبين، إلا أن كلمة عبد الكريم قاسم الشهيرة laquo;عفا الله عما سلفraquo; أنجتهم من الموت.

كانت محاكمة المهداوي، على كل سلبياتها ومنها خفة دم رئيسها غير المبررة وأنها عسكرية حاكمت مدنيين، إلا أنها أعطت المتهمين حق الدفاع عن أنفسهم، ومَنْ يطلع على دفاع أياد سعيد ثابت يشعر بأجواء المحكمة المريحة قياساً بالمحكمة التي ترأسها عبد الغني الرواي، التي أعدت لإعدام عبد الكريم قاسم في التاسع من فبراير 1963، وكانت في قاعة الموسيقى، من بناية الإذاعة، وهي أقل من أن توصف بالصورية، وهي محاكمة وهي تنفيذ حكم في آن واحد. ولو قيست محاكمة عبد الغني الراوي بالمحاكمات التي أتت بعدها لكانت أفضل، لأنها سمحت للمتهم، عبد الكريم قاسم، أن يدلي بشهادته وما حققه لفقراء بغداد، ومنها بناء مدينة الثورة، وسمحت له أن لا تربط عيناه عند انهمار الرصاص على صدره، رغم أنها أعدمته وهو صائم! فالمحاكمات التي نصبت بعد 17 تموز 1968، الاستثنائية منها والدائمة مثل محكمة الثورة، تقتصر على المناداة بالاسم وقراءة الحكم. هذا ما فعله طه ياسين الجزراوي عندما ترأس محاكمة جماعة من (المتآمرين). وأبلغني أحد المتهمين، أن عواد البندر، رئيس محكمة الثورة السابق، لم يستغرق في محاكمته وعشرين شخصاً آخر سوى نصف ساعة، وبيانات الحكم تراوحت بين الإعدام والمؤبد.

صحيح أن تنفيذ حكم الإعدام بصدام حسين، ومَنْ حكم معه بالموت، تريح الكثيرين من ذوي الضحايا، إلا أنها ليست الغاية المطلوبة من سقوط نظامه، فهو بالأساس مات من يوم ألقي عليه القبض في الحفرة، بل الغاية المرتجاة ما زالت بعيدة المنال، وهو أن يخرج العراقي من بيته ويتحسس رأسه وهو ما زال منصوباً على كتفيه. وأن لا يُترك قاتل، بذريعة متطلبات سياسية، طليقاً، أو أن يغير الأميركان على السجون لإطلاق سراح مَنْ يشاءون من إرهابيين ولصوص مال، وإلا ما جدوى محاكمة وتنفيذ الحكم بقاتل مثل صدام حسين إذا كان قتلة آخرون تحميهم المتطلبات السياسية.

سأل المهداوي المتهم, سليم الزيبق, في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم: laquo;بعد قتل الزعيم، ماذا تفعلون بالشعبraquo;؟ وقد أجابوا على السؤال طوال سنين حكمهم السوداء. فهل لنا طرح السؤال بصيغة أخرى: هل للكيانات المتلبسة بالدين والمذهب، اليوم، أن لا تجعل الشعب العراقي يترحم على صدام حسين؟!