جهاد فاضل


يبدو طرح فكرة حياد لبنان في الوقت الراهن طرحاً عبثياً، أو طرحاً غير واقعي لأسباب كثيرة. أول هذه الأسباب أن هناك فئات أساسية من مكونات الشعب اللبناني منغمسة أقوي أنواع الانغماس في الصراعاتالاقليمية والدولية. فحزب الله علي سبيل المثال لا يخفي ارتباطه الأيديولوجي الوثيق بولاية الفقيه، ومقرها إيران، ولا يخفي انحيازه الصريح إلي المحور السوري/ الإيراني. ولاشك أن طرح فكرة حياد لبنان عليه الآن ستُقابل بالسخرية والرفض، وستُعتبر من قبيل الخيانة، إن لم تكن هي الخيانة بعينها. وبالإضافة إلي حزب الله ، هناك أحزاب دنيوية أو سياسية كثيرة ترفض فكرة حياد لبنان شكلاً ومضموناً، وترمي من يدعو إليها بأقسي التهم.

ولكن فكرة حياد لبنان لم تعدم من دعا إليها واعتبرها الدواء الذي بإمكانه أن يشفي لبنان من كل علله المستعصية. فشارل حلو رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق، دعا إليها قبل أن يتولي الرئاسة ولم يجرؤ، بعد وصوله إليها أن يتلفظ بها.. ولكن الفكرة كانت تطل، ولو بخفر، بين الوقت والآخر علي أساس فوائدها الجمة لبلد صغير لم يُخلق للقتال، بل للصلاة والشعر والندوات والحدائق والطبيعة الرائعة. وكان من رأي دُعاتها أن لبنان بلد ممزق الانتماءات الطائفية والولاءات الاقليمية، وأن أرضه ساحة مثلي للصراعات وتصفية الحسابات، وتعوزه بالدرجة الأولي عصبية وطنية شبيهة بالعصبية التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته. والواقع أنه لا يوجد شعب في المنطقة مختلف حول القومية التي ينتمي إليها كشعب لبنان. فهناك أحزاب لبنانية مرخص لها رسمياً، ينادي بعضها بالقومية العربية، وينادي بعضها الآخر بالقومية السورية، وبعضها الأخير بالقومية اللبنانية وبلبنان أزلي سرمدي. وهناك أرمن لبنان وأكراده. وهناك هذه الصراعات الاقليمية التي لا تعرف التوقف بين عرب يدعون إلي الحرب، ولا يحاربون، وبين عرب آخرين قالوا وداعاً للحرب ويرفضون أي بحث في العودة إليها.

وقد وجد دعاة الحياد اللبناني في تاريخ لبنان الحديث ما يدعم وجهة نظرهم. قالوا إن الحروب التي خاضها لبنان ضد إسرائيل منذ عام 1948 إلي اليوم، دفع عنها ثمناً باهظاً لم يدفعه أي بلد عربي آخر. ففي خلال خمسين عاماً، خاض لبنان، أو خاض الآخرون علي أرضه، وبواسطة أبنائه، ما لا يقل عن سبعة حروب كانت تدمر بناه التحتية، وتهجر أبناءه في الداخل والخارج، وتؤخره سنوات طويلة عن ركب التقدم والتطور. فما كان لبنان ينتهي من حرب، حتي كانت تبدأ الاستعدادات لحرب جديدة. والجنوب اللبناني الذي اندلعت منه شرارة الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، لم يعرف لبنان السيادة عليه إلا فترات قليلة. وكان هذا الجنوب قبل أن يتحول في السنوات الأخيرة منصة لإطلاق الصواريخ الإيرانية والسورية علي إسرائيل، يُسمي زمن أبو عمار فتح لاند ، أي أرض فتح، وعملياً إحدي الجمهوريات الفلسطينية التي نشأت في لبنان ابتداءً من أواخر الستينيات من القرن الماضي.

والواقع أن الناظر إلي تاريخ لبنان الحديث والمعاصر منذ استقلاله عن فرنسا في عام ،1943 يجده تاريخاً مخضباً بالدماء والكوارث والفتن والثورات علي أنواعها. فبالنظر لضعف الدولة فيه، وكذلك لانعدام إرادته الوطنية الواحدة تبعاً لتوزع سكانه علي طائفتين رئيسيتين متصارعتين علي السلطة والنفوذ، أمكن لكل القوي العربية النافذة أن تجد سبيلاً إليه لتؤسس فروعاًنشطة لها فيه. فالناصرية لم تعرف فرعاً نشطاً لها خارج مصر، كالفرع اللبناني. وفي مرحلة ازدهار البعثين العراقي والسوري، كان للبنان بعثيوه العراقيون والسوريون. وكثيراً ما تقاتل هذان البعثان في لبنان وسالت منهما دماء في حين كان المأمول منهما الوحدة والتعاضد طالما أن العدو واحد. وكان لإيران منذ حوالي ربع قرن نظرتها البعيدة عندما رعت تأسيس حزب الله وزودته بالعقيدة المذهبية وبالمال والسلاح حتي أمسي قوة أقوي من الدولة، وحتي تعذر أو استحال حله، نظراً لقوة الايديولوجيا أو العقيدة المذهبية التي يدين بها.

وإذا كانت الأوطان تؤمن لأبنائها عادة الاستقرار وهناءة العيش والمستقبل الزاهر الواعد، فقد تعذر علي لبنان كوطن أن يؤمن شيئاً من ذلك لأبنائه. فلبنان إما ذاهب إلي حرب، وإما عائد من حرب. والحرب يخوضها عادة بالنيابة عن غيره. والغير يخوض حروباً كلامية لا حروباً حقيقية. وكثيراً ما يتدخل هذا الغير، بعد انتهاء الحرب، ليتبناها وليقول إنه كان وراءها. والغير حلال له أن يصالح، أو أن يدعو جهاراً نهاراً للصلح، وأن يمارس الحياد عملياً، في حين يتعذر علي لبنان أن يتلفظ، مجرد تلفظ، بعبارة الحياد، لأنه لو تلفظ بها لسيقت ضده أقسي أنواع التهم. والبعض يدعو صراحة، وبالفم الملآن، وفي الأسبوع مرة علي الأقل، إلي المفاوضات والصلح مع إسرائيل وإلي العيش بسلام معها كدولتين متجاورتين صديقتين، في حين يصر هذا الغير علي بقاء لبنان في عين العواصف والأعاصير.

بنظر دُعاتها، تنهض فكرة حياد لبنان علي أنها دواؤه الشافي من كل علله المستعصية. فإذا كانت عصبيته الوطنية ضعيفة، فبانصراف أبنائه عن خوض المعارك المستحيلة، وعن متابعة الشؤون العربية والاقليمية والدولية بحماسة منقطعة النظير، وبلا توقف، ما يقوي العصبية واللحمة بين أبنائه، وما يدفعهم جميعاً إلي نشدان مستقبل أفضل لبلدهم. وإذا كانت الحروب المستحيل الانتصار فيها، هي آفة لبنان وسبب دماره المادي والمعنوي، وسبب هجرة ابنائه إلي الخارج، فإن بانصراف شعبه إلي حياة السلم الأهلي والاستقرار الداخلي، ما يجعل وصول لبنان إلي ما يشبه الفردوس الأرضي، حلماً ممكناً لا مستحيلاً. ثم أن هذا الفردوس لن يكون عندها فردوساً لبنانياً وحسب، وإنما سيكون قطعاً فردوساً عربياً في جوهره ومبتغاه. وسيكون لبنان عندها حالة عدوي بالنسبة لمحيطه. فالديمقراطية والعقلانية والحضارة والانفتاح، وهي من أسمائه الفضلي، ستجد لها، ولو ببطء، طريقاً إلي المنطقة برمتها. ولا يصدقني أحد أن لبنان، إذا ولج باب الحياد، سيفقد عروبته وسيتحول إلي بلد لا لون ولا رائحة ولا طعم له. فلبنان لا يمكن أن يكون إلا ذاته. ولكن من حق لبنان أن يخلد إلي الراحة قليلاً من عناء حروبه الفاشلة الممنوع عليه أن ينتصر فيها. من حق لبنان، وهو أصغر أعضاء الأسرة العربية، أن يدعو اخوته الأكبر منه إلي أن يتحملوا معه قسطاً من أعباء المعركة القومية، إن لم يكن القسط الأكبر. ولكن لأن الجواب معروف، فمن حق هذا الأخير أن يبحث عن راحته أو عن خلاصه، طالما أن اخوته الآخرين يبحثون عن راحتهم أو عن خلاصهم.

للبنانيين ما لا يحصي من الأدلة التي يسوقونها للدفاع عن وجهات نظرهم. سواء في موضوع الحياد أو في سواه من المواضيع. ولكن اللبنانيين غير موحدي الإرادة في كل ذلك. فهم جزء من بابل الحديثة، وأكثر زعمائهم لا يغلبون المصالح العليا لبلدهم علي مصالحهم الشخصية. وهناك بين هؤلاء الزعماء من يري أن مصلحة أخيه في الطائفة، أو المذهب، هي المصلحة العليا ولا مصلحة سواها. وفي غياب معايير دقيقة مُلتزم بها للمصلحة العليا، يظل الجرح اللبناني فاغر الفم، دائم النزف ولا علاج له في المدي المنظور. هذا إن لم نقل أن هذا الجرح سيزداد تأزماً في المستقبل تبعاً الأزمات المنطقة التي تتعقد وتستحكم سنة بعد أخري.

علي أن دعاة الحياد اللبناني يدركون قبل سواهم استحالة ما يؤمنون به، أو يتوقون إليه. ذلك أن الحياد يفترض إجماع شتي مكونات المجتمع اللبناني عليه. وهذا من رابع المستحيلات كما هو معروف. والحياد يفترض إجماع العرب عليه، واحترامه، كما يفترض أن توافق عليه القوي النافذة في العالم اليوم. وهذا ما لا يمكن تصوره لا نظرياً ولا عملياً. فلبنان الساحة، أو لبنان المشرع الأبواب والحدود، أو لبنان كمنصة لإطلاق الصواريخ، أو لبنان المختبر والمخابرات، هو لبنان الذي اعتاد الجميع تقريباً علي التعامل معه. أما لبنان المحايد، علي نمط سويسرا في أوروبا، لبنان الواحة والثقافة والندوات والخدمات والمستشفيات والجامعات ومراكز الأبحاث ودور النشر، والعقلانية والحرية المحروسة والديمقراطية وسائر هذه الأسماء الفضلي، فهو لبنان ممنوع من الصرف وممنوع من التداول وممنوع منعاً باتاً. وحلال للآخرين أن يتعاملوا معه كدار حرب وساحة مثلي للانتصارات المستحيلة، في حين ينعمون هم بالراحة وبالخطاب الإعلامي أو الكلامي لا أكثر ولا أقل.

لا ينقص اللبنانيين حرف واحد من قاموس الوطنية والعروبة. أو صرخة ليقظة العرب أطلقها فتي لبناني اسمه إبراهيم اليازجي: تنبهوا واستفيقوا أيها العرب . وفي جامعة بيروت الأمريكية، كما في منتديات بيروت، ولدت فلسطين الحديثة التي نعرفها. وفي مدارس لبنان وابتداء من أوائل القرن التاسع عشر بدأت اللغة العربية تنهض من رقاد القرون الوسطي. ورغم كل ما وُجه إلي لبنان من ملاحظات علي عروبته، بدا لبنان منذ استقلاله فتي العروبة الأغر. ولكن من حق هذا الفتي أن يلتفت قليلاً إلي ذاته، وأن ينشد خلاصه الخاص كما نشد الآخرون هذا الخلاص.