عبدالله الأشعل

يشهد لبنان حالة من الغليان السياسي تبلورت حول عدد من القضايا التي تعكس حرارة هذه الحالة، والتي يخشى المراقبون أن تتطور فينزلق لبنان إلى الحرب الأهلية. ولذلك سارعت المملكة العربية السعودية إلى محاولة احتواء الموقف وتشجيع الفرقاء على الحوار حول جميع القضايا. ومن الواضح أن هذه الحالة اللبنانية بدأت بشكل ملحوظ بصدور قرار مجلس الأمن رقم 1559 في أيلول (سبتمبر) 2004 ثم ازدادت تفاقما وحدة عقب اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005. ثم جاءت قضية المحكمة الدولية المقترحة لمحاكمة المتهمين في اغتيال الحريري من حيث أن هذا الموضوع ليس قائماً بذاته ولكنه عنوان للتوتر الحاد بين الأغلبية والأقلية النيابية أو بين ما كان يسمى فريق الموالاة وفريق المعارضة في لبنان، فأصبح الدفع في اتجاه تشكيل المحكمة الدولية من جانب فريق الأغلبية مؤشراً عند الاقلية على أنه رغبة في استفزازها، بينما يتهم فريق الأغلبية الفريق الآخر بأنه يضع العراقيل في سبيل إنشاء المحكمة حتى لا تكشف أن فريق الأقلية يتحالف مع سورية على إخفاء مرتكبي الجريمة. وكلما توترت العلاقات بين الفريقين اشتد الجدل بينهما حول المحكمة الدولية، رغم أن سورية وفريق الأقلية يؤكدان أيضاً حرصهما على إنشاء هذه المحكمة وعلى أن تكشف براءة المتهمين السوريين، والأهم من ذلك بالنسبة لسورية وفريق الأقلية هو أن يتم الكشف عن القاتل الحقيقي وهو أمر يدخل في إطار المؤامرة على سورية ولبنان معاً من وجهة نظر السوريين.

وأشارت التقارير الأخيرة لرئيس لجنة التحقيق الدولية إلى مدى التعاون بين سورية واللجنة في الكشف عن الحقيقة وهو الذي شجع المحقق الدولي على المضي قدماً في إنشاء المحكمة. واشتد الجدل بشكل أخص بين رئيس الجمهورية إميل لحود ورئيس الوزراء فؤاد السنيورة حول المحكمة عندما نشر رئيس الجمهورية ملاحظات نقدية ودستورية حول سلوك الحكومة ومعالجتها للقضية. وعند هذا الحد اختلطت الأوراق، لأن laquo;حزب اللهraquo; هدد قوى laquo;14 آذارraquo; بأن هذه الحكومة يجب أن ترحل، وأن تحل محلها حكومة وحدة وطنية، أو أن تستقيل لكي تشكل حكومة انتقالية تشرف على إجراء انتخابات مبكرة أي قبل أن تنتهي الدورة الحالية لمجلس النواب. وهدد laquo;حزب اللهraquo; بأن ينزل مؤيدوه إلى الشارع الى أن تسقط الحكومة، وهو تهديد رفضته قوى laquo;14 آذارraquo; وهددت هي الأخرى باللجوء إلى الشارع، ولذلك كانت مبادرة الرئيس نبيه بري مهمة في الدعوة الى التشاور حول كل القضايا. وبصرف النظر عن الموقف من ملاحظات رئيس الجمهورية من الناحية الدستورية فإن دخوله على الخط بهذه القوة في موضوع إنشاء المحكمة له دلالات ثلاث على الأقل: الدلالة الأولى أنه أراد أن ينبه بطريقة واضحة إلى أنه لا يمكن تجاوزه وقيام رئيس الوزراء وحده مع الأغلبية النيابية بالتفاهم على إنشاء المحكمة الدولية رغم المخالفات الدستورية التي ينطوي عليها هذا الإجراء. الدلالة الثانية هي تذكير فريق laquo;14 آذارraquo; بأن رئيس الجمهورية لن يقف مكتوف الأيدي في مواجهة الحملة الضارية للتخلص منه، وأن محاولة المقايضة على رحيل الحكومة ورئيس الجمهورية في صفقة واحدة أمر غير مقبول، خصوصاً أن موضوع رئاسة الجمهورية هو بين المواضيع المطروحة على الحوار الوطني. وأما الدلالة الثالثة فهي التذكير بالطبيعة الدستورية للنظام اللبناني الذي يقوم على عدم قدرة أي طرف على التفرد بقرار القبول بالمحكمة الدولية، في ظل المادة 52 من الدستور المعدلة عام 1990 في ما يتعلق بالسلطة المختصة بإبرام المعاهدات الدولية، حيث يتولى رئيس الجمهورية مهمة التفاوض بالاتفاق مع رئيس الوزراء، ويكون له حق التصديق على المعاهدة بعد موافقة مجلس الوزراء. أما المعاهدات الخاصة المتعلقة بميزانية الدولة أو المعاهدات التجارية أو المعاهدات المستمرة فلا يجوز إبرامها إلا بموافقة مجلس النواب. معنى ذلك أن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومجلس الوزراء ومجلس النواب هم الشركاء الأربعة في إبرام اتفاق إنشاء المحكمة الدولية. يترتب على ذلك أن رئيس الوزراء أو مجلس النواب لا يستطيعان تجاوز رئيس الجمهورية في إنشاء المحكمة الدولية. من ناحية أخرى فإن مجلس الأمن لا يستطيع أن ينشئ محكمة دولية خاصة بلبنان من دون موافقة لبنان وفق قواعد الدستور اللبناني، لأن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تختلف اختلافاً جوهرياً عن المحاكم الأخرى التي قرر مجلس الأمن وحده إنشاءها للمتهمين في رواندا ويوغوسلافيا السابقة، فضلاً عن أن قرارات مجلس الأمن ابتداءً من القرار 1595 الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية والقرارت اللاحقة تؤكد أن الأمم المتحدة تساعد لبنان في البحث عن قتلة الحريري ولا يجوز للأمم المتحدة أن تحل محل لبنان في ذلك. يضاف إلى ذلك أن المحكمة الدولية سوف تضم قضاة لبنانيين، كما تطبق القانون اللبناني الإجرائي والموضوعي لأن الأصل في المحاكمة أن تتم أمام القضاء اللبناني وأن موافقة لبنان على هذه الصيغة تنطوي على تنازل لبنان عن جزء من اختصاصه القضائي.

فإذا كان إنشاء المحكمة الدولية مطلباً لبنانياً عاماً فلا يتصور أن يكون موضع جدل في الساحة اللبنانية إذا تم احترام الدستور من الجميع وحسنت النيات في هذه القضية وارتفعت الشكوك المتبادلة والاتهامات المتناثرة التي لا تخدم الأهداف اللبنانية في الاستقرار والتعايش والوحدة.

والمعلوم أن مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي سوف يكون أقرب إلى نموذج كمبوديا لمحاكمة الانقلابيين خلال الفترة من 1975حتى 1979، ومعنى ذلك أن قضية إبرام المعاهدات في الدستور اللبناني سوف تكون محل جدل في المرحلة القادمة لأن مشروع إنشاء المحكمة يتجه إلى أن يتم إقراره من جانب الأمين العام للامم المتحدة، بينما ترى إحدى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، أن يتم إقراره من جانب مجلس الأمن والفارق بينهما كبير، لأن المشروع يعتبر اتفاقاً دولياً طرفه الأول هو الأمم المتحدة، وأما طرفه الثاني فهو الحكومة اللبنانية. أما صدور مشروع المحكمة عن مجلس الأمن فيعتبر عملاً من طرف واحد ليس للبنان سلطة عليه، وهو أمر يرفضه فريق الأقلية على أساس أنه محاولة للالتفاف على سلطة رئيس الجمهورية، وعلى أساس أن مجلس الأمن يقع تحت هيمنة الدول المتحالفة مع فريق الأغلبية في لبنان، وذلك من وجهة نظر فريق الأقلية.

نخلص مما تقدم إلى أن إنشاء المحكمة الدولية لا يمكن أن يتم من دون موافقة الحكومة اللبنانية، وأن هناك الكثير من الاتفاقيات الأخرى مع الأمم المتحدة حول جوانب المحاكمة ومع الدولة التي ستقام فيها المحكمة، وأن موافقة لبنان تعني موافقة الأطراف الأربعة معاً وهم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ومجلس الوزراء ومجلس النواب، ولذلك يجب أن يتحرر الحوار الوطني من هذه القضية، وألا تظل من عوامل التفجير في الساحة اللبنانية.


كاتب مصري