أمير طاهري


ظل لبنان على الدوام مثل رجل بشوش يتعرض في بعض الأحيان الى نوبات من الجنون تقوده الى إلحاق الأذى بنفسه. وحتى قبل أن يوضع على الخارطة كدولة، كان للبنان تاريخ اتسم بالتبدلات والتحولات، حيث تستمر حقب طويلة من الهدوء يعقبها انفجار موجات من العنف. ومن هنا فثمة مؤشرات تدل على احتمال دخول لبنان جولة أخرى من إلحاق الأذى بالنفس في وقت يتوقع فيه الجميع أن يدخل لبنان فترة من السلام وإعادة الإعمار.

ترى، ما هي الأسباب وراء هذه الجنون الدوري في لبنان؟

هل يعزى ذلك الى التنوع الديني والخلافات الطائفية؟ هل يعزى، كما يؤكد الكثير من اللبنانيين مازحين، الى جينات الفينيقيين القدامى التي تعود من وقت لآخر لإثارة جنون أحفادهم؟ أم أن هناك شيئا في الجو يجعل اللبنانيين يقدمون على إيذاء النفس؟

ليس ثمة شك في أن الانقسام الطائفي يلعب دورا رئيسيا في السياسة اللبنانية، ضمن وضع لا تلعب فيه السياسة القائمة على أساس التقسيم الطبقي دورا يذكر، الأمر الذي أدى الى الدفع بالآيديولوجيات العلمانية الى الهامش. الفلاحون الدروز والشيعة، على سبيل المثال يفضلون الوقوف الى جانب الإقطاعيين على التوحد معا ضد عدو طبقي حقيقيا كان أم متخيلا.

وبسبب الانقسام الطائفي بات النظر الى أي نزاع سياسي كونه خطرا يتهدد هذه المجموعة أو تلك. وإذا حصلت مجموعة محددة على قدر اكبر من السلطة يشعر آخرون بأن ثمة خطرا يتهدد وجودهم.

للنظام اللبناني مشكلة أخرى تكمن في جيناته. إذ من الممكن لأي ائتلاف من طائفتين أن يسيطر على السلطة بقبضة قوية. بمعنى آخر، على العكس من النظم الديمقراطية العادية، حيث يحدو الأقلية باستمرار الأمل والتطلع الى الفرصة لأن تصبح أغلبية، بوسع أي ائتلاف حاكم في لبنان أن يبقي معارضيه نظريا خارج اللعبة لأي مدى زمني يريده.

التاريخ أيضا اثبت أن كل خلافات لبنان الطاحنة تقريبا كانت بفعل تدخل أجنبي. بمعنى آخر، لن يكون هناك قتال داخلي رئيسي وطويل الأمد في لبنان من دون تدخل قوى خارجية مع الأطراف المتنافسة. إذ يشير تاريخ الحرب الأهلية السابقة في لبنان بوضوح الى أن هذه البلد الصغير الواقع على طرف البحر المتوسط لم يكن سوى ساحة معركة في نزاع إقليمي واسع.

من ضمن السمات التي ميزت الحرب الأهلية اللبنانية السابقة أن القوى الغربية الرئيسية، خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا، كانت راضية بالوقوف عند السياج متفرجة، فيما الاتحاد السوفياتي السابق، الذي كان من الأطراف الرئيسية في المنطقة في ذلك الوقت، حاول أيضا تجنب التورط المباشر. هذا الوضع ترك كلا من اسرائيل وسورية، والعراق الى حد ما، تحت ظل النظام السابق لصدام حسين، وليبيا، وإيران خلال فترة الخميني، دولا مناصرة رئيسية. كما أن وجود دولة داخل دولة فلسطينية في لبنان زاد المسائل تعقيدا.

وفشل تدخل فرنسا والولايات المتحدة تحت راية الأمم المتحدة في ترجيح الكفة بطريقة او بأخرى.

ولكن عندما بات واضحا أن أيا من قطبي الحرب الباردة السابقة سيرجح الكفة لصالحه في لبنان، آثرت واشنطن وموسكو الجلوس ومشاهدة اللبنانيين يقتلون بعضهم بعضا لصالح قوى إقليمية متنافسة.

وعلى الرغم من الخسائر الهائلة في الأرواح والفظائع المزعجة التي كانت تنقلها شاشات التلفزيون، سمح للحرب الأهلية اللبنانية السابقة أن تستمر على مدى 15 عاما لأنها لم تكن ذات أثر يذكر على توازن القوى في المنطقة.

ولكن، كيف هو الوضع الآن؟ وماذا عن سُحب الحرب الكثيفة التي تخيم على الشرق الأوسط وعلى لبنان؟ لم يعد سرا أن بعض الفصائل اللبنانية استأنفت تسليح نفسها ردا على ترسانة السلاح الهائلة لحزب الله بمساعدة إيران. ففي لقاء أجري معه في الآونة الأخيرة، وصف وزير الدفاع الإيراني محمد بور ـ نجار حزب الله اللبناني بأنه laquo;أقوى الجيوش العربية في الوقت الراهنraquo;. وهذا ليس ضربا من المبالغة. إذ على الرغم من الخسائر التي مني بها صيف هذا العام في حربه مع إسرائيل، نجح حزب الله اللبناني في الاحتفاظ بكل أسلحته التي يمكن أن يستخدمها ضد أعدائه المحليين. كما بات متوفرا لديه، بفضل إيران، مصادر غير محدودة للسلاح والمال.

لقد تظاهر حزب الله حتى الصيف الماضي بأنه غير راغب في السلطة السياسة الداخلية، وطرح نفسه كقوة تتسم بنكران الذات ووهبت قوتها أولا وأخيرا لتحرير الأراضي اللبنانية من laquo;احتلال العدو الصهيونيraquo;. كما سمح حزب الله لحركة أمل بأن تدير سياسيا الكثير من الأمور نيابة عن الشيعة الذين يشكلون من الناحية السكانية المجموعة الأكبر حجما في لبنان.

هناك حادثان أجبرا حزب الله على التخلي عن هذا الموقف؛ أولهما حرب الصيف التي أخرجته من جنوب لبنان وجردته من قاعدة عملياته ضد إسرائيل. لأنه وإذا ما أراد حزب الله محاربة إسرائيل الآن، فإنه لا بد ان يستخدم بيروت ووادي البقاع كقاعدتي عمليات، وهذا يتطلب بالضرورة السيطرة على الحكومة على نحو لا يسمح لجهة بإثارة قلقه في ما يخص قرارات الأمم المتحدة ومطالبتها بنزع سلاح حزب الله.

والحادث الثاني وراء محاولة حزب الله بصورة مباشرة الوصول الى السلطة، يكمن في النهج الدفاعي الإقليمي الجديد لإيران. إذ بات الرئيس محمود أحمدي نجاد مقتنعا بأن النزاع العسكري لبلاده في مواجهة الولايات المتحدة، ومن المحتمل إسرائيل أيضا، قد بات أمرا حتميا. لذا، يريد أحمدي نجاد أن تصبح كل من سورية ولبنان ضمن محور إيران، مع استغلال العراق، وإلى حد ما حتى أفغانستان، كوسائل للضغط السياسي والعسكري على الولايات المتحدة.

والى ذلك فالحرب السابقة في لبنان لم تكن لها علاقة بلبنان، إذ لم تكن سوى بروفة لحرب أكبر بين الجمهورية الإسلامية الايرانية والولايات المتحدة ، فيما تكمن مصلحة لبنان، بالطبع، في بقائها خارج النزاع وألا تكون لها صلة به، إلا أن ذلك لن يثمر سوى الحزن، بصرف النظر عمن يخسر ومن يكسب. والسبب هو انه إذا كانت هناك حرب جديدة تكون لبنان أولى ساحاتها، فإنها لن تقتصر على عمليات متقطعة وصغيرة، كما هو الحال في الحرب الأهلية السابقة، وإنما ستكون هذه الحرب كبيرة لكنها قصيرة مع احتمال توسعها فورا لتشمل أولا سورية ثم إسرائيل، وفي نهاية الأمر إيران.

الحلف غير الطبيعي بين الجنرال السابق عون، الذي كان محسوبا في السابق على صدام حسين، وحسن نصر الله، الذي يحمل راية إيران في لبنان، لن يظل قويا على نحو يمكنه من تقديم بديل للبنان.

لكنه من الممكن أن يصبح متهورا على نحو يدفع بلبنان الى حرب أهلية جديدة لا شأن للبنان بها، مثلما من المحتمل أن تقوده الى دمار على نحو لم يشهده حتى في الحرب الأهلية السابقة. ومع ذلك، وفي المقابل، فهناك من يعتقد أن لبنان ظل في حالة حرب منذ اغتيال رفيق الحريري في فبراير (شباط) العام الماضي، ولذا فإن مقتل وزير الصناعة بيار الجميل، يعتبر في نظر البعض مرحلة جديدة في هذه الحرب.