السبت02 ديسمبر2006

د. صالح عبد الرحمن المانع

يعيش لبنان حالة من الاحتقان السياسي نتيجة المواجهة الحادثة بين قوى السلطة وقوى المعارضة. ولقد كان هذا الاحتقان موجوداً منذ مقتل الرئيس رفيق الحريري قبل عام ونصف، ولكنه دخل مراحل جديدة بعد العدوان الإسرائيلي صيف هذا العام الذي دام ثلاثة وثلاثين يوماً. وهناك أسباب معلنة لهذه الأزمة، وأسباب غير معلنة، أو غائرة. كما أن هناك شكلاً من أشكال عدم الثقة بين الأطراف اللبنانية. ويتخوف الكثيرون من أهل لبنان، ومن العرب المحيطين بهذا البلد الجميل، من تطورات هذا الوضع، ولعله من مفارقات الزمن، أن هذا البلد الصغير الأخضر، الذي يعج بسبع عشرة طائفة ومذهب، ويتمتع بأعلى نسبة من التعليم بين أقرانه في البلدان العربية، وكان من أوائل الدول العربية التي تمتعت بنظام ديمقراطي وانتخابي، غير قادر على إيجاد صيغة سياسية دائمة للتوافق والسلم الوطني، مثلما هو الحال مع بلدان غربية أخرى، كسويسرا، التي استطاعت عبر قرون عديدة، أن تحافظ على السلام بين طوائفها الأربع الرئيسية، وأن تحافظ على حيادها، وبقائها خارج الصراعات والحروب الأوروبية التي كانت تحيط بها من كل جانب.

وربما يكمن الفارق الرئيس بين الحالتين، في أن المواطن السويسري، ينتمي هوية وولاءً إلى وطنه في المقام الأول، قبل انتمائه إلى القومية، أو اللغة التي يتحدثها. وتحضرني طرفة، أنني كنت في رحلة بالقطار عبر جبال سويسرا، قبل عدة سنوات، ودخلت في حديث مع شخص يجلس بجانبي، وقلت له أنت ألماني، فقال أنا ألماني اللغة، ولكنني سويسري في المقام الأول. ولا أرتبط مع الألمان خارج حدود بلادي إلا في لساني، أما فؤادي وولائي فهو لوطني وليس لألمانيا.

والحال في لبنان ليس كهذا، فالمواطن اللبناني ينتمي إلى الفئة، أو الطائفة التي ولد فيها، ويشعر المرء منذ نعومة أظافره في الروضة التي يدرس بها أنه في حضن مؤسسة طائفية، ويستمر ذلك حتى الجامعة، التي ينتسب إليها في الغالب أبناء الطائفة الواحدة. وحتى بعد تخرجه، فإنه يتم تعيينه بناءً على محاصصة طائفية في الوظائف الحكومية. وليس بغريب أن تجد دبلوماسياً يحمل إجازة دراسية في الكيمياء، لأن الوظيفة التي شغرت يجب أن تشغل بشخص ينتمي إلى طائفة معينة، بغض النظر عن مؤهلاته العلمية. وقد تسببت هذه التوزيعات والولاءات الطائفية العميقة، في توترات تاريخية، اندلعت في حروب أهلية، كان أولها عام 1882، وكذلك عام 1957، والحرب الأهلية الكبرى التي بدأت عام 1974، ولم تنتهِ إلا باتفاق الطائف عام 1989.

يذكر الجميع أن السبب الرئيس لهذه الأزمة يكمن في قبول حكومة السنيورة باتفاقية المحكمة الدولية، التي وافق عليها مجلس الأمن بشكل مبدئي، والتي تنص على تكوين محكمة من 11 قاضياً منهم قاضٍ مبدئي دولي واحد، وغرفة للمحكمة مكونة من ثلاثة قضاة، أحدهم لبناني، والآخران دوليان، وثمانية قضاة في غرفة الاستئناف، خمسة منهم لبنانيون وثلاثة دوليون، وقاضٍ احتياطي واحد.

وبموجب الاتفاق مع الأمم المتحدة، فإن القضاة يتم تعيينهم من قبل الأمين العام للأمم المتحدة بالتشاور مع الحكومة اللبنانية، ويتم التعيين لمدة ثلاث سنوات. وبينما يحكم القضاة حسب القانون اللبناني، فإن مقر المحكمة سيكون خارج لبنان. ولعل من أهم النقاط التي أثارت تحفظ رئيس الجمهورية، تلك النقطة التي تسمح للمحكمة أن تستنسب مسؤولية الرئيس عن فعل مرؤوسه. ويقول المعارضون لهذه المحكمة إن عملية إقرارها لم تكن دستورية، فحسب المادة الثانية والخمسين من الدستور اللبناني، فإن رئيس الجمهورية هو المسؤول الأول عن الموافقة على مثل هذه المعاهدات، إلا أن المادة الرابعة والخمسين تضمن مشاركة رئيس الوزراء في التوقيع على القوانين، ومنها القوانين الخاصة بالموافقة على المعاهدات الدولية. كما تتطلب هذه المعاهدات مصادقة مجلس النواب.

وبالرغم من أن الدستور اللبناني يكفل شكلاً من أشكال الحكم التضامني بين السلطات التنفيذية والتشريعية، إلا أن المعارضة اللبنانية، ترى كذلك أن مجلس الوزراء قد فقد أهليته بتقديم ستة من أعضائه لاستقالتهم، التي لم يقبلها الرئيس السنيورة.

وبينما يتصارع اللبنانيون على صيغة الموافقة وبنود اتفاقية المحكمة الدولية، فإن مجلس الأمن في النهاية، يستطيع حسب البند السابع، أن يقر هذه المحكمة دون موافقة رسمية لبنانية.

وبينما يظهر على السطح أن المشكلة تكمن في المحكمة الدولية، فإن هناك إشكالات أخرى غير واضحة، فهناك عدم رضا في وسط بعض الأطراف اللبنانية من التوزيع الطائفي والمحاصصة السياسية خاصة في المناصب الوزارية حسب اتفاق الطائف. وهناك محاولات لتعديل بعض بنود تلك الاتفاقية، علماً بأنها قد أصبحت جزءاً من القانون الدولي، حسب نصوص قرارات مجلس الأمن وآخرها القرار 1701، والذي أشار نصاً إلى هذا الاتفاق. كما أن هناك تخوفاً من قبل quot;حزب اللهquot; بشكل من أشكال الحصار الذي يمكن أن تقوم به قوات حفظ السلام الدولية في لبنان، وصولاً إلى نزع جزئي لسلاحه الثقيل. وهناك آخرون ممن يعتقدون أن لبنان، كنتيجة لشروط وقف إطلاق النار في أغسطس الماضي، قد أصبح تحت وصاية الأمم المتحدة وكل من الولايات المتحدة وفرنسا، وبذلك فهم يقولون إن سيادته قد أصبحت منقوصة. ويهرب المحللون اللبنانيون في العادة من الإشكالات الداخلية، ويلقون باللوم على القوى الدولية، ويرون أن الصراع في المنطقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وكل من إيران وسوريا، قد ألقى بظلاله على لبنان، وإن الدول الإقليمية تتخذ من هذا البلد الصغير متنفساً، وبديلاً لصراعاتها الإقليمية الكبرى. وهناك بعض الصحة في مثل هذه التحليلات، لكن ذلك لا ينفي حاجة اللبنانيين أنفسهم لإيجاد حلول توافقية تلبِّي الحد الأدنى من المتطلبات السياسية للقطبين المتنافسين (قوى 14 آذار، وقوى 8 آذار).

في هذه الأثناء يعيش اللبنانيون أزمة اقتصادية خانقة، ويتخوف السياح من زيارة هذا البلد، الذي يعتمد اقتصاده بشكل رئيسي على السياحة والخدمات. ومثلما خسر اللبنانيون موسماً سياحياً صيف هذا العام بسبب العدوان الإسرائيلي، فإنهم يكادون يخسرون موسماً سياحياً آخر يتزامن في العادة مع إجازات الحج ونهاية العام، وهو ما يهدد مصالح الكثيرين في وظائفهم. فالبعد الاقتصادي والبعد الأمني والسياسي مرتبطان بشكل كبير في حياة لبنان وأهله. وكلما أوغل السياسيون في استقطاب القوى السياسية، واللجوء إلى الشارع، فإن قوى المنطق والحكمة تتراجع، وتتعاظم قوى الانفلات والفتنة. ولا يمكن لبلد صغير مثل لبنان أن يتحمل مزيداً من الاستقطاب السياسي، أو غلو المطالب. ولابد للبنانيين وقادتهم أن يعودوا إلى التريث وإعمال العقل، وإلا فإن الاستقطاب السياسي، والاحتقان قد يقودان لا سمح الله، إلى دوامة جديدة من العنف.