راغدة درغام


لا إلغاء الآخر ولا الحوار سيعالج الخلافات الجذرية في الرؤية العربية نحو الذات ونحو دور الدين في السياسة والتشريعات وتجاه فكرة الرضوخ للقيادة الايرانية لمنطقة الشرق الاوسط، على أساس ان ايران هي صرخة الرد على اسرائيل، وليس أمام العرب سوى الاختيار بين فكي الكماشة. واضح ان الشرخ عميق وان الخطاب السياسي هو خطاب التخوين والتكفير والتهم المتبادلة. ولأن هذه معركة تقرير المصير، فإنها تتطلب نقاشاً صريحاً بناءً بين الأركان الفكرية في المنطقة العربية بهدف الخروج باقتراحات تجنب المنطقة المزيد من التصادم بدموية وتدخلها بدلاً من ذلك في البحث عن قواعد الاختلاف مدنياً وحضارياً مع الاحتفاظ بحق الغضب والامتعاض بتعبير سلمي. فلقد سبق ان دعت هذه الزاوية الى التفكير بأصول وظروف وشروط التغيير في المنطقة وان كان laquo;بيدنا أو بيد عمروraquo;. وطرحت السؤال الأساسي laquo;ماذا نفعلraquo;؟ وشارك كبار المفكرين والكتاب والمعلقين في النقاش في صفحات laquo;الحياةraquo;. اليوم، توجه هذه الزاوية دعوة أخرى الى ورشة تفكير في الدور العربي في تقرير توجهات وهوية ومصير المنطقة، وفي الواجب العربي إزاء التحديات في العراق وفلسطين ولبنان والصومال والسودان.

أتت الفكرة أثناء laquo;المنتدى الاستراتيجي العربيraquo; في دبي هذا الاسبوع الذي شاركت فيه نخبة من المهنيين والمفكرين في مختلف القطاعات وخاطبه علي لاريجاني، المسؤول الايراني الأول عن التفاوض في الملف النووي. ففي داخل الندوات، وعلى هامشها في الأروقة والمطاعم، كان معظم الحديث حضارياً في الاختلاف وكان الاختلاف عميقاً - حتى بين صفوف الاتفاق - عندما كان السؤال: كيف نعالج الأمر وماذا نفعل؟

رأي كاتبة هذا المقال هو ان هذه المرحلة من الاحتقان بحيث تجعل من الحوار تمريناً بلا جدوى. الناس افترقت على قضايا، انما في الصميم، فالمسألة قضية هوية وانتماء يتقاطع فيها الدين والمذهب والسياسة والايديولوجيا. وبالتالي فإن الافتراق ليس سطحياً، بل هو عميق. ولا بأس في هذا على الإطلاق، إذ انه جزء من فرز ضروري للهوية والشخصية العربية في مرحلة مليئة بالتساؤلات والتشكيك بالنفس ومفعمة بمشاعر النقص والخجل والاحساس السري بالعيب مما يُدعى واقع الأمة العربية.

بداية، في هذه المرحلة من التاريخ، ان الحديث عن laquo;أمة عربيةraquo; هو بمثابة تضليل للذات وللآخرين. حتى الكلام عن laquo;نحن العربraquo; بصورة جماعية تنقصه دوافع وعناصر مقومات الاستراتيجية الضرورية لإحداث تغيير ملموس، حتى ان كان التعبير عاطفياً بصورة ايجابية.

إنها مرحلة التغيير دولة دولة وبلداً بلداً لبنة بلبنة. من قسَم العرب، ومن فرَق العرب ومن قلَص العرب الى مجرد هامش، ومن تآمر عليهم، ومن كان متواطئاً ضدهم؟ هذه أسئلة تطرح باستمرار وتجد لها عند كل مواطن عربي، ان كان فلاحاً أو استاذاً أو رجل أعمال أو زعيماً، رداً يلوح به راية المعرفة والإدراك. انما هذا ليس هو السؤال الآن ولا هو الموضوع الاساسي المطروح.

المطروح هو ضرورة الاعتراف بأن التغيير لن يأتي الى المنطقة العربية جماعياً وانما هو ممكن فقط دولة بدولة. فالحرب من أجل الهوية وتقرير المصير تخاض الآن على شكل معارك منفصلة في مختلف الدول العربية. عهد انتظار الشارع أو القيادة في مصر، مثلاً، أو غيرها من الدول العربية الكبرى، عهد ولى. فمصر الآن ليست في موقع يمكنها من النفوذ الفعلي القاطع، ولا هي تفكر باستراتيجية سوى استراتيجية البحث عن laquo;أطرraquo; حلول والتحدث بلغة الوساطة والتوسط من أجل إقامة حكومات ائتلاف أو وحدة في المناطق الساخنة.

انها دولة الماضي في نفوذها الاقليمي وهي دولة الحاضر في انصبابها على أولوياتها الوطنية. فهي غير قادرة على فرض تحول في السياسة الاسرائيلية نحو فلسطين. وهي لم ولن تؤثر جذرياً في العراق الا إذا قررت ان تلعب دورها في قيادة استعداد عربي للمشاركة الفعلية بقوات عربية تحل مكان قوات الاحتلال الاميركي في العراق.

ما يمكن للدولة المصرية ان تمارس النفوذ والتأثير بشأنه هو ما يحدث داخل مصر وكيفية مواجهة التحديات وبالذات تلك التي يفرضها الاسلاميون الذين يسعون وراء السلطة ووراء تغيير التشريعات والقوانين لتتماشى مع عقيدتهم.

أحد أهم اخطاء الاسلاميين في المنطقة العربية هو تبنيهم اسلوب الفرض بديكتاتورية تشبه ديكتاتوريات الأنظمة المستبدة في المنطقة العربية. هذا الفرض أدى الى تخويف صفوف الاعتدال الرافضة للأنظمة من البديل الاسلامي عنها ونتجت عنه خسارة الاسلاميين للشراكة مع القوى الديموقراطية التي تريد التغيير بما يشمل ضمان حقوق الاسلاميين. فلقد تبين لهذه القوى ان البديل الاسلامي أصبح أكثر خطراً عليها من الواقع الاستبدادي في كثير من الدول العربية. تبين لها ان القمع الأمني عابر في نهاية المطاف، بينما القمع المنطلق من تسييس الدين ومن الاحساس بالتفوق الديني ومن استخدام الدين لتغيير الدساتير والقوانين انما هو قمع دائم يطيح إطاحة قاضية بالديموقراطيات والحقوق المدنية.

التحاور في هذا الأمر يكاد يكون اضاعة للوقت لا سيما بين الاسلاميين المتطرفين وبين القائلين بالمجتمع المدني والقوانين المدنية. قد يكون الحوار مجدياً أكثر بين الاسلاميين المتطرفين وبين المتدينين من المسلمين. فلو وجدت صفوف التدين تجاوباً معها من قبل صفوف التطرف واستطاعت ان تصون الحقوق والقوانين، بدلاً من تقويضها، لربما استطاعت ان تحشد معها القوى المدنية في نهاية المطاف. وليتها تفعل. فهناك حاجة ماسة لزخم من قوى التدين يتحدى نزعة الفرض والإملاء والاستبداد لدى قوى التطرف بين الاسلاميين.

واقعياً، لا مكان لقوى الاعتدال في هذا الحوار. هناك من يعتقد ان الحوار هو الوسيلة الوحيدة للتفاهم إذا كان إلغاء الآخر أمراً مرفوضاً. نعم ان إلغاء الآخر يجب ان يكون أمراً مرفوضاً قطعاً ثم ان إلغاء الآخر، واقعياً، مستحيل. انما الحوار مستحيل ايضاً في هذا المنعطف لأن كل طرف يحارب من أجل نفسه.

هذا يعني ان التفكير العملي والواقعي يقتضي اعادة خلط الأوراق نحو الحكومات. أي، ان المعركة مع الاسلاميين المتطرفين اصبحت الآن معركة المعتدلين والمدنيين ولم تعد معركة بين الاسلاميين والسلطة. وهذا بدوره يقتضي ان يحدث تحالفاً بين السلطة وصفوف الاعتدال لمقاومة المد الاسلامي المتطرف. هذا الطرح، بالتأكيد، سيستفز الاعتراض وعسى ان يستفز التفكير العميق في الاستراتيجيات المتاحة.

فكما يمكن ان تؤثر قوى التدين ايجاباً في صفوف التطرف الاسلامي، عسى ان تؤثر قوى الاعتدال في قوى السلطة لتدخل اصلاحات جذرية ضرورية واساسية تضمن حقوق المشاركة في صنع القرار وتضع دساتير دائمة تحول دون قمع الحريات.

الفرصة المتاحة، في هذا الطرح، هي فرصة تقوية الدولة مقابل تقوية العناصر المضادة للدولة وعناصر الميليشيات الممولة والمدعومة من خارج البلاد والتي تتحدى سلطة الدولة. هذه الزاوية طرحت في الاسبوعين الماضيين عنوان: اما الدولة أو الميليشيات. والتكرار في محله هنا، إذ ان المصير الصحي للأوطان ليس في تسلط الميليشيات وعبر جيوش دولة داخل دولة، وانما هو عبر التمسك بالدولة.

ومبدأ الدولة يعني بالضرورة الحزم في ممارسة سلطة الدولة في جميع الميادين من التعليم الى الأمن. عندما تنشأ دولة داخل دولة، كما في لبنان الآن مثلاً، يتقدم laquo;حزب اللهraquo; ببرنامج تعليم خاص به ويرفع علمه الخاص به، ويهيئ ميليشياته وجيشه بالصواريخ الايرانية الممدودة اليه عبر سورية لغايات خاصة به وليس لأهداف متفق عليها وطنياً. هذا انشقاق ودعوة الى انتفاضة ضد الدولة كدولة وليس فقط ضد حكومة في السلطة.

والسؤال الضروري الاجابة عليه هو: ماذا يريد قائد laquo;حزب اللهraquo; السيد حسن نصرالله؟ إذا أراد للبنان دولة، ليكن هو الذي يعود الى الدولة ويفرض حقوقه عليها عبرها وليس ضدها وبمنافسة لها. أما إذا أراد الاستمرار بدولة داخل دولة، فإن هدفه الحقيقي هو تدمير دولة لبنان ليفرض نظاماً آخر في ذهنه قد يكون مداً لايران لتنفيذ طموحاتها بالهيمنة الاقليمية، أو ذريعة لسورية لتجنب استحقاقات مصيرية. قد يكون دوراً نرجسياً يرى نفسه فيه قائد الأحلام العربية لتحرير القدس، وقد يكون خطأ تاريخياً يرتكبه ليس بحق لبنان فقط وانما بحق الطائفة الشيعية اللبنانية.

المهم ان laquo;حزب اللهraquo; بقيادة السيد حسن نصرالله يتبنى الآن مبدأ الغاء الآخر. انه يرفض العودة الى طاولة الحوار وما يريده هو اما الهيمنة على القرار السيادي للدولة اللبنانية بما يعطيه جميع وسائل الهيمنة، أو الغاء الدولة والغاء الآخر اللبناني في صنع القرار، ولن ينجح.

لن ينجح لأن laquo;حزب اللهraquo; خاسر لو انتصر ولو انهزم. انه سيفشل لأنه ليس قادراً على ادارة laquo;الانتصارraquo; في حربه مع اللبنانيين وليس قادراً على تفسير laquo;الانهزامraquo; لدى المنبهرين به في البقعة العربية والاسلامية. ما يأخذ البلاد اليه يتطلب ليس من اللبنانيين فقط، وانما من القطاعات الفكرية العربية وكذلك تلك التي في الساحة الأميركية، ان تكف عن تفسير وتبرير ظاهرة المقاومة من جبهات مصطنعة ومختلقة. فالمسألة في بالغ البساطة، وهي تتكون من خطوات بديهية تتمثل اولاً في الاصرار على سورية ان ترسم الحدود مع لبنان لنرى ان كانت شبعا حقاً اراضي لبنانية أو سورية. فإذا كانت لبنانية، تطالب الدولة، بل يفترض أن يمكّن حسن نصرالله الدولة بإمكانياته العسكرية الهائلة ليكون تحت ولائها ويقود معها معركة تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة.

وإذا كانت مزارع شبعا سورية، يمكن لـ laquo;حزب اللهraquo; ومعه الفصائل الفلسطينية والشعوب العربية والقيادة الايرانية ان تحشد المقاومة ضد اسرائيل من الجبهة السورية ليحرر الجولان المحتل أيضاً وليس مجرد مزارع شبعا.

معنى الحديث ان الوقت حان للكف عن بيع الكلام للشعوب العربية ولكف الشعوب العربية عن مضغ الكلام المعسول لتخدّر مشاعر عجزها وضعفها واستلقائها في ملامة الآخرين لا سيما الولايات المتحدة الأميركية.

الأخطاء الأميركية ضخمة نحو المنطقة والغايات الأميركية ليست صادقة. الأميركيون لم يزعموا ان لهم علاقة حب وغرام مع العرب، ولذلك ليس مفهوماً لماذا يعاتب العرب الأميركيين من منطلق البغض والمحبة. الاتحاد السوفياتي سابقاً، وروسيا حالياً، كما الصين، دول لا تنطلق من غرامها بالمنطقة العربية أو مع ايران وهي تصنع التحالفات وتبحث عن المصالح. علاقة روسيا والصين بايران علاقة نفطية واستراتيجية والعرب همَشوا أنفسهم في الاعتبارات الدولية الاستراتيجية لأنهم لم يستخدموا مواردهم وقدراتهم باستثمار وانما تلقوا الأمن الخارجي وهدروا من أجله الأموال والأجيال. وربما أمامهم فرصة الآن تتمثل في التلهف الأميركي للخروج من العراق ليس جثثاً متكاثرة بل من دون خسارة وانهزام وباحتفاظ بقواعد في داخل العراق وفي الجيرة الخليجية له.

جورج دبليو بوش ليس متشوقاً لتبني اقتراحات احتضان ايران كعربة خلاص من العراق ولا سورية كوسيلة لتسهيل الخروج الأميركي اللائق. على الدول العربية الكبرى تقليدياً مثل السعودية ومصر ان تتقدم بطروحات بديلة لطروحات البراغماتيين الجدد الأميركيين تتضمن الاستعداد للمساهمة الفعلية والملموسة في العراق، جيوشاً ومالاً ونفوذاً سياسياً ودينياً. فعراق اليوم مسؤولية عربية مهما كان ضحية أخطاء اميركية وطموحات ايرانية.

ايران تريد العراق ذخيرة لها في بنائها على العداء لأميركا وهي تستغل القضية الفلسطينية وتبتزها بهدف إظهار الضعف العربي لا غير. فايران لا تقدم للفلسطينيين تحت الاحتلال وسائل الخلاص السلمي من الاحتلال ولا تقدم لهم وسائل الحرب على الاحتلال للانتصار عليه. وايران لا تخفي استخدامها laquo;حزب اللهraquo; وكيلاً عنها في ضرب الاستقرار في لبنان لغايات تخريبية وحماية لحليفها السوري من المحكمة الدولية التي ستحاكم الضالعين في اغتيالات سياسية في لبنان.

ما العمل بايران اذن، عربياً، وليس أميركياً؟ هذا سؤال على المفكرين العرب أن يتمعنوا فيه لايجاد وسائل الرد على استراتيجية ايرانية قوامها الهيمنة على المنطقة بشراكة مع اسرائيل وبتحقير للعرب. فالرد ليس ابداً ان على العرب الاختيار بين قطبي اسرائيل وايران، ففي هذا تحقير للذات وانزواء في الحضيض.

الاجابة تكمن في الجرأة على خيارات غير تقليدية مثل رفض الخضوع أمام التخويف، وانتزاع بعض الثقة بالنفس وبالقدرة على تقرير المصير ورسم هوية مميزة. فنموذج الجمهورية الاسلامية الايرانية ليس ابداً نموذجاً ملهماً يُقتدى به يجعل الشباب العربي متشوقاً اليه. وحكام ايران، شأنهم شأن التدميريين من الجهاديين، لم يتقدموا أبداً بحلول سلمية أو حربية للقضية الفلسطينية التي يودون سرقتها لامتصاص العاطفة العربية. انهم قبضوا على العراق وادخلوه في جيبهم بسبب الغزو الأميركي واحتلال العراق. وهم يستنزفون العراق لغايات الهيمنة الاقليمية.

فقليل من الصحوة العربية في محله. قليل من الثقة بالنفس على رغم كل الأخطاء العربية الشعبية منها والحكومية. ان الخلاص ليس في المزيد من الانزلاق في الحضن الايراني أو حضن التطرف الاسلامي، انه في الجرأة على تشخيص المرض والبدء في نوع جديد من النقاش.