د. جانا بوريسوفنا



مع توالي الأحداث وظهور حقائق وشهادات ومعلومات كانت مجهولة حول طبيعة نشاط ضابط المخابرات الروسية السابق الكسندر ليتفينينكو، جعل هذه القضية تتحول إلى مسلسل تلفزيوني بوليسي أميركي مثير، وبالرغم من أنها خارج نطاق عملي، إلا ان هذه التطورات أثارت اهتمامي ودفعتني لمشاركة القراء في تساؤلات تدور في ذهني.

فبعد أن وجهت الصحافة الغربية أصابع الاتهام نحو هيئة الأمن الفيدرالية الروسية، وحملتها مسؤولية اغتيال ليتفينينكو، ظهر أن ضابط الاستخبارات الروسية السابق قد أصيب بالإشعاع عقب لقائه شريكين له في أعمال تجارية غير واضحة المعالم، وهما أندريه لوكوفوي (ضابط سابق في الاستخبارات الروسية،

ورئيس حرس المليونير الروسي ـ الإسرائيلي الهارب بوريس بيريزوفسكي) الذي يخضع لفحوص طبية بعد أن اكتشفت أثار مادة البوليونيوم المشعة في جسده، وديمتري كوفتون رجل الأعمال الروسي الذي اكتشف في منزله بمدينة هامبورج الألمانية آثار لمادة البولونيوم المشعة.

ولعل اكتشاف آثار البولونيوم في سيارة كوفتون، وتأكيدات الشرطة البريطانية بعدم وجود أية آثار للإشعاع في الحافلة التي استقلها ليتفينينكو من منزله إلى فندق laquo;ميلينيومraquo;، حيث التقى مع شريكيه كوفتون ولوكوفوي ـ حيث تناول معهم الشاي والذي اكتشفت أثار البولونيوم المشع فيه ـ دفعت أجهزة الأمن للاعتقاد بأن كوفتون هو المشتبه به الرئيسي في مقتل ضابط الاستخبارات الروسية السابق ليتفينينكو.

ويأتي اكتشاف آثار المادة المشعة في الفندق الذي أقام فيه كل من كوفتون ولوكوفوي كدليل على أن البولونيوم كان بحوزة أحدهما وقد أثار اختفاء يفجيني ليماريف ضابط المخابرات الروسية السابق الهارب من موسكو، والذي يقيم في جنوب فرنسا تحت حماية الاستخبارات الفرنسية تساؤلات جديدة، بعد أن أعلن ليماريف عن أنه أصبح مستهدفا من قبل الجهة المجهولة التي اغتالت ليتفينينكو،

وقد اعترف ليماريف أنه سلم ليتفينينكو قائمة بأسماء الأشخاص الذين تنوي تصفيتهم منظمة باسم (الشرف والكرامة) لقدامى المحاربين في قسم الجاسوسية بجهاز الاستخبارات الخارجية، وانه ـ أي ليماريف ـ سيكون مستهدفاً بعد تصفية ليتفينينكو. وأضاف أن خلافاً حاداً كان قد نشب بين زميله والمليونير الروسي الهارب بيريزوفسكي في الفترة الأخيرة من دون أن يكشف عن جوهر الخلاف.

وتظهر يومياً ملابسات وشخصيات في مجرى التحقيقات الجارية تثير تساؤلات عديدة حول حقيقة نشاط ضابط الاستخبارات السابق الكسندر ليتفينينكو؟ ما نعرفه أن ليتفينينكو كان يعمل منذ أواخر الثمانينات في جهاز المخابرات السوفييتية، وواصل عمله عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في هيئة الأمن الفيدرالية، ووفق روايته كلف في النصف الثاني من التسعينيات ـ خلال عمله إدارة الجريمة المنظمة ـ بمهمة تصفية أحد عملاء المخابرات الروسية السابقين،

باعتبار انه كان يمتلك معلومات عن فساد قيادة الجهاز.وفى عام 1998 عقد ليتفينينكو مؤتمرا صحفيا في موسكو انتقد فيه قيادة الاستخبارات الروسية، واتهم قيادته بالتخطيط لاغتيال المليونير الروسي ـ الإسرائيلي بوريس بيريزوفسكي، وتم اعتقاله في عام 1999 بتهمة استخدام سلطاته في أغراض خاصة، إلا أن المحكمة برأته وأفرج عنه بعد عدة شهور، ووفق روايته لم تكتف أجهزة الأمن بالضغط عليه

وإنما بإزعاج أسرته نظرا لتوفر معلومات لديه حول حوادث تفجير المباني السكنية التي شهدتها موسكو عام1999 وراح ضحيتها حوالي 300.وبعد ان تم فصله من المخابرات عمل مستشارا لدى بيريزوفسكي، واستمرت عملية توجيه اتهامات إلى ليتفينينكو واعتقاله، ثم تبرئته والإفراج عنه،

حتى تمكن من الهرب من روسيا إلى تركيا، وبمساعدة الكسندر جولد فارب المهاجر الروسي ـ اليهودي إلى الولايات المتحدة، والذي توجه إلى انطاكية عقب اتصال ليتفينينكو به، وصل ضابط المخابرات الروسي إلى بريطانيا، حيث يقيم المليونير الهارب بوريس بيريزوفسكي.

وأصدر ليتفينينكو كتابه الوحيد حول مجموعات الجريمة في الاستخبارات الروسية عام 2003، ومنذ تلك الفترة، استقر به المقام في احدى ضواحي العاصمة البريطانية.

ومن الحقائق التي أثارت تساؤلات إضافية أن الكسندر ليتفينينكو الذي أشهر إسلامه في فترة ما خلال إقامته في بريطانيا، كان قد زار إسرائيل خلال العام الحالي بهدف تحقيق حول قضية تصفية الشركة النفطية الروسية (يوكوس)، والتقى مع ليونيد نفزلين أحد كبار المساهمين في الشركة النفطية، والذي هرب من موسكو إلى إسرائيل،

وحصل على الجنسية الإسرائيلية قبل أن تهبط الطائرة التي نقلته على أراضي إسرائيل. وعقب وفاة ليتفينينكو توجه وفد من الموساد إلى لندن، لمساعدة أجهزة الأمن البريطانية في التحقيق في مصرع ضابط الاستخبارات الروسية السابق.

ملاحظات سريعة

ـ تكشف المعلومات التي رواها ليتفينينكو حول حياته من منتصف التسعينات حتى وفاته عن ارتباطه مع بيريزوفسكي منذ بداية الصدام مع أجهزة الأمن الروسية وحتى هروبه إلى بريطانيا وحصوله على جواز السفر البريطاني. ـ مجموعة الصلات التي كشفت عنها التحقيقات والأشخاص الذين كانوا على اتصال مع ليتفينينكو تربط بينهم صلة عمل منذ التسعينات في جهاز الاستخبارات الروسية.

ـ مادة البولونيوم المشعة نقلت من موسكو إلى لندن، وظهرت في لقاء بين الشركاء الثلاث (ليتفينينكو، كوفتون، لوكوفوي)، ومن المعروف أن الشريكين الآخرين يقومان بأعمال تجارية يمكن أن تشمل تسويق مواد مشعة. ـ صلات المليونير الروسي ـ الإسرائيلي بوريزوفسكي مع بعض قيادات المقاتلين الشيشان الذين يشتبه بوجود صلات لهم مع القاعدة.

ـ نشاط ليتفينينكو منذ عام 1998 كان موجها لصالح مجموعة رجال الأعمال المتهمين من جانب الكرملين بنهب المال العام، والذين يقيم اغلبهم في إسرائيل، بل أن تاريخ بعضهم يكشف عن أن مصدر ثرواتهم كان نتيجة لأعمال المافيا الروسية في تهريب الماس والجريمة المنظمة.

ـ قضية ليتفينينكو التي فجرت عمليا ملف الفساد في الاستخبارات الروسية ظهرت قبل عام واحد من انتخابات البرلمان والرئاسة في روسيا، والتي تعتبر انتخابات حاسمة، باعتبار أن روسيا ستختار رئيسا جديدا لها، بدلا من الرئيس الحالي فلاديمير بوتين.

وبدون التسرع في الاستنتاج والتحليل يبدو واضحا أن بيريزوفسكي يشكل قاسما مشتركا في كافة تفاصيل هذه القضية مما يعنى أنها تحمل بعدا سياسيا. في نفس الوقت لابد من الاعتراف بمشروعية تساؤل العديد من المحللين حول مصلحة هيئة الأمن الفيدرالية الروسية في اغتيال ليتفينينكو الآن،

وإذا اعتبر البعض أنها عملية انتقامية أو لمنعه من كشف أسرار عمل الاستخبارات، فلماذا لم يتم هذا الاغتيال في أواخر التسعينات عندما كان الحدث حيا، وكانت الإمكانية متوفرة؟والسؤال الأكثر أهمية.. هو بعد أن تمكن ليتفينينكو من الهرب وإصدار كتابه حول الفساد في المخابرات الروسية، وحصل على حق الإقامة في بريطانيا، ما هي خطورة تأثيره على السلطة الروسية بعد مرور 3 أعوام؟

ويبقى تساؤل أخير يستحق الاهتمام.. هل يمكن أن يدور الحديث عن صراع بين مجموعة من المتورطين في تهريب مواد مشعة من روسيا لبيعها لمن يشتري لا يحركهم إلا الحصول على الأموال الطائلة حتى لو كان ثمن ذلك دماء ومصائر آخرين؟

للإجابة عن هذه الأسئلة لابد من البحث عن المستفيد من اغتيال ضابط المخابرات السابق الذي هجر مهنته، وغادر بلاده واستقر به المقام في بريطانيا.