داوود الشريان

حظيت الموازنة السعودية الجديدة بتغطية اعلامية واسعة تتناسب مع حجمها، بأعتبارها الاعلى في تاريخ البلاد، اذ بلغت 380 بليون ريال. وخصصت القنوات الفضائية والصحف ووكالات الالنباء مقالات وبرامج وتعليقات للحديث عن الموازنة الحدث. وانشغل الاقتصاديون ببنود الموازنة التي اعلنت بوضوح بدء الطفرة الاقتصادية الثانية في المملكة العربية السعودية. لكن هذه الموازنة الجبارة بكل المقاييس لا تعكس نجاحاً اقتصادياً وتنموياً فحسب، وانما تعكس ايضاً نجاحاً سياسياً وأمنياً لا يقل اهمية عن النجاح الاقتصادي او يفوقه.

ولهذا، يجب ان تقرأ الموازة الجديدة من زاوية سياسية. فالسعودية تعيش في ظروف امنية خاصة وتواجه منذ خمس سنوات ظاهرة الارهاب. وهي دفعت خلال هذه الحرب الكثير من الشهداء والخسائر المادية والمعنوية. لكن هذه المعركة، على خطورتها وتواصلها، لم تستطع خطف بوصلة الاهتمام السعودي. فاستمرت الرياض تتعامل مع الظاهرة، واستمرت عجلة الحياة في نمو مضطرد. ولو ان الرياض اعلنت حالة الطورئ القصوى وجندت كل مواردها الاقتصادية بحجة محاربة الارهاب، وجمدت كل مجالات الحياة الاخرى فلربما وجدت دعماً دولياً غير مسبوق، على أعتبار ان رفع شعار محاربة اصبح وسيلة لكسب رضا المجتمع الدولي. لكن هذا لم يحدث.

صحيح ان السعودية لم تتجاهل الظاهرة، وحققت في مجال محاربتها نجاحات متميزة و متوالية، وهي تعتبر على رأس الدول التي تفوقت في اطفاء ظاهرة الارهاب داخل حدودها. ورغم ذلك ظلت تتعامل مع قضية الارهاب على نحو لا يمنع عجلة التنمية من السير، فضلاً عن ان السعودية وجدت ان الحل الامني على اهميته وتفوقها فيه غير كاف لمواجهة الظاهرة التي تشكلت عبر عوامل عديدة من بينها الفقر والبطالة، وتفشي الفكر المتخلف وضياع الأمل بعيش كريم. ولهذا وضعت قضية الارهاب في رأس قائمة اكبر همومها، لكنه ليس كل الهم او الهم الوحيد. وهنا لا بد من التوقف عند دور الملك عبدالله بن عبدالعزيز في هذا التوجه. فهو تولى مقاليد الحكم وظاهرة الارهاب في اعلى مراحل عنفها. وكان بأمكانه لتحسين صورة بلادة التي تأثرت بعد احداث ايلول (سبتمبر) ان يرفع شعارraquo; لا شيء يعلو فوق صوت المعركةraquo;. لكنه لم يفعل، فرفع شعارات اهم واجدى. فانحاز الى التنمية وتحسين مستوى معيشة الفرد وانشاء وتطوير البنية الاساسية للبلد. والمتابع لاهتمامات المجتمع السعودي، ووسائل اعلامه يتأكد ان الملك عبدالله بن عبدالعزيز نجح الى حد كبير في كسب الرهان ضد الارهاب، وان سياستة حققت هدفها. فاستطاع بهذا الانحياز الحكيم ان يقود المجتمع الى المستقبل ويتجاوز به ومعه ظاهرة الارهاب.

ليس هذا فحسب، فظاهرة الارهاب فرضت في غير دولة، حتى الدول المتقدمة منها، قوانين واجراءات طاولت حقوق الانسان وحرية التعبير وخصوصيات البشر. وفي السعودية جرى العكس تماماً، فترافقت الحرب على الارهاب مع مناخ اعلامي منفتح. وارتفع سقف حرية الاعلام الى حد بعيد، واصبحت الصحافة السعودية تناقش اكثر القضايا حساسية. والموقف هنا ليس بمعزل عن الانحياز للتنمية وتحسين المستوى الاقتصادي. فسطوة الرأي الواحد، وأقصاء الآخر وقمع الرأي المخالف من الاسباب التي تزيد الاحتقان والتطرف وصولاً الى الارهاب. ولهذا كان قرار الملك عبدالله بن عبدالعزيز واضحاً من خلال تبني مبدأ الحوار الوطني الذي اصبح منهجا لوسائل الاعلام وداخل اروقة الشورى. وعوضاً عن تبني سياسة التشدد تحت ذريعة محاربة الارهاب كانت سياسة الملك محاربة الارهاب بالمزيد من حرية التعبير والحوار.

ان لجم ظاهرة الارهاب في السعودية ليس مجرد تفكير بالتمني، او شعارا سياسيا للاستهلاك. فما تحقق في الموازنة الجديدة من نمو في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 4.2 في المئة، ومحافظة على مستويات منخفضة للتضخم على الرغم من زيادة الإنفاق الحكومي ونشاطات القطاع الخاص، وخفض الدين العام الى مستوى قياسي، ودعم احتياط الاجيال المقبلة بمئة بليون ريال، اكبر دليل على ان السياسية التي تنتهجها الحكومة السعودية حققت اهدافها، وان كل ما يقال عن أحادية الحلول في مواجهة الظاهرة الخطيرة، واقتصار المعركة على الشق الامني مجرد كلام تكذبه الارقام التي لا تخطئ ولا تحتمل التأويل والاقاويل. والخلاصة من كل هذا ان السعودية نجحت في خلق وسيلة سلمية وراقية لمواجهة العنف. فهي استطاعت ان تهزم الارهاب بالتنمية وخلق فرص العمل، ومنح الناس القدرة على التفكير بيوم غد.