الجمعة 29 ديسمبر2006

محمد السماك

هل تعود المنطقة إلى عهد الصراع الفارسي - التركي (الصفوي - العثماني)؟ في تلك الأيام الغابرة كانت الشعوب العربية تدفع ثمن الصراع. فمع تقدم الأتراك كان الشيعة العرب الضحية. ثم مع انحسارهم وتقدم الفرس، كان السنّة العرب هم الضحية. وحتى في حالات التفاهم الفارسي- التركي، وهي حالات قليلة، كان العرب سنّة وشيعة هم الضحية. المشهد الحالي يشير إلى بداية الدخول في مرحلة جديدة من هذا الصراع. فإيران تعزز دورها وحضورها إقليمياً معتمدة على أمور ثلاثة: أولاً: إعلان نفسها حامية للإسلام وللحقوق الإسلامية بدءاً من فلسطين وخاصة من القدس. ثانياً: اعتمادها على تعاون الشيعة العرب على قاعدة ولاية الفقيه. والفقيه الوالي هو الإمام الخامنئي. ثالثاً: تطوير وتحديث قوتها العسكرية وتنمية قدراتها النووية. وثمة أمر رابع لا يقل أهمية، يتمثل في حالة التشرذم والضعف التي يمرّ بها العالم العربي. أما تركيا، فإنها في توجهها نحو أوروبا منذ العام 1999 بدت وكأنها تدير ظهرها إلى الشرق الأوسط. غير أن انفجار العراق المدوي واحتمالات تفتته مذهبياً وعنصرياً، فرض عليها إعادة النظر في سلم أولوياتها الاستراتيجية. ذلك أن قيام كيان سياسي كردي في شمال العراق يشكل في حد ذاته عاملاً مشجعاً لحركة الانفصال التي يقوم بها الأكراد في جنوب شرق تركيا. كما أن العراقيين التركمان (أي المتحدرين من أصول تركية)، يتطلعون إلى تركيا لرفع الغبن الذي قد يتعرضون له بسبب كونهم أقلية وسط الأكثرية الكردية في شمال العراق. وسواء كانت هيمنة إيران على العراق الجديد، مباشرة أو غير مباشرة، فإن من شأنها أن تقلب موازين القوى بين الدولتين الكبيرتين تركيا وإيران . وتقلق احتمالات هذه الهيمنة الإيرانية الدول العربية أيضاً ولاسيما دول مجلس التعاون الخليجي والدول الأخرى المتاخمة للعراق، وهي الأردن وسوريا. وفي الأساس هناك أزمتان غير صامتتين بين إيران ومجلس التعاون. وهما: 1- احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث في الخليج العربي، وهي طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى. 2- المشروع النووي الإيراني وانعكاساته على أمن وسلامة منطقة الخليج. وبمعزل عن البعد العربي في العلاقات التركية- الإيرانية، لابد من التوقف أمام الآثار المباشرة وغير المباشرة للمحاولات الأوروبية المتكررة التي تستهدف تأخير وتعطيل عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، على التوجه التركي نحو الشرق الأوسط من جديد. فبعد القرار الذي اتخذه القادة الأوروبيون في أكتوبر 2005 بإجراء مباحثات حول الانضمام الكامل لتركيا، اتخذوا هذا الشهر -ديسمبر 2006- قراراً معاكساً بتجميد مباحثات الانضمام. وبرروا الموقف المعاكس بمخالفة تركيا لشرط من شروط الانضمام وهو فتح مطاراتها وموانئها أمام طائرات وسفن قبرص اليونانية التي أصبحت عضواً كاملاً في الاتحاد، فيما بقي مصير قبرص التركية -الشمالية- معلقاً. هذا في الشكل. أما في الجوهر فإن الأوروبيين ليسوا تواقين لقبول العضوية التركية. فالاستفتاء على الدستور الموحَّد سقط في فرنسا وهولندا بسبب ذلك. ثم إن الحزب quot;المسيحي الديمقراطيquot; الحاكم في ألمانيا يعارض هذا الانضمام. وقد مارست النمسا حق quot;الفيتوquot; ضد طلب الانضمام التركي أيضاً. وهو حق قد تمارسه اليونان وقبرص كذلك. ومن هنا تبدو الطريق الأوروبية مغلقة أمام تركيا رغم كل الإصلاحات التي قامت بها لتسهيل عملية قبولها. ومن هنا أيضاً حتمية التوجه التركي شرقاً نحو دول آسيا الوسطى والقوقاز. وجنوباً نحو الشرق الأوسط والخليج العربي. فسواء كان الموقف الأوروبي السلبي من تركيا مقصوداً لدفع تركيا جنوباً، أو غير مقصود، فإن النتيجة واحدة. وهي أن ذلك يوجب التحسب لاحتمالات المواجهة التركية- الإيرانية من جديد. تثير هذه الاحتمالات قلقاً شديداً يتمثل في التساؤلات التالية: هل يقوم تحالف عربي- تركي في مواجهة المشروع الإيراني في المنطقة؟ وهل يأخذ هذا التحالف الهوية المذهبية (السُّنية)؟ وماذا عن موقف العرب الشيعة؟ هل يجدون أنفسهم مضطرين للاختيار بين الولاء لأوطانهم العربية والولاء لإيران (ولاية الفقيه)؟ وهل تؤدي كل هذه التحولات إلى صناعة الشرق الأوسط الجديد الذي تحدثت عنه الإدارة الأميركية؟ وهل يُستدرج العالم العربي وتركيا وإيران إلى هذه الفتنة الكبرى؟ تلعب عدة أمور دوراً أساسياً في صبّ الزيت على نار الفتنة. في مقدمة هذه الأمور المصلحة الأميركية المباشرة التي تقع في إطار ما تسميه الولايات المتحدة quot;الحرب على الإرهابquot;. ففي حسابات بعض أجنحة إدارة الرئيس بوش، فإن quot;الإرهابquot; سنّي. وأن العنف شيعي. وأنه من المفيد توفير الظروف التي تساعد على توجيه سهام الطرفين نحو الداخل الإسلامي لاستنزاف طاقتيهما معاً ولصرفهما عن استهداف أمن الولايات المتحدة ومصالحها. وهنا، فإن مشروع الفتنة السنّية- الشيعية يحقق لبعض الأوساط في الولايات المتحدة هدفاً استراتيجياً تعجز -وقد عجزت بالفعل- عن تحقيقه بوسائلها العسكرية (اجتياح العراق وأفغانستان والحرب الإسرائيلية على لبنان)، أو بوسائلها السياسية والإعلامية (حملات تشويه الإسلام وممارسة كل صنوف التمييز الديني والعنصري ضد المسلمين). ومن هذه الأمور أيضاً تعامل إسرائيل مع المشروع النووي الإيراني والذي تعتبره خطراً على أمنها الاستراتيجي. وعندما يصبح القلق من هذا المشروع قلقاً عربياً أيضاً -بغياب التفاهم والثقة والتنسيق بين إيران والدول العربية- فإنه يخشى أن تأخذ المواجهة طابعاً عربياً- إيرانياً.. وبالتالي سُنياً- شيعياً. ومن هذه الأمور كذلك تعثر جهود المؤسسات العربية والإيرانية للتقريب بين المذاهب (وخاصة بين السنّة والشيعة) وهو تعثّر يتزامن مع المجازر المذهبية التي تقع كل يوم في العراق والتي تحصد المئات من الضحايا. كما أنه يتزامن مع نشر معلومات(؟) عن عمليات مبرمجة لاختراق المجتمعات السنّية في بعض الدول العربية -كالسودان وسوريا مثلاً- لتشييعها، من خلال المساعدات المالية. قد يكون من المفيد هنا التذكير -مجرد التذكير- بالمشروع الإسرائيلي لإعادة النظر في خريطة المنطقة من باكستان حتى المغرب، على أساس أن يكون لكل جماعة عنصرية وطائفية ومذهبية وحتى قبلية كيان سياسي خاص بها. وهو مشروع عملت إسرائيل -ولم تزل تعمل- على تنفيذه منذ الخمسينيات من القرن الماضي بدءاً بلبنان، وقد ظهرت مؤشراته في جنوب السودان وفي شمال العراق وحتى في أواسط الجزائر وجنوب المغرب. ولا يزال هذا المشروع يعتبر الأساس للأمن الاستراتيجي الإسرائيلي. ومن الواضح أن الإدارة الأميركية الحالية تبنّته أكثر من أي إدارة سابقة، فكانت الحرب على العراق وما أسفرت عنه حتى الآن من اندلاع الفتن المذهبية والعنصرية والطائفية. ثم كانت قضية دارفور في شرق السودان. وكانت سلسلة الفتن المتنقلة من صعيد مصر حتى فلسطين ولبنان.. والآتي أعظم. وبدلاً من أن يكون هذا المشروع حافزاً إضافياً لمزيد من الوحدة بين الدول العربية ولمزيد من التضامن بين الدول العربية والدول الإسلامية (تركيا وإيران)، أو على الأقل، بدلاً من أن يكون عاملاً منبِّهاً للخطر المحدق بهذه الدول وبوحداتها الوطنية وبعلاقاتها المشتركة، فإنه يتسلل عبر عروقها المذهبية والعنصرية ليدمر خلاياها الحية ويحوّلها إلى جثث مقطعة الأوصال. عندما كان الفرس (الصفويون) والأتراك (العثمانيون) يتقاتلون فوق الأرض العربية، لم تكن هناك إسرائيل. أي أنه لم يكن هناك عدو مشترك. كان هناك تقاتل من أجل التفوق والتوسع. أما الآن فمع وجود إسرائيل، ومع وجود مشروعها التدميري الخطير، فإن الإيرانيين والأتراك والعرب مدعوون للدفاع عن وجودهم ومستقبلهم. وما لم يدركوا خطر هذا العدو المشترك. فسيجدون أنفسهم جميعاً غارقين في وحول الفتنة الكبرى التي تستدرجهم إسرائيل إليها.