عبد الباري عطوان

فجأة وفي اطار الحد الادني من المقدمات، بدأنا نسمع عن مبادرات سلام اسرائيلية وفلسطينية، وسخونة في الاتصالات بين اكثر من عاصمة عربية، والقدس المحتلة. فما هي القصة، وماذا تغير، وهل الوقائع علي الارض الفلسطينية المحتلة توفر المناخ الملائم لتحقيق تقدم علي هذا الصعيد؟ العجلة بدأت في الدوران في هذا الاتجاه بعد خطاب السيد محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الذي اعلن فيه الدعوة الي انتخابات تشريعية ورئاسية بعد وصول مشاورات تشكيل حكومة وطنية الي طريق مسدود.
السيد عباس طار الي القدس المحتلة وحل ضيفا علي مائدة عشاء ايهود اولمرت رئيس الوزراء الاسرائيلي، وكان عناقا حارا بين الرجلين وكأنهما شقيقان افترقا عن بعضهما البعض لعدة عقود. لماذا هذا العناق، وكيف يتم والمسيرة التفاوضية لم تبدأ بعد، والحائط ما زال يلتهم الاراضي الفلسطينية ويشتت العائلات، وعمليات الاغتيال للناشطين من حركات المقاومة لم تتوقف؟ الاجابة علي هذا السؤال عند السيد عباس والفريق الذي يحيط به ويشجعه علي السير في هذا الطريق.
اولمرت سيتوجه الي القاهرة بعد ثلاثة ايام والسيد احمد ابو الغيط وزير خارجية مصر حط الرحال في تل ابيب والتقي نظيرته الاسرائيلية تسيبني ليفني للاعداد لهذه الزيارة، بينما تستعد السيدة كوندوليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة للقيام بجولة اخري في المنطقة لاكمال ما بدأه سفيرها المتجول توني بلير رئيس وزراء بريطانيا.
يبدو ان هناك طبخة ما يتم اعدادها علي نار ملتهبة، حتي تنضج بسرعة قياسية، لان الوقت لا ينتظر. والتفسير الوحيد لهذه العجالة، هو وجود سيناريو امريكي لحرب جديدة في المنطقة تستهدف محور الشر الجديد، اي ايران وسورية وحزب الله وحركتي حماس والجهاد الاسلامي.
اسرائيل ستكون محور الثقل الاساسي في حلف بغداد الجديد الذي سيضمها الي جانب المعتدلين العرب مثل مصر والمملكة العربية السعودية والاردن ودول الخليج، ولذلك لا بد من تحسين صورتها، واعادة تقديمها كدولة معتدلة محبة للسلام حتي لا تحرج عضويتها في هذا الحلف بعض المعتدلين العرب الذين جعلوا من ايران العدو الاخطر علي العرب والمسلمين.
السيد ياسر عبد ربه عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير والشريك العربي الفلسطيني في وثيقة جنيف التي تنازلت عن حق العودة، صرح امس ان الجانب الفلسطيني مستعد للدخول في مفاوضات مباشرة مع اسرائيل حول الحل الدائم حتي تحت اطلاق النار ومن دون اي اعتبار لأي خرق يتم لأي هدنة بين الطرفين . اما السيدة ليفني فتحدثت عن خطة مفصلة عملية تقضي بوجود دولة فلسطينية الي جانب دولة اسرائيلية، ما يقدم حلا كاملا لمشكلة الشعب الفلسطيني واللاجئين الفلسطينيين . واكدت انها لا تمانع في اجراء مفاوضات تحت اطلاق النار.
هذا الغزل بين السيد عبد ربه والسيدة ليفني جاء بعد رواج انباء عن لقاء جمعه بها بحضور السيد سلام فياض وزير المالية الفلسطيني الاسبق الذي فرضته الولايات المتحدة ودول عربية اخري فرضا وبالقوة علي الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وبعد اعلان السيد عباس انه يفضل وجود قناة خلفية للمفاوضات بين الاسرائيليين والفلسطينيين.
ولا نفهم هذا الغرام المزمن لدي السيد عباس للقنوات السرية، والمفاوضات خلف ابواب مغلقة، وهو الذي لا يتردد عن معانقة اولمرت وكل المسؤولين الاسرائيليين الذين يقابلهم في وضح النهار وامام عدسات التلفزة. انها حالة مرضية لا نري لها تفسيرا، ولا نعرف كيف يمكن الشفاء منها.
السؤال المطروح حاليا، وبالحاح، هو كيفية دخول السيد عباس واتباعه في مفاوضات، سرية او علنية، مع الاسرائيليين وهو لا يملك الاغلبية في المجلس التشريعي، والأهم من ذلك لا يملك الثقل الذي يؤهله لتسويقها الي الشعب الفلسطيني كافة في الوطن والشتات، بل وحتي داخل تنظيم فتح الذي يتزعمه ويتحدث باسمه؟
نستطيع ان نتلمس طبيعة المخطط الذي يسير علي نهجه السيد عباس بالتنسيق مع الامريكان، علاوة علي مصر والاردن، دون ممانعة اسرائيلية، من خلال ما يتسرب من انباء عن تسمين الحرس الجمهوري وتسليحه بأحدث الاسلحة حتي يكون العمود الفقري لتنفيذه.
مصر والاردن يدربان عناصر هذا الحرس ويسلحانه بموافقة اسرائيلية، وبتمويل امريكي ـ اوروبي يصل الي خمسين مليون دولار كدفعة اولي، بحيث يصل تعداده الي عشرة الاف شخص.
الحرس الجمهوري الفلسطيني (اين الجمهورية؟) سيكبر ويتضخم، وسيحظي بأحدث الاسلحة، وابرع المدربين، ولكنه سيكون جيشا مثل جيوش حكومة فيشي التي دربها وأسسها المحتل النازي في المانيا، انهارت مع دخول اول رجل مقاومة الي الاراضي الفرنسية.
سيكون جيشا بلا حافز وطني، وسيظل في اعين ملايين الفلسطينيين، بمن فيهم شرفاء حركة فتح، الحركة الوطنية الأم، الجيش الذي ينفذ ارادات امريكا واسرائيل، في سحق المقاومة، وفرض تسوية منقوصة لا تحقق الحد الادني من الحقوق الفلسطينية المشروعة.
حركات المقاومة مثل حماس والجهاد الاسلامي وكتائب شهداء الاقصي ولجان المقاومة الشعبية وكتائب ابو الريش علاوة علي الجناح العسكري للجبهة الشعبية ستكون مستهدفة من قبل هذا الحرس الرئاسي. فلا يمكن ان تسلح وتمول امريكا وحلفاؤها في المنطقة جيشا او حرسا، بموافقة اسرائيلية، ويكون هدفه تحرير فلسطين.
الانقلاب العسكري علي الديمقراطية الوليدة بات في طور الاعداد، وعلينا ان نتوقع حربا اهلية، علي غرار تلك التي وقعت في الجزائر بعد انتخابات عام 1991 التي فازت فيها جبهة الانقاذ واجهضتها المؤسسة العسكرية.
رئيس السلطة الفلسطينية لم يقم بالانقلاب بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية قبل عشرة اشهر، ليس لأنه يحترم الخيار الشعبي، وانما لأنه لم يملك القوة العسكرية التي تمكنه من تعطيله، وها هي الولايات المتحدة تخلق له هذه القوة، وتوفر الغطاء السياسي الهلامي لانقلابه المقبل من خلال تحريك المفاوضات، والضغط علي اسرائيل لتخفيف الحصار، والافراج عن بعض الاسري، ومئة مليون دولار رشوة من مجموع نصف مليار دولار من اموال الضرائب الفلسطينية التي تحتجزها.
السيد عباس ربط نفسه وسلطته بحلف بغداد الجديد، واصبح مثل السنيورة والمالكي والانظمة العربية الموالية لواشنطن، في مواجهة حلف عربي اسلامي وطني ولكن بدون زعامة عبد الناصر، وهذا هو اكبر كارثة يمكن ان تلحق بالشعب الفلسطيني، فنهاية حلف بغداد الثاني لن تختلف عن النهاية المأساوية لحلف بغداد الاول والمنخرطين فيه. نتمني علي السيد عباس ان يقرأ التاريخ، وهو الذي يحمل درجة الدكتوراه فيه، ويستنبط العبر قبل ان يدخله من ابوابه الخلفية مثل نوري السعيد وكميل شمعون وبقية الاسماء معروفة.