السيد ولد أباه
يتساءل الكثيرون اليوم عن نهج حركة حماس المرتقب بعد فوزها في الانتخابات التشريعية الاخيرة الذي كان مفاجئا لكل المراقبين. ومع ان تصريحات زعماء الحركة سارت في اتجاه التمسك بالثوابت المعروفة في خط المقاومة الاسلامية الفلسطينية، الا ان العديد من الحقائق والمؤشرات تبين ان مسلك حكومة حماس التي ستشكل في الايام القليلة القادمة سيكرس جملة من القطائع والتحولات النوعية في التعاطي مع موضوع الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي الذي هو الملف الجوهري في أجندة هذه الحكومة.
ومن بين هذه الحقائق والمؤشرات، معطيات ثلاث تستدعي وقفة انتباه وتحليل:
أولا: قبول الحركة المشاركة في المسار الانتخابي، الذي يدل في ذاته على تغير نوعي في مقاربة واستراتيجية حركة حماس، باعتبار ان هذه المشاركة تعني قبول قواعد اللعبة الديمقراطية كما قننتها معادلة الحكم الذاتي الفلسطيني التي تندرج في سباق مسار التسوية السلمية كما بلورته اتفاقيات أوسلو والاتفاقيات الملحقة بها.
فالحركة بانخراطها الطوعي في هذا المسار التزمت بجملة شروط وضوابط صريحة، من أهمها الاعتراف باسرائيل واعتماد مبدأ الحل السلمي والتفاوض لحل الصراع معها، ضمن حدود كيان مؤقت محدود السيادة والمجال الجغرافي يرتبط عضويا من حيث مقتضيات الامن والاقتصاد بدولة الاحتلال.
ثانيا: على الرغم من موقف حماس المناوئ ايديولوجيا وسياسيا لنهج منظمة التحرير الفلسطينية ولحركتها المركزية (فتح)، الا انه من الواضح ان توازنات الشارع الفلسطيني بدأت تتشكل وفق تعايش حرج ودقيق بين الطرفين اللذين يتمتع احدهما بالشرعية الدولية والتجربة الدبلوماسية الغنية، في حين يتمتع الآخر بالشرعية الداخلية التي توطدت في سنوات الانتفاضة الاخيرة نتيجة للتضحيات الكبرى التي بذلتها حماس ودفعت لها ثمن شهدائها البارزين من قادتها التاريخيين.
في هذا السياق يتعين التنبيه الى ان صلاحيات حكومة حماس التي ستمارس مهماتها تحت اشراف رئيس السلطة لا تتعدى الشؤون التيسيرية وادارة المرافق العمومية والامنية، ولا يمكن بحكم النصوص القانونية والدستورية القائمة ان تشمل القضايا الحيوية في ملف الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي من قبل موضوع اللاجئين والقدس والشكل النهائي للدولة الفلسطينية، باعتبار ان منظمة التحرير الفلسطينية هي الطرف الاوحد المخول بادارة المسار التفاوضي، وستطرح هذه الثنائية المعقدة اشكالات صعبة على الشارع الفلسطيني. ومن المعروف ان ازدواجية سلطة القرار الفلسطيني قد بدأت تبرز مخاطرها بعد رحيل ياسر عرفات الذي كان يجمع في يديه كل خيوط المعادلة، فعكس الصراع الحاد بين حكومة غزة التي يرأسها أبو مازن والجهاز السياسي للمنظمة في الخارج الذي يديره فاروق القدومي المصاعب التي تطرحها هذه الثنائية بين شرعيتين وبنيتي مؤسستين متوازنتين.
ثالثا: على الرغم ان حركة حماس رفضت دوما الاعتراف بمبدأ الدولتين على أرض فلسطين المحتلة، الا ان رؤيتها الاستراتيجية لمواجهة اسرائيل اتسمت دوما ببعض الغموض التكتيكي المقصود، الذي يمكن ان يترجم في موقف واقعي عملي بحسب موازين الصراع القائمة.
فبعض تصريحات قادة الحركة توحي بأن سقف مطالبها ينحصر في حدود 1967، ما دامت تدعو اسرائيل للانسحاب من الاراضي الفلسطينية المستعمرة. كما تذهب بعض التصريحات الأخرى الى قبول laquo;هدنةraquo; مع الدولة الصهيونية بقبولها هذا الانسحاب دون التشبث ضمنا بالحل العسكري لاستعادة مناطق 1948.
وقد بدأ هذا الخط في التبلور بصفة أوضح بعد الانتخابات الاخيرة، باعلان القيادي في الحركة خالد مشعل ان حماس تتبنى مسلكا واقعيا في التعامل مع التزامات الحكومة السابقة laquo;ضمن مصالح الشعب الفلسطينيraquo;.
ومن المهم ان نشير هنا الى روابط التنسيق القائمة بين حركة حماس والحكومة المصرية، التي توظف غالبا في احتواء الازمات الفلسطينية الداخلية، بالضغط على الحركة لتقديم تنازلات في اتجاه قبول قواعد اللعبة التي وضعتها الاتفاقيات الفلسطينية ـ الاسرائيلية. ومن المرجح ان توظف هذه الروابط في بلورة حد ادنى من التوافق والاجماع داخل دائرة القرار الفلسطيني لادارة المسار التفاوضي بعد الانتخابات الاسرائيلية المقررة في الشهر القادم.
اذكر في هذا الباب ان احد القادة التاريخيين لمنظمة التحرير الفلسطينية على صلة فكرية وسياسية قوية مع حماس، نبهني منذ عدة سنوات الى امكانية اندماج الحركة في مشروع التسوية مع اسرائيل، معتبرا انها لا تخرج في العمق عن خط المنظمة التي ترفض الانضمام اليها. ولا شك ان مقتضيات والتزامات الحكم تفرض على صناع القرار ضبط المسافة القائمة بين مبدئي الرغبة والواقع (وبلغة التحليل النفسي)، ومهما كانت الشعارات المرفوعة، فالايديولوجيا توظف دوما في أكثر الاتجاهات تعارضا وتباينا كما نعرف جيدا. ولهذه الحقيقة شواهد بادية للعيان. فالنظام الثوري الاسلامي في ايران الذي اقام قطيعة جذرية مع التقليد الشاهنشاهي انتهى بعد فترة ثوران قصيرة الى اعتماد خط قومي تقليدي بحسب قراءة واقعية للمصالح الحيوية الايرانية، فلم يجد مانعا في التوافق الضمني مع laquo;الشيطان الأكبرraquo; (الولايات المتحدة الامريكية) في ادارة الازمتين الاقليميتين الكبيرتين اللتين جمعت بينهما (الحرب الافغانية للاطاحة بحكم طالبان والحرب العراقية لاسقاط نظام البعث).
وقد سارت laquo;ثورة الانقاذraquo; السودانية في الاتجاه نفسه، بعد فترة هيجان توهمت فيها القدرة على تصدير نموذج حضاري كوني باسم الاسلام، فطردت وجود التطرف الاصولي، وقايضت دعم فرنسا بتسليمها اشهر الارهابيين المطلوب عالميا (كارلوس)، قبل ان تتخلص من عبء المشروع، وترضى بتقاسم السلطة مع حركة غارانغ التي كانت تنعتها بالمجموعة الصليبية المتمردة.
ان ما نريد ان نخلص اليه هو ان موقع السلطة يولد بذاته نمطا من الالتزامات دعاها عالم الاجتماع الالماني المعروف ماكس فير laquo;اخلاق المسؤوليةraquo; (في مقابل أخلاق القناعة الفردية)، تحددها موازين القوى وطبيعة ونوعية ادوات الصراع، اما الايديولوجيا فقابلة للتلون والتوظيف ولو في اتجاه نقضها.












التعليقات