ايلي نجم
في الوقت الذي يقوم فيه البابا بينيديكتوس السادس عشر بوضع اللمسات الأخيرة على رسالته البابوية الأولى التي سيوجهها في الأيام المقبلة الى الكاثوليك والى المؤمنين في العالم أجمع وإلى ذوي quot;الإرادة الحسنةquot; (وهي الرسالة التي ستحمل العنوان الآتي: quot;الله محبةquot;: (Deus est caritas) يتصدر حواره مع الفيلسوف الملحد باولو فلوريس دارسيه Arcais)(Paolo Flores d رفوف المكتبات الفرنسية (يحمل الكتاب العنوان الآتي: quot;حوار حول الحقيقة والايمان والالحادquot;، جوزيف راتسنجر ـ باولو فلوريس دارسيه، منشورات بايو الفرنسية، 183 صفحة). يتضمن هذا الكتاب، الى جانب الحوار بين البابا والفيلسوف، (وهو الحوار الذي جرى في روما في 21/9/2000، وكان البابا يعرف بالكاردينال جوزف راتسنجر ويرأس وقتذاك مجمع الايمان في الكنيسة الكاثوليكية) المحاضرة التي كان قدألقاها البابا عينه في جامعة السوربون بفرنسا في 27/11/1999، والتي تحمل العنوان الآتي: quot;المسيحية والحقيقةquot;.
يقول البابا إن الحقيقة التي ينشدها المسيحيون ليست الحقيقة الالهية التي يرى بعض الغلاة أن المسيحية أدركتها من دون غيرها من الديانات، بل الحقيقة التاريخية التي مكنت المسيحية من القضاء على عبادة الأوثان، وكانت هذه العبادة وقتذاك الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية، بحيث أن كنيسة روما ورثت من هذه الامبراطورية التنظيم الهرمي السلطوي الذي ما زال يطبعها الى اليوم وغدت ديانة عالمية. في هذا السياق، يرى البابا أن الحقيقة التاريخية للمسيحية هي تلك quot;التركيبةquot; العقلانية التي أقامتها وقامت عليها على مدى ألفي عام وجمعت فيها بين العقل والايمان والحياة. بل إن المسيحية الراهنة هي، برأيه، في طور البحث عن عقلانية جديدة بغية التغلب على الأزمة المزدوجة القائمة اليوم في العقل اللاهوتي المسيحي (الغربي) كما في العقل الحداثي العلماني (الغربي).
لا شك في أن هذه الاعتبارات ستصدم أولئك الذين ما زالوا يغفلون عن تاريخية الظاهرة الدينية أي عن العنصر الثقافي الملازم لكل تعال والقائم فيه بالطبع. ومعنى ذلك أن كل ما هو قائم هو تاريخي أي غير اطلاقي بالقدر الذي هو نتاج ثقافة وحضارة معينتين. وبالتالي، فالدين (أي الحقيقة الالهية التي تجلت في المكان والزمان) يصاغ بوساطة ثقافة الشعوب وفيها، بحيث أنه يكون ولا بد عنصراً أساسياً في نشأة تلك الثقافة وفي إعادة انتاجها باستمرار. وهو الأمر الذي يجعله يساهم في إرساء الهوية الثقافية للفرد وللجماعة بالقدر الذي يعزز فيه الايمان الديني الشعور بالأمان ويرسخه.
والحق إن تاريخية الأديان، الى جانب كونها حقيقة ساطعة، هي أرضية مناسبة لترشيد الحوار الديني بين الأفراد والجماعات والشعوب وتثميره، بحيث أن هذا الحوار ينبغي أن ينطلق من الحيرة (وليست مصادفة أن يشتق فعل حاور في لساني العربي من فعل حار) الناتجة من التعدد والتنوع والاختلاف في مقاربة الحقيقة الالهية.
بالمقابل، وخلافاً للجهد العقلي الذي يبذله البابا بغية التوفيق بين العقل والايمان (وكان اللاهوتي القديس توما الاكويني قد أرسى تلك القناعة التي قضت بإمكان التوفيق بينهما أي بين quot;اثينا وأورشليمquot;)، يرى الفيلسوف باولو فلوريس دارسيه أن الكنسية الكاثوليكية التي كانت وراء الحملات الصليبيبة ومحاكم التفتيش وخلافها اعتبرت أن الأخلاقيات التي ألزمت المؤمنين بها ودعتهم الى الامتثال لقواعدها والى التزام قيمها هي أخلاقيات طبيعية (وهي ليست quot;طبيعةquot; البتة برأي هذا الفيلسوف). وهذا الأمر هو أيضاً، بحسب فلوريس دارسيه، في أساس رفض هذه الكنيسة التعددية الدينية والفلسفية والأخلاقية والسياسية.. ثم يسأل: كيف بإمكاننا أن نوفق مثلاً بين تصدي البابا السابق يوحنا بولس الثاني للنزعة التوتاليتارية التي طبعت الحكم الشيوعي في مسقط رأسه بولونيا بخاصة ودول المنظومة الاشتراكية بعامة وبين الطريقة اللاديموقراطية التي كانت تدار بها شؤون الكنيسة الكاثوليكية في عهده؟
يرد البابا أنه لا يحق لنا، في أي حال من الأحوال، أن نلزم الناس بما نعتبره نحن أنه الحقيقة، لكنه يسأل: هل بوسع الإنسان أن يستغني عن حقيقة ما؟ وهل يحسن به أن يكون غاية نفسه؟
على صعيد آخر، إذا كانت المسيحية الغربية تبحث عن عقلانية جديدة تمكنها، بعد ألفي عام من انطلاقتها، من تجاوز quot;الأزمةquot; التي تعيشها، فماذا عن المسيحية المشرقية؟ يبدو أنها quot;تنام على حريرquot; أمجادها الغابرة، فلا تعباً بما يستجد في الغرب، أو أنها في شقها الكاثوليكي، تنظر الى روما التي ارتبطت بها في اخوة الايمان، تستجدي نصحاً أو تلتمس أمراً يعفيها من نقمة التفكير في أحوالها. والحق أن مسؤولية الحوار مع الإسلام مسؤوليتها، وهو الأمر الذي يضاعف حاجتها الى الانفتاح والتعاون ويفسح في المجال أمام إمكان معاودة النظر في مساعيها ومناهج تفكيرها.














التعليقات