أسعد الفارس:

أبو مبارك فارس غلوب باشا صديق ثقافي خسرته الساحة الثقافية والمهنية منذ عام ونيف في الكويت، فالاسم العربي خالص والكنية كذلك، بينما الأبوان من أصول انكليزية، من أسرة أمتهنت الجندية والاستشراق والثقافة فترة طويلة من الزمن، إن انتماء فارس إلى أمتين وحضارتين متغايرتين عبر التاريخ جلب الكثير من المتاعب على فارس نفسه، كما ان ارتباط سيرته الذاتية بتاريخ والده في المنطقة العربية كان عقدة تعامله مع المثقفين المسلمين العرب، وقد يتردد الباحث كثيرا عندما يريد الحديث عن احدهما او كليهما، فكيف يمكن عزل تاريخه عن تاريخ والده؟ فلا بد من التعرض لشخصية غلوب باشا وتحليلها باختصار قبل وصف تعاملنا الثقافي مع فارس، نفسه، فشخصية الوالد شخصية مثيرة في التاريخ العربي المعاصر تماما مثل شخصية لورنس، وفيلبي، وكوكس، وغيرهم من ضباط الانكليز الذين خدموا في المنطقة العربية، وسنجد العواطف الشخصية في هذه العجالة قدر المستطاع ونتساءل عن حقيقة اخلاص غلوب باشا للقضية العربية، وهل عاش ومات عربيا مسلما كما يدعي ويزعم بعض الكتاب المعاصرين؟ فمن الناحية العملية قد ارتبط بالفعل تاريخ ومصير غلوب باشا بالعرب من مطلع العشرينات في القرن الماضي وحتى اواسط الخمسينات منه، وقد كان هذا الموضوع مثار نقاش هادف بيني وبين ابنه فارس، ومع كثير من المثقفين، كما قرأت عنه وتعرفت على مختلف وجهات النظر التي اثيرت حوله.
غلوب باشا ضابط بريطاني خاض غمار الحرب العالمية الاولى في صفوف الجيش البريطاني في سلاح المهندسين، وحارب في جبهة فرنسا وجبهة بلجيكا، وخرج من تلك الحرب بفك محطم اثر جرح اصيب به في تلك الحرب، ولهذا عندما استدعي للخدمة في البادية العراقية عام 1920 عرف بأبي حنيك في طول البادية العربية وعرضها، ولاهتمامه بشؤون البدو فقد شكل قواتا خاصة تابعة للحكومة الملكية العراقية ايام الملك فيصل بن الحسين، لصد غارات البدو الوهابيين على البادية العراقية بدعم من الطيران الحربي البريطاني,,, وكان يرتدي الحطة والعقال ويركب البعير، وعندما يركب السيارة كان يضع كتاب laquo;أعمدة الحكمة السبعةraquo; للورنس بجانبه على المقعد، لتأثره وحبه للورنس الذي كان يقلده في نشاطاته وتعامله مع البدو، فقد قطع البادية من الرمادي الى عمان عام 1924، وتجول شمال الجزيرة العربية مرورا ببادية الكويت عام 1926 ليجمع المعلومات عن القبائل العربية، وليتعرف على شيوخ تلك القبائل ويقابلهم شخصيا متحدثا اللهجة البدوية، ويلقي قصائد الشعر البدوي ويقرضه كواحد من البدو، ويتكنى بابي فارس laquo;راعي البويضةraquo; وهي ناقته المفضلة التي كان ينتخي بها.


كان حبه للبادية العربية يوازي حبه لبريطانيا بلده الأصلي، فقد كان يردد في مجالسه القول: laquo;ان البدوي قادر على ان يبني امبراطورية عربية تستطيع ان تصادق بريطانيا وتساندهاraquo;، وعندما استقر الوضع في البادية العراقية استدعاه الملك عبدالله بن الحسين ليقود الفيلق العربي في الاردن، وليصبح قائدا للجيش الاردني في الفترة ما بين عامي 1938-1956م، في فترة حرجة من تاريخ المنطقة شهدت قيام دولة اسرائيل وما صاحبها من حروب، فوجهت له تهم بالتقصير المتعمد، غير انه كان يلقي باللوم على القيادات السياسية مبرئا نفسه من تبعة كل ما ذكر, وفي الحقيقة تبلورت بشأن غلوب باشا وجهتا نظر متباينتان: الأولى تقول غلوب باشا عسكري بريطاني مستعرب، عمل جنديا مع العرب، وقد دون خبرته معهم في اكثر من كتاب، منها كتابه الشهير laquo;جندي مع العربraquo; وأنه ظلم عندما طرد من الاردن عام 1956 فغادر الوطن العربي وهو لا يحظى بتقدير بلاده، ولم يحظ بتقدير العرب، حتى انه غادر دون ان يحصل على خدماته في الاردن، ولم تكن لديه مدخرات في بريطانيا ولا راتب يعتاش منه هو وعائلته، فاضطر للعيش من عائدات كتاباته، ومما يعطي عن المحاضرات التي كان يلقيها في الجامعات والمؤسسات الثقافية.


اما وجهة النظر الثانية فيلخصها الصحافي الفلسطيني المعروف ناصر الدين النشاشيبي يقول: laquo;قلت لجون غلوب باشا قائد الجيش الاردني في مكتبه بعمان، يقولون انك قد استعربت واسلمت واصبح جواز سفرك اردنيا، قال وابتسامته تسبق جوابه: نحن اليوم في الخامس من مارس 1955 وحتى هذه الدقيقة لم استعرب، ولم أعلن إسلامي، ولم أحصل على جواز سفر اردني فقد عاش غلوب باشا الاربعين سنة الاخيرة من حياته بشخصيتين: شخصية العربي المسلم البدوي من شروق الشمس حتى غروبها، وشخصية البريطاني الانجليكي البروستنتاني المتعصب من غروب الشمس حتى شروقهاraquo;.
قلت ان عقدة صديقي فارس غلوب باشا في الخلفية المتعلقة بوالده، أما هو شخصيا فقد عاش طفولته في ديار العرب، وتعلم في قسم من تعليمه في بيئة عربية مسلمة، ثم واصل تعليمه الجامعي في بريطانيا وتخرج بدرجة الماجستير متخصصا بالادب العربي، وعمل بعد تخرجه في المؤسسات الإعلامية والثقافية العربية ومنها وكالة laquo;كوناraquo; الكويتية حتى وفاته laquo;رحمه اللهraquo;، فهو متزوج من فلسطينية من الاردن، وقد زرته في بيته فوجدت العائلة والبنات يتكلمون العربية بلهجة أهل بلاد الشام، كما كان يزورني في مكتبي في مكان العمل في المركز العربي للبحوث التربوية لدول الخليج فينهض معنا لأداء صلاة الجماعة,,, نحن لا نزكي على الله احدا ولم يطلب الله منا ولا بامكاننا ان نطلع على ما في القلوب، فقلوب الناس الله اعلم بها وحده، وعلي الاعتراف بان هذا النمط من الرجال يثير لدي الكثيرين المخاوف, فالقليل من المستعربين كان صادقا في تعامله معنا، وبعضهم فعلا كان يعيش في بلادنا بشخصيتين، فالاسباني laquo;باديا لبليخraquo; المستشرق الذي كان يعمل لصالح الفرنسيين على سبيل المثال جاء إلى مكة بهيئة رجل من آل البيت اسمه الشريف العباسي، وكان يؤم الناس في مكة ويحاضر في الفقه الإسلامي، فلما عاد من الجزيرة العربية الى الشام عام 1818 مات في الكسوة جنوب دمشق، وعندما باشر المسلمون تجهيزه للدفن وجدوه متوشحا بالصليب تحت ثيابه.


لا أظن ومعي الكثيرون من اصدقاء فارس انه من هذا النمط فقد كان يمارس معنا نشاطه الثقافي العربي الإسلامي، وكنا نحاوره في قضايا بالغة الأهمية، وكان يصغي لرأي الاخرين ويقبل النقد حتى بشأن والده,,, وكان يعرض عليّ بعض ابحاثه ومقالاته ومنها محاضرته الشهيرة عن وجهة نظر المسلمين بالقانون الدولي التي القاها في مؤتمر حركات حقوق الانسان الذي انعقد في قرطبة عام 2002 ميلادية، قال فيها: laquo;ان الحرب التي يخوضها المسلمون وفقا لشروط معينة تدعى الجهاد، ويحدد الإسلام نوعين من الجهاد: الجهاد الاكبر ضد النفس ووساوس الشيطان والجهاد الاصغر وهو الجهاد العسكري، اما بعض المؤلفين ووسائل الاعلام الغربية فتطلق على الجهاد عند المسلمين مصطلح الحرب المقدسة وهو ترجمة غير صحيحة، فمفهوم الحرب المقدسة استخدمه الاوربيون أثنا الحروب الصليبية,,, ففي تلك الحرب قاموا بارتكاب المجازر والمذابح بحق اهل بيت المقدس,,, كانت أفعالهم في تلك الحرب على العكس من مفهوم الجهاد عند المسلمين الذي كان يتسم بالرحمةraquo;.


كان فارس laquo;رحمه اللهraquo; يطلب مني بالحاح المخطوطات العربية الشامية عن الحروب الصليبية، واطلب منه الملفات الساخنة عن احداث الوطن العربي التي ما زالت حبيسة الادراج في المؤسسات الغربية، وعن المذكرات النادرة لبعض الرحالة، وما زودني به فارس ليس بالقليل, قد يطول بنا الحديث عنه laquo;رحمه اللهraquo;، فعسى ان أتمكن من كتابة تجربتي معه في وقت لاحق باذن الله، ولكن اتوقف عند بعض الطرائف والمحطات:

عندما يأتيني كنا لا نخرج للزيارة إلا نادرا، ولا نشارك في الافراح والمناسبات إلا عند الضرورة باستثناء عرس لرجل من شمر، وحضور وليمة للعمارات من عنزة جماعة والده عند السيد غالي العنزي في الأحمدي، فكل الوقت كنا نقضيه أمام مكتبتي المتواضعة نتدارس هذا الكتاب ونبحث في هذا الموضوع او ذاك، وفي غمرة البحث والمناقشة ارتبك وقلب قدح الشاي على الارض، فغضب وأنا أهون عليه ليدع تنظيف السجاد لاهل البيت، قال لا,,, أنا المسبب، وعلي اصلاح ما افسدته، فقلت يا فارس لو ان كل واحد منا الحاكم والمحكوم اعترف بخطئه، وحاسب نفسه وقام باصلاح ما افسده لكنا بالف خير، ولو كنا نقبل النقد البنّاء، ونخاطب المنتقدين كما خاطبهم عمر بن الخطاب بقوله laquo;رحم الله من أهدى إلي عيوب نفسيraquo;، لكنا بألف خير كذلك.
كنا في يوم من الايام في ورطة، فتمام بحثه لنيل الدكتوراه في موضوع الحروب الصليبية متوقف على جلاء موقف علماء المسلمين في ذلك الوقت، ومدى دعمهم لصلاح الدين الايوبي مثل: الغزالي، وابن عساكر، ومحمد بن طاهر السلمي، فالاخير لديه كراسة عن احكام الجهاد في الاسلام لا يتجاوز عدد صفحاتها الثلاثين صفحة، وقد بذلنا جهدا كبيرا للحصول عليها، فدفعنا مبلغا لا يستهان به لا يتناسب وإمكانياتنا المالية لواحد من تجار المخطوطات في دمشق,,, وكم كانت فرحته وسعادته كبيرة عندما وضعت المخطوطة بين يديه, توقفنا للمحاسبة فكل ما جلبه لي من لندن قدمه مشفوعا بالفواتير، وهذا من حقه، ومن بينها تصريح من سائق للتاكسي في لندن بتسلم مبلغ محدد لمهمة ارسله بها من اجلي، بينما اكتفيت انا بالمبلغ الذي دفعته لصاحب المخطوطة وأعرضت عن المبالغ المتبقية التي دفعتها دون علمه، وأعذره فهو من أمة مدبرة للمال، المال عندها له قيمة، وأنا من بيئة مبذرة، حيث ما زلنا نعيش بمفاهيمنا وعاداتنا القبلية,, أما المخطوطة ذاتها فقد وجدناها موثقة في العالم الغربي وتجري عليها الدراسات تلو الدراسات، فقلت يا فارس، ما سر هذا الاهتمام بكراسة يعود تاريخها الى اوائل القرن الثاني عشر الميلادي؟ قال انها في موضوع الجهاد والغرب يخشى ظهور قائد كصلاح الدين الايوبي، وعلماء دين مخلصين يحولون ضعف وذل الامة الإسلامية الى قوة مخلصة واعية هادفة,,, عندها ندحر الغزاة ويولون الدبر، وتتحول الامة الى امة صالحة فاضلة مهابة الجانب يصل فيها الضعيف الى حقه قبل القوي، وينصف فيها الفقير قبل الغني، قلت وما ذلك على الله بعزيز، مات فارس كغريب في الكويت اثر حادث اليم اصابه، لكن محاميا شهما من آل المطوع في الكويت اقام له مجلس عزاء في بيته فتقاطر الكثيرون من اصدقاء فارس معزين، وقد اشادوا بفضله في خدمة قضايانا العادلة,,, هذه بعض الخواطر والذكريات عن أبي مبارك بعد عام ونصف من وفاته في الكويت ونسأل الله أن يتولانا ويتولاه برحمته.