
مساهمات عدة لكتاب وشعراء عراقيين وعرب تتأمل في رحيل الشاعر العراقي كمال سبتي. اضافة الى اللقاء الأخير معه..نستعيدها، هنا، لمناسبة أربعينه وهي منتخبة من كتابات كثيرة، يصعب حصرها، حفلت بها الصحافة العراقية والعربيةومواقع الإنترنيت...
مصائر الشعراء
انطباعات واستذكارات متناثرة عن كمال سبتي
باسم المرعبي
1
لو كانَ في البلادِ لي مالٌ
بَكيتُهُ كَصَرّافٍ عجوزْ
لو كانَ في البِلادِ لي بَيْتٌ
بَكَيْتُهُ كَمالِكِ البِيوتْ
لكنَّما أنا فَقيرٌ كُلَّ عُمْري سَيِّدي القاضي،
وإِذْ أَبْكي فَلا أَدري لماذا ؟
..........................
يلخص هذا المجتزء من قصيدة quot;أمام القاضيquot; صورة كمال سبتي الى حد كبير.
هذه القصيدة التي سمعتها منه للمرة الأولى في ما يشبه الأمسية المصغرة لعدد من الشعراء في فندق quot;كاستيلا بلازاquot; في مدريد على هامش مؤتمر quot;من أجل عراق ديموقراطيquot;، وكان الحضور خليطاً من الشعراء والمثقفين والسياسيين العراقيين.
وكما في قصيدته هذه كان كمال يجاهر فخوراً، في أحاديثه، بفقره وخساراته وانه قد قدّم الشعر على كل شيء في حياته، وهو ما كان حقاً.
يقول عن ذلك: quot;أفتخر أمام نفسي انني ماسعيت الى شيء في حياتي غير الشعر ومن أجله فحملته معي أقيس به العالم وهذا سبب خرابي..quot;
وهاهو رحيله المأساوي يثبت و يتوج خساراته المتلاحقة في الصداقات والمرأة والعائلة والوطن بل الحياة عموماً وقد أدرك كمال ذلك فكان كمن يصارع لأجل الخروج من quot;قدرهquot; غير انه في الوقت نفسه يسلّم في أكثر من مناسبة بأنه كائن غير محظوظ في هذه الدنيا.
2
لقد أحببتُ في كمال اخلاصه للشعر ووفاءه ومسالمته رغم الضجيج الذي يعلو هنا أو هناك، لكن من يعرف كمال عن كثب يلمس ذاته المسالمة فهو لا يميل الى العنف بل على العكس وقد يكون قوله: الكتابة ملجئي الوحيد للثأر خير تعبير عن نزعته هذه.
3
غادر كمال العراق أواخر السبعينات وعاد في الأشهر الأولى للحرب العراقية الإيرانية وقد كان في تركيا، وقتها، هذه العودة التي سيبدي كمال ندمه عليها لاحقاً، خصوصاً، بعد ان تحولت البلاد بـ quot;همةquot; صدام الى قفص مروّع. هذه البلاد التي لم يكن له نصيب منها، سوى التشرد والفقر والنوم في الفنادق الرخيصة.
ولم يكن مفاجئاً لي على الأقل انسلال كمال من الوفد العراقي الذاهب الى ليبيا للمشاركة في مهرجان quot;النهر الصناعي العظيمquot;، عام 1989 وقد كنت متيقناً من عدم عودته التي تلقينا نبأها في مقهى حسن عجمي. أتذكر ذلك جيداً فقد كان الأمر يهمني بشكل أو آخر فقد كنت من المدعوين الى ليبيا، لذات المناسبة، غير اني لم أتمكن من السفر.
قلت لم يكن مفاجئاً هرب كمال فالمفاجأة هي أن يعود الى العراق بعد كل الإحتدام الذي عاشه.. كيف لشاعر بأسمال quot;جنديquot; في عراق الثمانينات أن يعود الى السجن الذي خطا خارجه...؟ وهذا هو التيقن الذي قلت به قبل سطرين؟.
4
قرأت كمال سبتي منذ أواسط وأواخر السبعينات من القرن الماضي، قبل أن تصدر له اية مجموعة، عبر قصائده المنشورة في مجلة الأقلام التي ابتدأ النشر فيها عام 1976، وقد تعرفت عليه لاحقاً وكان اسمه حاضراً ضمن السبعينيين العراقيين، كما كاظم جهاد وشاكر لعيبي وهاشم شفيق وكزار حنتوش وفاروق يوسف وسلام كاظم وصاحب الشاهر وخزعل الماجدي وغيرهم هذا الجيل الذي قسمته ـ بداية ـ للأسف الأحزاب لا التيارات الثقافية أو الشعرية، فالسبعينيون quot;البارزونquot;، وقتها، صنّفوا الى شيوعيين وبعثيين وأذكر من مقابلة للشاعر سعدي يوسف في مجلة quot;الوطن العربيquot;،أواسط أو نهاية السبعينات ـ لا اتذكر بالضبط ـ أورد فيها ستة شعراء: ثلاثة من الذين يحسبون على البعثيين وثلاثة ممن عُدّوا كشيوعيين ومن الأخيرين ذكرَ هاشم شفيق وشاكر لعيبي وخليل الأسدي اما الجناح البعثي يحضرني منه الآن اسم عبد المطلب محمود وقد أطرى سعدي الجميع وأثنى عليهم. وهذا يشير الى انّ وهم quot;المحاصصةquot; قد سرى على الشعر أيضاً.
5
لشدّ ما أحزنتني احدى اجابات كمال في اللقاء الذي أجراه معه محمود عبد الغني/ القدس العربي: 29ـ 06ـ 2005 خصوصاً الفقرة التي يشير فيها الى اقتصار مخالطته الهولنديين على مراجعته الأطباء:
quot;انا لم اختر عزلتي هذه. قوانين اللجوء اختارت لي بلدة سيتارد في الجنوب الهولندي، فوجدتني فيها وحيدا، مع أناس البلدة الهولنديين فاعتكفت في بيتي لا أتكلم العربية مع أي كائن لأنني لا ألتقيه إلا مصادفة وقلما وقعت تلك المصادفة، ولأن العرب الموجودين في البلدة لا يعرفون أساسا من أكون. واعتكفت من الهولنديين أيضا إلا في مراجعتي لهم في المستشفيات أو في اجراءات تحتاجها بلدية البلدة دورياquot;.
وغير بعيد عن هذا المعنى قوله في احدى قصائده الأخيرة: امشي خجلاً في الشوارع....
ذروة المفارقة التراجيدية الشخصية لكمال سبتي هو ان نقول: بأنه خسر الحياة لكنه ربح ميتة الشاعر.
6
أستعيد، هنا، مقالاً كنت قد نشرته في صحيفة quot;القدس العربيquot;، لندن، قبل حوالي ست سنوات ولن أنسى ردّ فعل كمال حين اطلاعه عليه، فقد قال لي متأثراً: لقد بكيت..
أعرفك يا كمال لقد كنتَ سريع الدمعة، فكم من المَواطن التي بكيتَ فيها، وهذا يشير الى رقة قلبك ومشاعرك.
حين تكون القصيدة الملجأ الوحيد، الأخير
القدس العربي ـ الثلاثاء: 7تشرين الثاني ـ نوفمبر ـ 2000
في العدد الأول من مجلة quot;غجرquot; وهي مجلة طموحة, يصدرها ثلاثة شعراء: شعلان شريف, فلاح الصوفي وحميد حداد. وقد كانوا أصدروا من قبل مجلة متميزة أسموها quot; واحدquot; واليوم يعاودون التجربة بآسم جديد (ولا أدري لمَ غجر), لكن بالأحلام ذاتها.
وضمن توجه المجلة quot;لإلقاء الضوء على تجارب خاصة في الشعر العربي أغنت عوالمه وحاولت أن تترك ما أمكنها من بصمات على هذا المشهد الكبيرquot;, كما جاء في التقديم, تلتقي المجلة بالشاعر كمال سبتي في حوار مهم يضيء الكثير من جوانب تجربة هذا الشاعر الحياتية والكتابية, ومن خلال ذلك نتبين كمال سبتي واحداً من الشعراء القلائل الذين يخلصون للشعر حد تدمير حياتهم, فهو ساع في حلمه الشعري, غير ملتفت إلى امتيازات أو وجاهات اجتماعية, كما يسعى في ذلك وإليه الكثير من طلاب المهرجانات بمختلف أنواعها .
إن الاكتفاء بالشعر وحلمه يقود لا محالة, إلى زهد وعزلة, وإن بالمعنى الثقافي, وهو حقاً ما يبرهن عليه الشاعر, فهو قليل النشر حد الانقطاع*، يعكف على تجربته تعميقاً وتوكيداً لحلم هو وجه من أوجه الجنون الذي يكابده الشعراء, فمنذ ديوانه quot;آخر المدن المقدسةquot; الصادر في دمشق عام 1992, وقد كتبتُ عنه حينها في quot;ملحق النهارquot; وهو ملتفت إلى السيرة, في شكل كتابي طموح, كان قد ابتدأه في العراق منطلقاً في ذلك من فكرة عبّر عنها في بيان شعري أسماه quot;البيان البدائيquot; كما تذكرنا بذلك إجاباته هذه .. إجابات متينة, تكشف عن مدى ثقافة ووعي الشاعر لمسائل الشعر والمجتمع والحداثة, ولم تكن تنقصها الجرأة والوضوح, وضوح من يعي ما يقول وما يريد, فردّاً على سؤال المجلة الذي يقول .. ما الذي يعنيه وجود الشاعر, خارج الوسط الذي عاش تفاعلاته شعراً وتجربة ومكابدة حياتية؟ يستفيض الشاعر في الإجابة ويخلص إلى القول : quot;الآن من الممكن أن أقول أنني من كثر ما أصرح بما كنت لا أستطيع أن أصرح به هناك .. من كثر ما أفعل ما كنت لا أستطيع فعله هناك, فأنني لا املك الحرية!! هذه مفارقة لا يفهمها الناس: أنت هربت من هناك ففقدت المركز ولكنك هنا لم تحصل على ما كان سبباً للهروب. ويستشهد بقول سارتر في هذا الصدد : quot;لقد كنا أكثر حرية في زمن الاحتلالquot;.
نحن غرباء .. كتابتنا غريبة
هذا ما يقوله كمال سبتي, ومن مثل هذا الفهم, أو هذه الروح تصدر كتابته الشعرية, وهي كتابة غريبة بمعنى إنها جديدة, منفية خارج سياق تاريخ من الاجترار والاطمئنان, إنها كتابة أعماق, شأنها شأن كل كتابة حقيقية, ويجيء نص quot;مكيدة المصائرquot; الملحق بالحوار امتداداً لمشروع الشاعر في كتابته الجديدة هذه, التي تتجلى أكثر في ديوانه الخامس quot;آخر المدن المقدسةquot;.
quot;مكيدة المصائرquot; نص مسكون بالوحشة, نص أمكنة مهجورة وأمكنة محلومة نص يخلط الأزمنة, فما من ماض أو حاضر أو مستقبل بالمعنى النثري, فالزمن الفيزيائي هنا, ينهدم انه زمن آخر يدل عليه الشاعر, وهو زمن عصي أو هو اللا زمن, وهذا من سمات الرفض, رفض الشاعر لعالمه ولكل ما يعين هذا العالم, مستعيناً في ذلك, بطاقة الحزن واليأس الذي يحكم مثل هذه النصوص:
quot;.. ذلك ما كنته منذ تعثرت بنفسي في بيت الجراحين, أصغي إلى سرير مدمى تحرسه أقنعة الحديد, لأعرف إن ميتاً قد كنته سوف يهرب إلى قبر في بلاد لا أعرفها ..quot;
نص جارح هو الذي يقدمه كمال سبتي هنا, مثخن بالحزن والندم, لكن في الوقت
ذاته هو نص رؤيا وتطلع, نص مهارات يثأر من خلالها الشاعر, من أعدائه, شخوصاً وأشياء, فالقصيدة وكما يقول في لقائه هذا ملجأه الوحيد للثأر, وكأنه يؤكد مع كل سطر يكتبه اقتصاصه من الأشياء, الزمن, الموت, الأخطاء, الخسارات .. الخ ليربح في الأخير, القصيدة, ويخسر كل شيء !
quot;.. تمطرنا سحابة الموتى بشتاتها, لا أستدلّ عليّ, أراني كاتماً هذه القصيدة عني .. تبخل عليّ بنشيد البهجة فأتسور برثائها, ماشياً إلى حتف من ضيّع كل شيء من أجل لا شيءquot;.
كمال سبتي شاعر مهموم بالقصيدة , يمشي بها ومعها وحيداً تظلله الوحشة .
* كان الشاعر منقطعاً عن النشر وقت كتابة هذه المادة انقطاعاً ملحوظاً.
في ذكرى اربعينية كمال سبتي
بريد عاجل للموتى
د. سّيار الجميل
عندما بدأت اكتب مقالتي هذه في ليلة 29 مايو 2006 عن قدر الشاعر كمال سبتي ورحيله ، هاتفني احد الاصدقاء من المانيا ليعلمني بخبر مؤسف آخر مفاده رحيل الصديق الفنان المخرج المسرحي عوني كرومي ، فبكيته وتألمت عليه هو الاخر وقد مات وهو يتحسر على تراب العراق .. وسافرد له كلمة خاصة به ، فاقول :
تمر للاسف الشديد في اخر ليلة من مايو/ أيار 2006 ذكرى اربعينية الشاعر العراقي الراحل كمال سبتي الذي رحل كالطير على عجل وهو في قمة شبابه وعطائه .. ولا يمكن ان تمر هذه الذكرى من دون ان نتذكر هذا الشاعر المثقف الذي كانت لي معه بعض مراسلات على الانترنيت ومنذ سنوات مضت ، خصوصا ايام كان يعاني من ازمة خصومة شعرية بينه وبين احد الشعراء والنقاد العراقيين والاخير ايضا من اصدقائي .. ولكنني لم اتدّخل في الموضوع ، واذكر ان الاخ كمال كان يكتب لي ايام كنت انشر مزامناتي في جريدة الزمان اللندنية قبل سقوط النظام السابق ويمتاز بهدوئه وسعة معرفته اللغوية واحساسه المرهف وخياله الخصب ..
وكم وجدت في الاخ كمال سبتي يعاني من الام نفسية مفرطة ، فلقد كان مهموما ومثقل التفكير جدا في مكابداته الصعبة .. ولقد فوجئت قبل اربعين يوما برحيله المبكر ، فأسفت عليه اسفا شديدا .. وضربت يدا بيد اذ كنت احلم قبل ثلاث سنوات ان يموت شعراء العراق ومثقفيه الحقيقيين في وطنهم ويدفنوا في ترابهم ، ولكن هذا كله لم يحدث .. اذ ستتوزع قبور العراقيين في كل هذا العالم !! رحت في تفكير بكائي عميق ، ولكنني عدت استذكر ليس حياته وهمومه حسب ، بل حتى بعض قصائده التي تتشح بالالم وتسرع بصاحبها نحو الموت .. تمر اليوم ذكرى اربعينيته وكنت اتأمّل ان يكون هناك اكثر من حفل تأبيني في العراق وخارجه وخصوصا من قبل وزارة الثقافة العراقية تعبيرا عن وفاء الجميع للكلمة المبدعة والمعبرة عن هموم العراق والعراقيين على مدى السنوات الصعبة المرعبة التي مضت ولم تزل آثارها تنتج الجحيم بعد الجحيم !!
دعوني اتوقّف قليلا عند كتابه السابع quot; بريدٌ عاجلٌ للموتى quot; الذي ولد بعد ست مجموعات صدرت في سنوات مختلفة .. كم انا افكر في كلمات كمال سبتي الاخيرة وكأنه يسجل رثاءه على مهل شديد .. بل وكأنه يوثّق ذكرياته الخصبة وهو يعيش وحيدا لا يمارس الا لغة المشاعر المخصبة والتفكير الحاد واستعادة ذكريات العراق .. وهو يسجل شعره بين النثري والموزون بلغة عالية المستوى .
لم يفت كمال سبتي أن يوضح في المقدمة طبيعة كتابه الجديد فيقول:
quot; هذا كتابٌ لم أتعوَّدهُ في التأليف..فهو توثيقيٌّ يعتمدُ السردَ والشعرَ معاً..
وقد بدأتُ كتابته بعد إنتهائي من كتابة قصيدتي الطويلة: /آخِرُ المدن المقدّسةquot; .
فهو وثيقة إذن ، بل وانه ـ كما يقول ـ إبنُ مرحلةِ ما بعد الهروبِ من وطن اسمه العراق ، تماماً كما يضمنه : آخِرُ المدن المقدسة/ التي ـ يقول ـ : quot; بدأتُ كتابتَها في صيف عام 1989.. وكان ينبغي له أن يرى النور قبلَ هذا الوقت. لكنه - كما هو شأنُ نتاجي في الأدبِ عادةً - قد تأخّرَ إلى الآن فأضيفتْ له كتاباتٌ نثرية وشعرية موزونة بعد طولِ إنقطاعٍ عن الكتابة الموزونة، فدعمَتْ فكرته الأولى كثيراً.. quot; !
يستطرد الصديق الراحل ويقول وهو يسجل ما فاتنا عن ذاته التي لم تعشق في الحياة غير الشعر ، نسمعه يرددّ بنفسه:
quot; أنا شاعرٌ، أقول عن نفسي. وهربتُ من البلادِ لأنني شاعر.وأفتخرُ أمامَ نفسي بأنني ما سعيتُ في شيءٍ إلاّ وكانَ من أجلِ الشعر. والشعرُ هنا تربية وعاداتٌ وسلوكٌ وأفكارٌ وقراءاتٌ وتاريخٌ ونظرٌ وكلامٌ..إلخ. فحملتُهُ بهذا كلّهِ أقيسُ العالمَ به.. وما كان يُقاس. وهذا كلّه خرابٌ لي قبلَ أن يكونَ خراباً للآخرين. فقد أبعدني عن أنْ أكونَ كمنْ يتمتعُ عادةً بسعادةِ الغباء في الحياة، وجعلني أتعذبُ في كلّ مشهدٍ كانَ ممتعاً لغبيّ. وقد كوَّنَ في نفسي موقفاً عاماً نما كلَّ مرةٍ خلالَ هذا العمر، فهو حساسيّة لي أواجهُ العالمَ بها فلا أقوى عليه فأقوى على نفسي فأزيدُها خراباً على خراب. وماسعيتُ لأتحرّرَ منه بلْ كنتُ أخلصُ له كلَّ مرةٍ وأنقادُ له في إخلاصي حتى كأنَّ نفسي لا تَتَحققُ في هذا الوجودِ إلاّ في انقيادي له. وقد أتوقفُ لحظةً لأتأمّلَ مشهدَ ضعفي أمامه، لكنني لا أقوى في مابعدُ إلاّ على المضيِّ إليه، والمضيِّ فيه، والمضيِّ به. وفي ظني إنَّ هروبي من البلادِ لا يُفَسَّرُ إلاّ بهذا. فحملتُ البلادَ بحروبها وموتاها، من مكانٍ إلى آخرَ، ظاناً إنني أحاولُ فهماً لها، ولم أكنْ في حقيقةِ الأمرِ، غيرَ هاربٍ يتعذبُ بها quot; .
لا اريد ان اعلق على هكذا مشاعر وكأن صاحبها يدرك انه على موعد مع الرحيل عن الحياة فلا يسجل صفحة وداع ، بل سجل صورة مختزلة عن مكابداته المؤلمة وهو يعّبر من خلالها عن مشاعر كل اولئك الذين يتعذبون في دواخلهم .. انه لا يعشق غير الشعر .. انه لا يعشق الا العراق .. انه يصوّر لنا عالم الشعر الرحب .. انه يتألم من الاغبياء .. انه يصارع ذاته كونه لم يستطع اصلاح الحياة كما يريدها .. انه هنا يعلن للملأ ان المثقف العراقي الحقيقي قد عجز عن اصلاح العراق والعراقيين ، فيزيد نفسه خرابا على خراب بعد ان حمل العراق بكل حروبه واحداثه في اعماقه .. انه يعلن بأنه ضعيف .. انه يعلن بأن المثقف العراقي انسان ضعيف ومحارب في وجوده بأي مكان ولكنه عملاق في معانيه وخصب كل منتجه وتعبيره .. انه الهارب من جحيم العراق وقد حمل كل عذاباته ليمتد بها في كل هذا العالم الموحش .. ولما نام كمال سبتي قبل اربعين يوما وطلعت الشمس راح راحلا مع كل مطوياته المؤلمة ، وكما عاش وحيدا مات وحيدا ولم تؤبنه الى مثواه الاخير الا العصافير ثم عادت الى اعشاشها ، وهطلت الامطار لتنمو فوق قبره اعشاب وزهور .. فهل سيذكره العراق الذي لم يزل قاحلا من الحياة ولا يعرف الا الموت ؟
الى كمال سبتي في رحيله المبكر
محمد النصار
اذا ما تاملت الزمان وصرفه تيقنت ان الموت ضرب من القتل
المتنبي
1
ربما
لانك كنت تجلد
عمر الفراشة القصير
باهة طويلة
ايها الغروب.
2
هي اضغاث
يزفرها
لان العطر
اختنق
من شدة التوبات والتسابيح.
3
اعذار طفيفة
لا اظن
انها تكفي
ليتمرد
نسر
على عزلته
لانها
طفيفة وبيضاء
وسط هذه المذابح المضمدة
برطانات الغرباء.
4
هاهي القمم
تنحدر هي الاخرى
تدريجيا
على الحافات الاخرى
من خساراتي اللامعة
وسط الاطلال.
5
انت تتخلى عن شرط قاهر
اما انا
فاستبدل النوافذ
بدموع منهكة
من صلوات المجانين.
لكنما الشتاءات
يستلطفها
دائما
هذا السكون.
6
تقنيات معقدة
لم يستخدمها
الملك الشاعر
لخداع اللغة
فازدادت القلعة اضطرابا وفوضى
وتمادى المهرج المخرج
في تاويل سقطات الموت السعيد.
7
تتنبا الاعياد
بموت اصدقائي المبكر
يستشيط الملاك الاسود
فرحا
فاتماثل انا الاخر
للعراء الملطخ بنعيب الغربان.
8
يسقط الشاعر
في البئر المرة
ساهيا عن غروبه المتذرع بالضوء
لينقذ الفراشة
من صحوها القاتل.
9
تهيل القرية
ملحا
على نهر يسترد سكانه
لكن الذكرى
اهة
يجلدها
سوط وثني.
10
ازيح عن قبر
عينا
ملطخة بتراب الكلام.
11
وهو ايضا جزع النار
الذي
استهامت به العاصفة.
12
بماء الذهب
اغسل
ريشتي
الساقطة
على
تابوت
العائلة.
13
ليس للعدم
اخوة
فالرجاء
وفاء
اقوام تنقرض.
14
عرضوني
لشمس الموت مرات
فقلت
لدي هذه الامواج الساحرة
حينما
سقطت من فرط ذهولي
في قاع نهر
يغص بفتاة دغل تختنق1
وصيادين منتحرين
لكنني
شرقت بمياه
صوتي
التي ظننتها منجاة.
1عنوان قصيدة للشاعر الراحل كمال سبتي
كمال سبتي في خضم المهرجانات
الرحيل على عجل دون وداع
د. مؤيد عبد الستار
quot;رمينا في المشارف بوجهين لا يشبهان البشر، باكيين وضاحكيين
يغني صاحبي عن مبيت منتظر، وأحار كنت في نبأ المدينةquot;
كمال سبتي - قصيدة اخرون قبل هذا الوقت
وعدني بارسال نسخة من ديوانه الاخير، فلم اتصل به منذ اسابيع على امل وصول ديوانه كي يكون لنا حديث جديد حول ابداعه، الا ان ديوانه لم يصل، وفاجأني خبر رحيله في الوقت الذي كنت احسب انه مسافر الى مهرجان المربد او الى مهرجان المدى في اربيل .
كان دائم الاتصال بالمعارف والاصدقاء، حريصا على فتح جبهات حوارية مختلفة، تارة في الصحافة واخرى في الانترنيت، ومرة في الهاتف، و غير مرة في البالتوك . دعاني حين قدم ندوة الشاعر شاكر لعيبي بمناسبة اصداره رحلة ابن بطلان، الى الحديث في ادب الرحلة من خلال الكتاب الذي نقلته الى العربية، الطريق الى بغداد، واضاف طلبا اخر بعد ان قدمت مداخلتي تلك،هو ان اعد العدة لتقديم ندوة عن الادب الكردي، فوعدته خيرا على شرط ان اتناول الادب الكردي المترجم الى العربية، وتم الاتفاق على ذلك، ولكن هذا الرحيل المفاجئ وضع خاتمة لمشاريع كان كمال يسهر على انجازها، اضافة الى انشغاله بصياغة كلماته بوهج شعري متميز، يحمل القارئ الى ساحات شعرية فلسفية صعبة، تفتح امامه افاقا رحبة في الكتابة المغايرة لما هو سائد في ديوان الشعر العربي الحديث .
لم تترك لنا المفاجأة المرة،خيارات كثيرة، لذلك لم يكن أمامي سوى لملمة شتات الافكار التي اضطربت في رأسي والاحاسيس التي عصفت بمشاعري ساعة علمت بنبأ رحيله المفجع، اذ شكى لي أكثر من مرة عن عزلته في تلك القرية التي لايوجد فيها اي عراقي رغم وقوعها على حافة دول ثلاث هي هولندا والمانيا وبلجيكا، قرية صغيرة تقع في مثلث محصور بين بلدان اوربية،ومع ذلك كان يصعب عليه السفر لضيق ذات اليد، والمرة الوحيدة التي تجشم عناء السفر فيها وحضر الى السويد كانت قبل عامين، اذ غامر في الحضور وقدم ندوة غنية عن الشعر،قرأ فيها بعض نتاجاته الجديدة. واذكر انه كان حين سقط النظام الصدامي متحفزا لان يرى الكتاب والشعراء في طريقهم الى الوطن، فجاءت بالصدفة دعوة من اسبانيا لعقد ندوة حول العراق ، بعد سقوط النظام مباشرة، وكانت تحت شعار من اجل عراق ديمقراطي، وبسبب معرفته بالاسبان والعراقيين الذين كانوا في اسبانيا طلبوا منه ترشيح من يعرف من الكتاب والمثقفين لحضور تلك الندوة، فلم يدخر وسعا، واتصل بمعظم من يعرف من الاصدقاء وحشد في الندوة مجموعة كبيرة منهم، وتألق في قراءة بعض اشعاره في أمسية ممتعة اقيمت للشعراء على هامش الندوة التي ادارها الزميل الناقد ياسين النصير . لم اكن اتوقع ان يرحل كمال سبتي صاحب الصوت الهادر، والمجنون بالشعر والحياة بسهولة ويسر وفي مثل هذه الفجاءة، وكأن الموت سرقه بخفة الساحر الماهر، الذي لم يترك للمشاهدين من معارف واصدقاء فرصة القاء نظرة أخيرة على زميل حاول جهده أن يحفر في صخرة الحياة ملامح شاعر جاد مثابر خلاق، يسهر ليله من اجل صياغة كلمة رائدة . كانت القصائد تولد من بين يديه بنكهة فراتية صلبة، سيالة، خشنة، صاخبة، تفتح مسارا ماكرا يقود بقوة الى مفاصل حياتية تدور حول معاناته مذ كان في الوطن . يقول في ديوانه آخرون .. قبل هذا الوقت، الصادر عام 2001 في دمشق : ( كانت أبهة المعنى تشبه بنطالي القديم، الذي تركته في فندق الصياد في ساحة الميدان..) ومن يعرف شيئا عن حياة كمال سبتي، يعلم انه كان مقيما في فندق الصياد ببغداد، قبل ان يهرب من العراق، من سطوة النظام فاضطر ان يموه الامر من اجل ان لايكتشف امر هروبه فترك ملابسه كما هي في الفندق . ان الاصرار على كشف الواقع الذي عاشه واضطراره الى ان يكون وحيدا، يتمظهر في نفس الديوان : ( ها أنا إذن، ياالكتاب الذي اجهل، أخرج من هذه المدينة، أو ادخل أخرى، وحيدا، فقد تنكر لي كل من عرفت . كل قال للسحرة : اهلا، وغنى معهم بثياب العرسان، وكل ارتدى قناع الحديد ليحرس جثتي ... من مر ّ في ليلي بناي ؟ من بكى لجثتي في بيت الجراحين ؟ لا أحد ....) يؤرخ لهذه القصيدة بصيف 1997 اي قبل عشر سنوات على رحيله، فهو يعلم ان لا أحد سيكون هناك حيث سيرحل وحيدا، والمؤسف ان لا احد هناك رغم رحيل النظام الذي قال له السحرة اهلا وكتبوا له اناشيدهم وارتدوا له ثياب العرس . في قصيدة اخرى عنوانها حكاية في الحانة يقول : ( كنت لا أشبه احدا غير النوم فقد كان قناعي،ضحكت في نومي من الشعراء يصرخون، ومن ابطال يتوسلون اوسمة . سألني الخدم عن لغزي . كنت نائما، وكان الكلام اعمى . أخرجوني الى بهو وناداني احدهم : أيها الخارجي، وآخر : أيها المجنون . فأشفقت على نفسي من ذلك النوم . وظننتني بطلا حين قلت : فلأمت غريبا بين الخدم، أنا وقصيدتي القديمة عن الماضي ) من يستطيع ان يقول ان كمال سبتي لم يمت غريبا ؟ وهل حقا مات غريبا بين الخدم ؟ هذا هو السؤال ؟ ان نظرة سريعة على المشهد الثقافي، الذي كان سائدا في العام الذي صدر فيه الديوان وهو عام 2001، وما قبله، تكشف لنا حقيقة ما اشار له كمال سبتي، وما وصفه بحكمة ثاقبة . لقد حول النظام الصدامي، وحتى النظام العربي الحاكم بقوة السلاح والثروة، فرسان الثقافة الرسمية الى خدم يمسحون احذية السلطان قبل وجهه ( راجع كتاب سلام عبود ثقافة العنف في العراق على سبيل المثال لا الحصر) . ليس من السهل تجاوز رحيل كمال سبتي، ففي زحمة الحياة والقراءة والعمل ومراقبة شاشة التلفزيون والايدي على القلوب خوف انفجار هنا ومفخخة هناك، ومن هاتف الى الاهل وسؤال عن تشكيل الحكومة او عن حفل في البصرة واخر في اربيل، عن مهرجانات فتحت ابوابها امام البعض واغلقتها دون البعض، بلا سبب الا نزاهة شاعر او كاتب او فنان، والجميع يعلم انه ليس من السهل تجاوز الانسان الذي يملك ريشة طائر الباز يرسم بها الكلمات والالحان والصور، ومادام من المؤكد زوال الغمة ولامحالة من معانقة النخيل والجبال، سيبقى اسم كمال سبتي شاهدا مع الاصوات الحقيقية الصادقة والجامحة في قائمة الانتظار الطويلة لغد افضل، ولا امل في ان يدجنها الزمن، كي تحصل على مباركة الاوثان، في عراق جديد يشق طريقه نحو السماء بصعوبة ولكن بثبات وعزيمة لاتقهر. سيعاد جثمان الشاعر كمال سبتي الى مثواه الاخير في الوطن، بمبادرة من السيد رئيس الجمهورية جلال الطالباني، ولكنه سيعود وحيدا، دون ناي يعزفه فنان سومري، ولا ندامى يرفعون نخبا في وداعه، ولا عراقية تذرف الدموع على فراقه، فهل سيكون كمال سبتي كما قال ( فقير اليدين والشفتين أضيع في هذه الحرب، سلامي غيب الكتب، وطريقي الا اكون في طريق/ /حتى دخل المؤرخ علينا ذات مرة، فانتزع الاسماء كلها . فهو الضحية أعني الشاعر وهو سجين القش الذي سقاه الملك سما ) لم يكن رحيل كمال مختلفا عن رحيل كبار شعراء العراق، فقد رحل غريبا مثلما رحل الجواهري والبياتي وبلند الحيدري وزاهد محمد ومصطفى جمال الدين، فاسمعه يقول في قصيدة حكاية في الحانة : ( لا اعبر الى الدولة، يبدأ الجسر بثلاث حصى وإناء بخور وينتهي بحكم الاية أو شبيهتها، بما يؤوله المفسرون والقضاة، وبما ينساه المؤرخ عادة . لم يعلمني احد بهذا . انما كان سواد الماضي يدلني على موت أعد لي نكاية بهذه القصيدة.) ساجمح في خيالي لاتصور حفل استقبال الشاعر الراحل كمال سبتي في مدينته الناصرية، سيحضر الشعراء وستحضر موسيقى الملحن الراحل في غربة الدانمرك كمال السيد بلحنه الجميل مشيت وياه للمكير اودعنه، وستحضر فتيات الناصرية لتهزجن باشعار انانا، ونساء الهور تنشدن قصائدهن لتموز المياه الخالدة، وستحمل طيور الخضيري المهاجرة زهور الزنبق لتنثرها على مزار الشاعر حين زيارتها لارض الرافدين الدافئة هربا من شتاء يداهمها في بلدان الشمال، فلطالما كان الجنوب واحة الدفء للاجساد والقلوب، ولذلك انتشرت فيه مزامير القصب، فلتصدح عاليا في موكب تشييع الشاعر، ولتحمله الاكف الى رحم الام الحنون في وادي السلام .
لا.. يا كمال سبتي، ألم تقل أنك لن تفعل ذلك؟
شاكر لعيبي
يا أخي.....
لماذا ترحل هكذا يا كمال سبتي؟ (ليش) تغادر هكذا دون أقلها أن تودعني بصوتك الراعف؟ ألم تقل لي أنك سوف تجئ لزيتونات تونس؟ أين سأراك إذن بعد الآن؟ ألم تقل لي بأنك لن تفاجئني بغتة بالموت ؟ ألم أتصل بك منذ شهر من مصر وكنت تلمِّح لي بحال الجسد الغدّار؟ وكان الموت، وربّ العراق، بادياً في تلوينات كلامك، وكنت ترمي له بطُعْمٍ أيها الصياد الشقيّ؟ لقد راوغتَ حياتي، لتخرجَ من ماء الحياة إلى الأبد. وتتركني وشأني في البرية من دون حُماة.
صحيح يا كمال أننا، أنا وأنت، أمسكنا بخناق بعضنا بشدة وتدافعنا كالوعول نحو بعضها بعنفوان، وكان السبب جليلا، صحيح أننا صرخنا في وجوه بعضنا بسبب عضة الوجود التي عضتْ كلينا في مكان محدّد في روحه. صحيح أننا تعالتْ أصواتنا أمام ملأ مهموم بالفضيحة قبل أي شأن، لكن صحيح كذلك أننا لم نفعل إلا حمية وأنفة للشعر وحده، كلٌّ من شرفته وشرفه وتاريخه.
ها هي ذي رسائلك التي كتبت لي بعدئذ، كي تعطّر الأجواء. من سيطيّب خاطرك. ها أنا أعاود قراءتها الواحدة تلو الأخرى كي أواجه الموت بخزيه وعاره وبهتانه: quot;..........quot;.
من سيطيب بالمجامر الفضية الرفيعة خاطرك الذي هو خاطرنا جميعاً. لقد تسمَّعتَ طويلاً خلف الجدار مثلنا، بانتظار هاتفٍ عادلٍ، عبثاً.
عبثا.
عبثاًَ.
العار والشنار لتاركي الشعراء وشأنهم من دون حنان، من دون سماء، من دون أن يَسْمَعوا أصواتهم المجلجلة، من دون أن يُقلِّبوا دواوينَ قلوبهم.
العار والشنار لمن لا يُصغي للشاعر، لمن لا يصمت أمام الشاعر المنفيّ، لمن لم يدعكً تكمل القصيدة بسلام ولا السفر لقراءتها في كل بقعة ولا قبول ظلكَ الطويل على الأرض، ولا استقبالكَ أو توديعكَ كما يليق بأصحاب العزلات الجسام.
العار للنثر المزوَّق أمام النص العاري.
سيأتي دوري يا كمال سبتي، ومثلما لا أرضى بالظلام من أجلك، من أجل عيونك، لن أرضى لنفسي في قبري كما أنت في قبرك.
لم يزْ موتك أحدٌ, متَّ إذن في العزلة، بل في الوحدانية التي لا يعرفها إلا ألمٌ أعلى من الوعي السادر، وألقٌ مبهر جدير بانفجار كواكب عصية على المسارات الواضحة.
أيها الغالي.
الشاعر شهيدا : وهل كان الشاعر سوى موت على وشك الانبعاث ؟
ابراهيم سبتي
مفارقة ، ان يكون احد اخوتك شاعرا وانت تكتب القصة وثالث مسرحي !
الاخ الشاعر ، كان هيبة الشعر كله في بيت كان الاب ، فقيرا طيبا شاء قدره ان ينجب هكذا ابناء .
لكنه كان ابا لموهبة اكبر من عمرها .. في الليل وحين ينام الصغار في احضان الفرش
المتهرئة ، كان اخونا الشاعر ، يقرأ بنهم حتى مطلع الفجر .
اخونا ، سيصير احسن منكما ، ايها النائمان منذ اول الغروب : قال الاب ساخطا .
في اول النهار ، سرني اخي الملتهم للكتب:
لم اقرأ مثل كتبكم !
حينها كنت اخشى عليه من سطوة ابي الفقير الذي كان يتحجج بالدوخة ، كي ينسحب من وجبة الظهر
الخفيفة جدا ليبيحها لنا نحن الارانب .
كان وحده يعرف سر ابي . فراح ينهض قبله تاركا المائدة وابي ينظر له بحيرة ووجوم .
في عام 1973 ، نشر كمال اول قصيدة وهو طالب في معهد الفنون الجميلة ببغداد .
في عام 1974 نشر قصيدته في مجلة الاقلام
في عام 1980 اصدر ديوانه الاول ( وردة البحر ) .
وتوالت دواوينه الاخرى .
غادر العراق هاربا بمفارقة ايضا . فمن كان يقدر على مغادرة العراق في الثمانينيات وهو عسكري .؟
غادر هاربا ولم يعد ، وتنقل بين البلدان ، تركيا ، قبرص ، يوغسلافيا ، ومكث في بلغراد سبعة اشهر تحديدا
ثم اسبانيا واخيرا استقر بهولندا .
كانت المنافي بالنسبة له
كما يقول ( لكل منا قدره ومصيره. وقد شاءا أن أشقى في حياتي من منفى إلى منفى. مؤكدٌ أن الواحد منا يحاول أن يهضم المنفى معرفياً وحسياً. ) وكان يردد قولته المشهورة ( تعلمت ألا أكون راديكالياً في حداثتي وأن أكون متواضعاً أكثر وأن صفة الشاعر الشهيد لا تُلفَّق ولا تعطى للمرء في حياته بل يهبها التاريخ الذي يسري هادئاً. )
كان يحب العائلة ، وحزن كثيرا لموت الشقيق الاكبر غريبا هو الاخر ولكن في بغداد .
هاتفني كمال باكيا : اقم له عزاء يليق به .
ولكن المفارقة الغريبة ان يأتي كمال الى وطنه بعد عقدين من المنفى في عام 2003 ليموت الاب بعد اربعة ايام !
عند المثوى قلت له : كتب علي ان ادفن العائلة وحيدا .
اطرق برأسه وبكى .
كان الموت يتكرر في معظم شعره وكأنه تعويذته :
( تلكم كائنات يبست ،
هل ترتدي ايها السيد لبادا من الطين ؟
لم ادر انك تموت وحيدا ، وتحيا مرات
قال الراعي : انك مت : أي ، انحدرت الى
القاع السحيق ، وقال : انطفأت فيك نار الله ، فما
عدت تقبل علينا بالصراخ ، لكأنك مت حقا ايها
السيد ، ولكأن الراعي تنادى الى سمعه صوتك
القديم ، فقال : مات . ) متحف لبقايا العائلة ص45
مات كمال سبتي تاركا ثمان مجاميع شعرية ، اربع في الوطن ومثلها في المنفى ، ومئات المقالات والدراسات في
التنظير والحداثة الشعرية وخمسة مخطوطات كان ينوي طباعتها تباعا .
ارتح ، ايها الشاعر الشهيد من غربتك في الاصقاع ، ارتح فقد بقي شعرك من بعدك حيا الى الابد .
هامش : العنوان لاحدى مقالات الشاعر الراحل .
رحيل الشاعر العراقي كمال السبتي
ترك lt;آخر مدنه المقدسةgt;
اسكندر حبش
في العادة، ليس من المفترض بنا أن نصدق الشعراء وما يكتبونه. ومع ذلك أجدني مضطراً لاستعادة مطلع قصيدة lt;الأرض اليبابgt; لإليوت وتصديقها: lt;نيسان أقسى الشهورgt;. هو فعلا شهر قاس، علينا، هذه السنة. ابتداء برحيل الشاعر السوري محمد الماغوط، وتبعه بعد يومين الروائي السوري عبد السلام العجيلي، وينتهي نيساننا العربي برحيل الشاعر العراقي كمال سبتي، بعد أن سبقه أيضا الصديق الشاعر الفرنسي كلود استيبان. ما بالهم الشعراء يغادروننا فجأة، ويتركون حرقة الغياب خلفهم؟ هل ضجروا من الكتابة؟ من هذا الإغواء الذي قادهم لسنين عديدة؟ أم أنهم حاولوا كتابة قصيدتهم الأخيرة التي لا تنتهي إلا بالرحيل والموت؟
لكن من الصعب أيضا، أن تنتهي الحياة، هكذا، في المنفى.
في lt;منفاهgt; جنوب هولندا وهل ثمة مفارقة هنا في إقامته في جنوب هولندا وهو المولود في جنوب العراق، (في البصرة)؟ اتكأ كمال سبتي على كرسيه، للمرة الأخيرة. لم يشعر أحد بموته، إلا بعد أيام. هل كان يسكن لحظتها lt;آخر مدنه المقدسةgt; أم أنه، فعلا، كان قد رحل عنها منذ زمن طويل، هذا الزمن الذي يقاس بعمر هذا المنفى والرحيل عن المكان الأول؟ لا ضرورة كي نجد جواباً على ذلك، كلّ ما فعله كمال سبتي، في رحيله هذا، تأكيد ما كتبه ذات يوم: لقد أرسل lt;بريده العاجل للموتىgt; ولم ينتظر أن يعودوا مثلا. كان يعرف أن لحظة اللقاء لن تكون إلا في الرحيل إليهم. اقتنع بما كتب، ولنقل لقد lt;صدقgt; ما كتبه، ليستعجل الرحيل عن عمر يناهز 52 عاما (مواليد العام 1954).
لم أكن أتوقع أن يكون عمر صداقتنا التي نشأت مؤخرا، قصيرا إلى هذا الحد. أرسل لي منذ عام تقريبا مجموعة شعرية له، وما كان إلا أن شكرته. لتمضي الأيام وأكتب له الكترونيا طالبا منه المشاركة في تحقيق لlt;السفيرgt;. ومن ثم طلبت منه مقابلة حول صدور كتابه الأخير. هي أشياء عادية، لكن lt;إيميلاتهgt; العديدة واتصالاته الهاتفية المتكررة، لا بد أن تجعلك قريبا منه في فترة قياسية. ربما هي lt;الوحدةgt; التي جعلته يرتبط lt;افتراضياًgt; بنا. ربما المنفى أيضا كان يدفعه إلى فتح طاقات للحوار كما إلى الكلام العادي مع مختلف من يتعاطون الثقافة. من هنا علينا أن نفهم، لا كمال سبتي وحده، بل كل المثقفين والكتّاب المنفيين، الذين طالت مغادرتهم، إذ في هذه العلاقة، حتى ولو كانت افتراضية، ثمة وشائج للبقاء على اتصال مع من يشاركونهم لغتهم، مع من يشاركونهم ولو جزءاً من همومهم.
كان مهموماً بالكتابة. ألم يكن السبب الرئيسي في مغادرته تضييق الخناق عليه في ظل النظام العراقي السابق، ليغادر بحثاً عن نسيم نظيف يجعله يكتب بحرية أكبر؟ انظروا ما أصبحنا عليه. لا نحلم إلا بنسيم حرية، ولو كان واهياً. هي حرية المنفى، ولو كان منفانا قاسياً إلى أبعد حدود. إذ لم يكن هناك أي أمل في العودة. قال في آخر حواراته مع lt;السفيرgt;: lt;هربنا من دكتاتور قاس لكن الحرب والاحتلال أفسدا أملناgt;. هي الآمال المهدورة دائما. لذلك نبدو كلنا وكأننا نعيش في lt;الوقت المستقطعgt;. تماماً كما لو أننا في مباراة كرة القدم. لقد أضاف الحكم بعض الدقائق إلى عمر المباراة، والجميع يدركون أنه سيطلق صفارة النهاية عمّا قريب، إذ لم يتوقف عن النظر إلى ساعته.
على الرغم من كل عمله على تأسيس lt;مرجعيةgt; ما للقصيدة الجديدة، إذا جاز التعبير، إلا أن كمال سبتي بقي ابن القصيدة العراقية، ابن الشعر العراقي الممتد من العصر العباسي لغاية عصرنا الراهن. لقد حاول أن يشكل امتداداً لكل المرجعيات الشعرية التي ورثها. من هنا انقطاعه عنها ليس سوى محاولة للعودة إليها، أي كيف نفسر كتابته المتأرجحة ما بين قصيدة النثر وبين القصيدة الكلاسيكية الموزونة؟ لم يكن يجد أي اختلاف في الأمر، إذ غالباً ما اعتبر نفسه انه ابن هذين المشروعين.
رعد عبد القادر، جان دمو، عقيل علي، محمود البريكان... واليوم كمال سبتي... كبيرة هي خسارات الشعر العراقي التي حلت مؤخراً. شعراء حقيقيون، يغادرون في اللحظة التي يرغب العراق فيها أن يستعيد دوره الريادي ودوره الحضاري، وثورته الاجتماعية بعد رحيل نظام البعث، الذي خنق الثقافة الحقيقية، محاولاً فرض شروطه. ربما هي سمات القدر. ربما هي هذه المفارقة التي لا نعرف كيف تتموضع فجأة. شعراء يرحلون ويتركون لوعة بعدهم.
ما باليد الحيلة: لنصدق ما يقوله الشعراء. ألم تكن آخر كلمات كمال lt;صبرا قالت لي الطبائع الأربعgt;. لنصبر بعد، على الأقل لكي ينتهي أقسى الشهور.
صديق آخر يحبذ الرحيل على الوحدة
ملك مصطفى ـ مدريد
صعقت للتو فسقطت دمعة أعقبتها غصة لا بل أكثر من ذلك ، لأني شعرت أن الموت يأخذ مني كل الذين تركوا بحياتي أثرا ، ليتركني في كل مرة أكثر عزلة وتقوقعا في أغوار الذات . حين قرأت بألف ياء ، نبأ رحيل الصديق الشاعر كمال السبتي صدقت ولم أصدق لأن المؤلم أكثر من الموت ، هو حضور هذا الملتحف بالجليد والسواد في لحظة الوحدة وهجران الخلان القلائل اليوم . في آخر مرة رأيت فيها الصديق كمال كانت في دمشق ، إلتقيت معه في البيت العراقي يقدم كتابه quot; آخرون ...قبل هذا الوقت quot;. فرحت جدا به وبلقائه ، فرحت لأنني رأيته معافى ، وكانت صورته أكبر دليل على تعدي الآخرين عليه . كان يقرأ ويرتج قلبه على إهتزازات حباله الصوتية معها تنحدر دمعة . بكى أثناء التقديم ، بكى لأن مايقرأه يهز الفؤاد ، ولأن مصاب العراق يهز الجبال . بكى فرحا لأنتصاره على كل الذين نالوا منه حقدا وضغينة ، وكلمة صدق تقال أنه كان أصدق الجميع ،لأنه لم يكن خسيسا ولا مواربا بل كان صريحا ،جريئا وصادقا مثل صوته الجهوري الذي لايحفل بأحد لحظة قول الحقيقة .
عندما رآني في دمشق ولشدة فرحه بلقائي شدني مع المجموعة الصديقة التي كانت تحتفي به ، أثناء ذلك تعرفت على أخيه القادم من أمريكا (ولشد ماشجعته على الرحيل ليكون جانبه )، وكان من بين الحضورأيضا الصديق الشاعر محمد المظلوم ، الذي كان صدوقا له ومدافعا أبدا عنه . كان الشاعر الصديق السبتي آنذاك مثل طفل لاتسع شدة فرحه كل دمشق التي كانت تحتفي به وتودعه ، فلطالما إستقبلت هذه المدينة من الشعراء والكتاب العراقيين و ودعت .
تعرفت على الصديق كمال في منتصف عام 1995 وكان في بداية الأحزان ورفقة الخمر، فحين يدمن الخمر على أحزاننا ندمن نحن عليه ، ويتحول إلى رفيق لاعمل له إلا حملنا من عالم مشبع بالمرارة إلى عالم اللا آن .
كان رحمه الله رجلا نبيلا وصادقا ، كريما وشهما ، وفي لحظات السكر كان دائما وحيدا . وعلى الرغم من حزنه المكبوت كان محبا للنكات يسرق منها الضحكات ولو خلسة .
تحضرني الآن حادثة ، إذ سمعت أحدهم يحكي لآخر أنهم وجدوه على مقعد بآخرالليل في أحد شوارع مدريد وهو في غيبوبة من خمر ومن ألم وأن أحد اللصوص شلحه ماكان معه . المؤلم بالوصف مارافقه من إبتسامة فيها من الهزء واللاشعور .
من الظلم أن يرحل الشعراء ، وحين أقول الشعراء فأنا أعني ماأقول ، وكمال سبتي كان خمره ينطق شعرا ويغارالآخرون فيتهجمون عليه .
مؤلم م













التعليقات