رضوان السيد


يقول المؤرخ البريطاني البارز اريك هوبسباوم، إنّ الخطأ الكبير يكمن في تجاهُل التاريخ، أما الخطأ الأكبر ففي الاعتقاد أنّ التاريخ يكرّر نفسه!، وقد اعتدنا قبل ظهور المناهج المعاصرة في الدراسة التاريخية، ودراسة تاريخ الإسلام على مركزة الحضارة الإسلامية، بل والتاريخ الإسلامي بين ثلاث أمم: الأمة العربية، والأمة الإيرانية، والأمة التركية، ثم جاء مارشال هودجسون (أحد مؤسّسي مدرسة التاريخ العالمي بجامعة شيكاغو)، فاستوعب في عمله ذي المجلدات الثلاثة: laquo;مغامرة الإسلام: الوعي والتاريخ في حضارة عالميةraquo; الحضارة الإسلامية في ستة مجالات جيواستراتيجية، وجيوثقافية، يظهرُ العرب في واحدةٍ (لكنها مؤسّسة) من دوائر الجيواستراتيجي، وفي ثلاثٍ من دوائر الجيوثقافي ـ بينما يظهر الفرسُ في اثنتين من دوائر الجيواستراتيجي، وفي ثلاثٍ من الجيوثقافي. وينفرد الترك بثلاثٍ من دوائر الجيواستراتيجي، ولا يظهرون في أيّ من دوائر الجيوثقافي.

ولستُ هنا بصدد الحديث عن فلسفة التاريخ الإسلامي أو الحضارة الإسلامية، لكنّ المستفادَ من هوبسباوم وهودجسون معاً، أنّ الوعي القومي أو الذاتي في الأزمنة الحديثة (وهو أحدُ عوامل أو دوائر الجيوثقافي)، يؤدي الدورَ الأبرز في حركيات الأمم إلى جانب الجيوسياسي أو الجيواستراتيجي. وبين العرب والإيرانيين والتُّرك، تشابكٌ واشتباكٌ في الأمرين معاً، لكن في حين يتزاوج التشابك والاشتباك بين العرب والإيرانيين عبر التاريخ، يظلُّ الاشتباك الجيوسياسي غالباً بين الإيرانيين والأتراك في التاريخ والحاضر، رغم سَواد التشابك والتواصل الجيوثقافي بين الأمتين المُسلمتين حتى الأزمنة الحديثة. أمّا بين العرب والتُّرك، وفي التاريخ والوعي، فإنه لا اشتباك إلاّ في المرحلة القومية، التي مرّت عنيفةً على الطرفين، دون أن تترك آثاراً غائرة.

نعرف من الشاهنامه (كتاب الملوك للفردوسي)، أنه منذ ما قبل الزمان التاريخي كان هناك اشتباكٌ بين إيران (بلاد الآريين)، وطوران (بلاد الطورانيين أو الأتراك). لكن في حين لم تقم في آسيا الوسطى وتركستان إمبراطوريات كبرى قبل الإسلام، فإن الإيرانيين أنجزوا إمبراطوريتهم في القرن السادس قبل الميلاد، حين توسّعوا على حساب اليونان والتُّرك القُدامى والبابليين، وصولاً إلى الاشتباك مع الرومان فالبيزنطيين في غرب الفُرات أيام الساسانيين (228 ـ 640م)، في القرون الميلادية الأولى وحتى ظهور الإسلام. وعندما فتح العربُ بلاد الفُرس والتُّرك، أقبل هؤلاء جميعاً على الإسلام خلال أربعة قرون (تأخر إسلام تركستان حتى القرن الخامس عشر، ولم تُسلم بعضُ أجزائها وأجزاء منغوليا أبداً)، بيد أنّ الشعوب الفارسية والتركية احتفظت بذاتيتها ولُغاتها، وبعد القرن الثاني عشر الميلادي وحتى القرن التاسع عشر، ظلّت الثقافة الفارسية هي السائدة في العوالم التُّركية أيضاً، في حين تسلّم التُّرك زِمام القيادة السياسية في سائر ديار المشرق الإسلامي حتى القرن التاسع عشر أيضاً.

ما فائدةُ هذه التقدمة التاريخية؟، في الوقت الذي كان فيه الامتزاج الثقافي بين الفُرس والتُّرك على أشدّه، اصطدمت الأمتان في الجيوسياسي، والجيواستراتيجي. فقد شهدت الأمّتان في القرنين الرابع عشر والخامس عشر نهوضاً سياسياً يستند إلى وعيٍ ذاتي، وتحشُّد عسكري، ثم أُضيف إليه بُعدٌ مذهبيّ (سنّي/ شيعي)، في مطلع القرن السادس عشر، عندما أنشأت أُسرةٌ تركيّة سنّية (الصفويون) اعتنقت المذهب الشيعي، دولة كبرى في إيران، في وقتٍ كانت فيه أُسرة آل عثمان قد حشدت الشعوب التركية في الأناضول ساحلاً وجبلاً، فضربت بقايا الدولة البيزنطية التي عجز العربُ من قبل عن إسقاطها، ثم اندفعت في البلقان وشرق أوروبا، واستدارت فصارعت الصفويين ومن بعدهم القاجاريين على مدى مائة وخمسين عاماً، وانتزعت أيام سليم الأول وابنه سليمان القانوني (1520 ـ 1566م) الشام ومصر (من السلطنة المملوكية التركية)، ثم العراق (ولايات الموصل وبغداد والبصرة) من إيران (التي استعادت هذا الاسم القديم في مطلع القرن الخامس عشر على يد خاقانات المغول الإيلخانيين)، واقتحمت عواصمها عدة مرات (تبريز وهمذان وأصفهان)، من دون أن تستطيع الاستقرار فيها أو التأثير في وحدتها. ومع أنّ الصراع بين الطرفين، خَمَدَ منذ استولى عليهما الضعف والاستنزاف أواخر القرن السابع عشر، فإنّ العربَ يدينون لهذا الافتراق التاريخي بالعراق الحديث الموحّد: إذ إنّ البريطانيين رأَوا توحيد الولايات العثمانية الثلاث، لتكونَ حاجزاً ونقطة توازن بين الكيانين الكبيرين: تركيا وإيران!.

لكن يكونُ علينا هنا أن نُلاحظ أنّ الحضور والتجاذُب التركي/ الإيراني، الذي كان فيه الأتراكُ مبادرين من الناحية السياسية في الأغلب الأعمّ، وكان فيه الإيرانيون مسيطرين من الناحية الثقافية، حيث وعلى مدى قرون في غياب: laquo;العربraquo; الذين خضعت غالبيتهم العظمى للسلطنة العثمانية، وظل الأمر على هذا النحو حتى الحرب العالمية الأولى. وهكذا فإذا أردنا أن لا يعودَ الصراع الإيراني/ التركي، لا بد أن يُثبت العربُ وجودهم، فيحققوا التوازن، ويحفظوا مصالحهم أيضاً من ابتزاز الطرفين.

أقبلت الأممُ الثلاث على بناء ثقافتها ودولها القومية على النمط الأوروبي في القرن العشرين. وكانت لكلّ منها مرحلتها الدستورية الإصلاحية والتحديثية، وأَزمنتها الشمولية بمسوّغات قومية، لكنّ التُّرك والإيرانيين ما اصطرعوا في القرن العشرين أبداً تقريباً. فقد دخل كلاهما بعد الحرب الثانية في التحالف الغربي، وبقيا في جانب واحد في زمان الحرب الباردة. أمّا العربُ فقد عانَوا من كليهما، إذ إنّ غيابهم الطويل من على مسرح التاريخ، أنْسَى سائر الأطراف وجودَهم، بحيث استسهل التُّرك كما استسهل الإيرانيون اهتضامَ جيوسياسيّهم، كما حاولوا النأْيَ عن جيوثقافيّهم ولو كان الإسلام!. وفي حين استطاعت الأمتان الكبيرتان الإيرانية والتُّركية الاحتفاظ بما تعتبرانه حقوقاً قوميّة أساسية، فما عانتا من انجراحات الوعي التاريخي أو القومي، فإن العرب الذين عجزوا عن التوحد وعن النجاح في اقامة الدولة الحديثة (حتى مصر أقدم التجارب)، فغر جرحهم القومي ولا يزال بقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. وقد يتجدد لديهم جرح آخر في العراق. وخرجت إيران من التحالف الغربي بفرقعة كبيرة عبر الثورة الاسلامية فيها، ولا تزال منذ العام 1979 في اشتباك دائم متفاوت الشدة مع سائر أطراف الغرب المهيمن وبخاصة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. أما تركيا فقد انصرفت لاجراء مصالحة بين القومي والثقافي (الإسلامي) في تكوينها، وحظيت دائماً بالرعاية الغربية، لاحتفاظها بوظائف ضرورية ومتنوعة للغرب في شتى الأزمنة والمراحل. وفي حين انقسم العرب في الحرب الباردة تبعا لاصطفافاتها السوفياتية والاطلسية، عادوا بعد انقضاء ذلك الزمان البارد/ الساخن الى المعاناة من فشل التجربة السياسية، ومن تخثر جراحات الحرب الباردة، وأهمها جرح فلسطين، ثم جرح العراق في السنوات الأخيرة.

ويزور الملك عبد الله بن عبد العزيز تركيا هذه الأيام في مرحلة حاسمة من حاضر العرب والأتراك والايرانيين معاً. الايرانيون يحاولون القيام باختراق استراتيجي للهيمنة الاميركية، فيضربون في توازانات بالمنطقة العربية تسبب في خلخلتها أصلاً التدخل الاميركي الفظ من العراق والى سورية وفلسطين ولبنان. أما الأتراك الذين يعانون من المشكلتين الكردية والقبرصية، ومن الاعراض الأوروبي، فإنهم أكثر الجميع اطمئناناً الى الحاضر والمستقبل. عندهم تجربة مصالحة تاريخية بين الدين والدولة، وعندهم تجربة تنموية كبيرة، وبلادهم الفقيرة بالبترول، غنية بالمياه، وقد عادت امتداداتهم الطورانية (والآن الإسلامية) في آسيا الوسطى والقوقاز. وتتجدد لهم عند الغرب والعرب وظائف ووظائف وتوظيفات. أما العرب، فعندهم هذا الموقع الاستراتيجي الكبير من الأطلس وإلى المتوسط، وعندهم مستقبل العالم في الطاقة والممرات الاستراتيجية، لكنهم يعانون من مشكلات الانقسام، ومن القضايا شبه المستعصية، ومن تغول عدة جهات على أرضهم ومصالحهم. المصالح المشتركة. والهموم المشتركة، أكبر مع إيران منها مع تركيا. لكن إيران في حالة laquo;توترraquo; كبير منذ قيام الثورة الإسلامية. هم يقولون إنهم يعانون من الحصار الأميركي، ومن الاعتداء على مداهم الاستراتيجي، وعلى حقهم في التقدم وخصومهم الغربيون (والآن العرب) يشكون من التفكير الامبراطوري الايراني الجديد، ومن عودة إيران لاستراتيجيات laquo;تصدير الثورةraquo;، والتلاعب بأمن الجوار ومصالحه حتى مع تركيا. ولذلك فإن كثيرين من العرب والأوروبيين يعتبرون أن تركيا لديها وظيفة مهمة وحاضرة: الدخول عنصر توازن لا صراع على خريطة laquo;الشرق الأوسط الجديدraquo;.

ما هو الشرق الأوسط الجديد؟ شيمعون بيريس كان أول من طرح تصورا اسرائيلياً له أواخر الثمانينات. وهو يرى في ذلك التصور أن عصر الصراعات انقضى مع انقضاء الحرب الباردة، وانقضاء عصر القوميات المتشدددة أيضاً! واسرائيل أكثر دول المشرق أو الشرق الأوسط انفتاحا وديمقراطية وتقدماً (!)، ولذلك يرى (من الرؤيا) منطقة مفتوحة بعضها على بعض وموصولاً بعضها ببعض بشبكات الاتصال والسكك الحديدية وخطوط الطيران والخطوط البحرية والبرية، ومنطلقها جميعاً اسرائيل أو مركزها الموزع اسرائيل، ولكل دولة أو ناحية وظيفة فيها: لتركيا المياه، ولدول الخليج الطاقة، وللدول العربية الأخرى اليد العاملة التي تتدرب في اسرائيل وتعود الى بلدانها لتنشر التقدم التكنولوجي والديمقراطي! وما لقيت ايران وقتها عطفاً من حضرته ولا العراق، بسبب طبيعة نظام الحكم فيهما. وجاءت الولايات المتحدة في عهد بوش الثاني لتشارك بيريس تصوره لكن بالحرب وليس بالسلام والتنمية، وإن يكن قصدها من وراء الحرب السلام والديمقراطية والتنمية!

نحن في الواقع على مشارف عصر جديد، وشرق أوسط جديد. لكن الطريف أن ايران وتركيا هما اللتان تصنعانه أو تلعبان دوراً اساسيا فيه وليس اسرائيل أو الولايات المتحدة. المطامح الايرانية للمشاركة في أمن المنطقة وتوازناتها مشروعة، لكن أساليبها التي تزعزع الاستقرار (عند العرب أكثر مما هو عند اسرائيل) غير مستساغة ولا يمكن ان تنجح. لقد صارعت الولايات المتحدة صدام حسين طوال خمسة عشر عاماً حتى أنهته. والمناطحة مع إيران سوف تضر بالطرفين، كما ستضر بإيران أكثر. على أن الدخول التركي من الباب الأميركي لن ينفع ولن يكون مستساغاً أيضا. لقد كانت تركيا حكيمة وقوية حين لم تتورط مع أميركا في العراق رغم حساسية الملف الكردي بالنسبة إليها، في حين تورطت إيران هناك والآن في لبنان. وبينما تريد تركيا الآن القيام بعمل بناء بين العرب وإيران ومع العرب وإيران. التجارة التركية مع إيران بأكثر من عشرة مليارات دولار في العام وهي الى زيادة، وكذلك مع العرب، وهي الى زيادة. ولكي تتم صفقة التوازن أو وقائعه لا بد من مبادرة عربية في الجيوسياسي ليس في التبادل التجاري واستيراد العمالة والشركات التركية وحسب. لقد فتحت المملكة العربية السعودية منافذ استراتيجية للعرب خلال السنتين الماضيتين مع الصين والهند، وهي ماضية في اختيار وتقليب واختبار المنافذ الأخرى. ومن هنا فإن زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز لتركيا في هذه الظروف بالذات لها دلالاتها الاقتصادية طبعاً، بيد أن الأهم الدلالات السياسية والاستراتيجية البارزة في هذه الحقبة المهمة للنهوض والتنمية، وللتصدي للمشكلات المستعصية في المنطقة العربية.

لقد حضر الإيرانيون والأتراك، وكل يعرض بضاعته على طريقته: فهل يحضر العرب وكيف؟

التاريخ لا يصنع الحاضر، لكنه لا ينفيه ولا يأسره. كانت تركيا تسيطر على المنطقة، لكنها ما كانت مرة مثالاً لها. فقد ظلت الخلافة العربية هي النموذج في الوعي حتى لدى الترك. وما كان للايرانيين أي نفوذ غرب الفرات خلال العصور الاسلامية , وهم الآن متنفذون بعد العراق في سورية ولبنان. لكن مثل إيران في النفوذ مثل شيوعية الاتحاد السوفياتي: الاتحاد السوفياتي يدفع، وشيوعيو العالم الثالث معجبون بالشيوعيتين الفرنسية والإيطالية! فلكي ينضبط الهياج الإيراني، لا بد أن يحضر الهدوء التركي. لكن الحضور التركي بدوره مشروط بالوجود العربي، وبالرؤية العربية، بالمشروع العربي، وبالمبادرة العربية.

تركيا لا تعرض نموذج سلطنة آل عثمان، ولا أحد يريدها. بيد أن نموذجها لعلاقة متجددة وايجابية للتنمية والديمقراطية وعلاقة الدين بالدولة طموح وجذاب. وإيران عندها امكانيات كبرى في الطاقة، وفي التماسك وقوة الدولة. لكن نموذجها السياسي والأصولي لا يهم أحداً ولا يجذبه ربما باستثناء الاصوليين المتشددين، والقائلين بولاية الفقيه.. وهوغو شافيز: فهل يحضر العرب بناة الدولة الأوائل، وصانعو النموذج الأول لعلاقة صحية بين الدين والدولة؟.