صبحي حديدي


في إحياء الذكري الخامسة لهزّة 11/9، حين انهار البرجان الإعجازيان في نيويورك، وكاد مبني البنتاغون الأسطوري أن يُدكّ، وارتدّ الوجدان الجمعي الأمريكي إلي فاجعة بيل هاربور، واهتزّ اليقين بأنّ أمريكا حصينة منيعة خلف أسوار المحيط الأطلسي... في هذه الذكري كان من الطبيعي أن يغنّي كلٌّ علي ليلاه.

أتباع نظرية المؤامرة (حيث جهات في الإدارة الأمريكية أو الاستخبارات الإسرائيلية هي التي خططت ونفّذت، وليس القاعدة) لا يبدو أنهم تعبوا من نبش المزيد من البراهين القاطعة علي صحّة الفرضية. ولا يخطئنّ أحد الظنّ بأنّ أتباع هذه النظرية لا يقيمون إلا في الشرق الأوسط أو هنا وهناك في بلدان العالم المسلم، كما تسير الصورة التنميطية، لأنّ العكس تماماً هو الصحيح: غالبيتهم العظمي في الولايات المتحدة ذاتها، وفي آخر استطلاع للرأي تبيّن أنّ واحداً من كلّ ثلاثة أمريكيين يؤمن بضلوع السلطات الأمريكية، علي نحو او آخر، في ما جري يوم 11/9.

وكما يفصّل جيم دوير، في صحيفة نيويورك تايمز قبل أيام، ثمة حركة جدية ملموسة تعتمد التظاهر والاعتصام وحملات التوعية، ويتحالف معها عشرات المعلّقين في صحف وإذاعات محلية، فضلاً عن أساتذة جامعات وأخصائيين في الهندسة المعمارية وتفجير المباني العملاقة والتصوير السينمائي. هذه الظاهرة، لأنها انقلبت هكذا في واقع الأمر، أجبرت الحكومة الأمريكية علي إصدار سلسلة تقارير تدحض نظرية المؤامرة وتسند الرواية الرسمية، بينها تقرير علمي صادر عن المعهد الوطني للمقاييس والتكنولوجيا ، هو الثاني من نوعه بعد التقرير الأوّل الذي صدر في الذكري ذاتها قبل سنة، ويقع في 1000 صفحة!

وثمة حركة أخري، أكثر رصانة وأوسع انتشاراً، تطلق علي نفسها اسم حقيقة 11/9 وينضوي في صفوفها مئات من المثقفين والكتّاب والعلماء والناشطين، وتهدف إلي دحض الرواية الرسمية ليس تطويراً لنظرية المؤامرة، بل تأسيساً لنظرية عالية المصداقية حول لجوء السلطات الأمريكية إلي طمس عشرات الحقائق الدامغة، عن سابق عمد وتصميم وتفادياً للحساب والمسؤولية من جانب أوّل، كما تقصّد البيت الأبيض استغلال الحدث لتمرير أجندات أمنية وعسكرية وسياسية مغامرة في الشرق الأوسط من جانب ثانٍ. ومؤخراً، في مناسبة الذكري الخامسة هذه، صدر كتاب لافت وبالغ الأهمية، بعنوان 11/9 والإمبراطورية الأمريكية: المثقفون يعترضون ، أشرف علي تحريره دافيد راي غريفث وبيتر ديل سكوت، شاركت فيه نخبة من ألمع الأسماء في مختلف ميادين العلوم السياسية والاجتماعية والنفسية.

وثمة، في الصدد ذاته، حركة تأليف دائبة ناشطة تدور كالرحي، تقذف كلّ يوم ما هو في الغالب غثّ وسطحي وشعبوي، فتعيد إنتاج التنميطات ذاتها وتقلّبها ذات اليمين وذات الشمال دون أن تبدّل فيها قديماً أو تضيف إليها طارئاً. هذا لا ينفي وجود حفنة قليلة من الأعمال التي تشذّ عن القاعدة، بينها علي سبيل الأمثلة هذه العناوين: دافيد راي غريفث: بيرل هاربور الجديدة: أسئلة مقلقة حول إدارة بوش و11/9 ، وكذلك: العقيدة المسيحية والحقيقة وراء 11/9 ؛ جيم مارس: مهمّة من الداخل: إماطة اللثام عن مؤامرات 11/9 ؛ مايكل رابرت: عبور الروبيكون: إضمحلال الإمبراطورية الأمريكية ونهاية عصر النفط ؛ جورج همفري: 11/9: نهاية الوهم ؛ ماتياس برويكرز: المؤامرات، نظريات المؤامرة، وأسرار 11/9 ؛ دون بول وجيم هوفمان: الاستفاقة من كابوسنا: جرائم 11/9/01 في مدينة نيويورك ؛ نافذ مصدق أحمد: الحرب علي الحقيقة: 11/9، التضليل، وتشريح الإرهاب ؛ وبستر تاربلي: 11/9: إرهاب مركّب، صُنع في أمريكا ؛ وأخيراً باري زويكر: أبراج الخديعة: كيف تستّرت وسائل الإعلام علي 11/9 .

وبالطبع... ثمة الرئيس الأمريكي جورج بوش والنظرية الثابتة اليقينية الراسخة التي لا تتزحزح قيد أنملة عن معادلتها البسيطة المبسطة: 11/9 كانت جولة للشرّ (الذي قد يكون فاشية إسلامية أو إسلامية فاشية أو إسلامية ـ فلسطينية ، أو إسلامية محضة خالصة بلا أوصاف ولا مواصفات...)، ضدّ الخير (الذي ينبغي أن يبدأ من ها هنا: من واشنطن، والقِيَم الأمريكية، وطرائقنا في العيش، وديمقراطيتنا، وفلسفات سياستنا واجتماعنا واقتصادنا...)، ولا وسيلة لانتصار الخير علي الشرّ إلا بما فعلنا ونفعل في أفغانستان والعراق (ثمّ فلسطين ولبنان بالإنابة، أو بالتفويض، ضمن الشراكة) من حرب علي الإرهاب، سمة القرن الواحد والعشرين.

فعلي امتداد الأسبوع المنصرم القي بوش سلسلة خطابات أراد منها إحياء الذكري الخامسة لـ 11/9، وتبيان استراتيجيته الأمنية والسياسية خلال السنوات المقبلة، فضلاً عن التسخين التمهيدي لحملات انتخابات الكونغرس النصفية. وفي خطابه أمام المحاربين القدماء في سولت ليك سيت (الذي قد يكون الأكثر دلالة لأنه كان مؤدلجاً للغاية وعلي نحو غير اعتيادي)، اعتبر بوش أنّ الحرب علي الإرهاب أكثر من نزاع عسكري. إنها الصراع الايديولوجي الذي سيحدّد وجهة القرن الواحد والعشرين . وكان من المنتظَر أن يضيف: بالرغم من اختلافاتها، فهذه المجموعات (الإرهابية، في نظره) تشكّل خطوطاً لحركة واحدة هي عبارة عن شبكة عالمية من المتشددين الذين يستخدمون الإرهاب لقتل مَن يعترض إيديولوجيتهم الشمولية الاستبدادية .

ولم يكن منطقياً أن ينهي بوش خطاباً عقائدياً كهذا دون أن ينحني للدولة العبرية: الذين فجروا مركز التجارة العالمي في نيويورك منذ خمس سنوات، متحدون مع مفجّري السيارات في بغداد، ومع مقاتلي حزب الله الذين يطلقون الصواريخ باتجاه إسرائيل !

الأرجح أنّ الغرض من هذا الرحيل، أو بالأحري: الترحيل، نحو الإيديولوجيا ليس التغطية علي سوءات الإدارة الأمريكية وما يستشري سلباً ويتفاقم كابوسياً في جبهات حرب القرن الواحد والعشرين هذه (إذْ كيف يمكن حجب الشمس بغربال: في العراق الذي يقف كلّ يوم علي شفير التفكك الوطني والحرب الأهلية المذهبية، وفي أفغانستان حيث يعود الطالبان والخشخاش وأمراء الحرب؟). غرض ملائم تماماً قد يكون العودة إلي المربّع البدئي الأوّل في المعادلة العتيقة إياها، عن الخير والشرّ والأسود والأبيض والذي ضدّنا لأنه ليس معنا، وتسعير المزيد من النيران التي تشدّد من رهاب الأمريكي، وتعصب عينيه عن حقائق ما جري ويجري منذ 11/9/2001.

ونترك إلي مناسبة قادمة الحديث عن متغيّرات 11/9 ذات الطابع الأمريكي ـ الكوني (قوانين الحدّ من الحريات، المكارثية الجديدة، الغزو العسكري، أخلاقيات غوانتانامو وأبو غريب، المعتقلات الطائرة، السجون السرّية...)، ونتوقف بإيجاز عند مظهرين من بقاء السياسات الأمريكية علي حالها، وانحطاطها أكثر فأكثر. المظهر الأوّل هو مصطلح محور الشرّ الشهير الذي اجترحه الرئيس الأمريكي في أعقاب 11/9، وكيف يتجلي اليوم في ما تشتغل عليه الإدارة الأمريكية بصدد إيران (وليس الملفّ النووي أوّل الاعتبارات وأخطرها، للإيضاح المفيد).

ولا يملك المرء إلا أن يستذكر، ثمّ يضع الاستذكار في سياقات راهنة، تلك الحرب الكلامية التي أشعلها رجالات البيت الأبيض ضدّ فرنسا وألمانيا وبلجيكا خصوصاً، وضدّ العديد من الدول الأوروبية الأخري، بصدد المصطلح. ذلك لأنّ مسلسل التراشق اللفظي كان حادّاً أحياناً، بين وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول من جهة، وعدد من صانعي الدبلوماسية الأوروبية السابقين (وزير الخارجية الفرنسي هوبير فدرين، وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر، المفوّض الأوروبي للعلاقات الخارجية كريس باتن...) من جهة ثانية. ولم تكن تلك المناوشات اللفظية تعكس حال خلاف بين حلفاء ـ أصدقاء حول تعريف وتصنيف ومحاربة محور الشرّ فحسب، بل كانت تعكس أيضاً وأساساً حال القلق الأوروبي العميق إزاء تعطيل الحوار بين مختلف الكُتَل التي تصنع العالم المعاصر، وانحدار آفاق هذا الحوار إلي درك أسفل خطير و... تبسيطي تماماً علي حدّ تعبير الفرنسي فدرين.

في الآن ذاته كان الرئيس الأمريكي يواصل جولته الآسيوية، وكانت تتواصل معها سلسلة التناقضات التي اكتنفت تعاريفه وتصانيفه لـ محور الشرّ ذاك؛ والأسباب البعيدة والقريبة، الثابتة والمتغيّرة والمتغايرة، الملموسة أو الزائفة أو الملفّقة، التي تضع الولايات المتحدة في حال استنفار ضدّ العراق وإيران وكوريا الشمالية. وبالطبع، لم يكن جديداً أن يتخبّط هذا الرئيس، وأن يقول مساء عكس ما قاله صباحاً، وأن يمحو باليد اليمني ما دوّنته اليسري. الجديد، الطريف أيضاً، كان التخبّط المماثل الذي أخذ يطبع تصريحات أعوان الرئيس القدماء المجرّبين (كولن باول، ديك شيني) إسوة بالجدد الهواة (كوندوليزا رايس بصفة خاصة) في تفسير عبارة الرئيس الأثيرة: لا يخطئنّ أحد في فهم نوايانا... نوايا الحرب، غنيّ عن القول!

آنذاك كنّا، نحن العرب علي الأقلّ، شبه متأكدين من أنّ العراق علي رأس لائحة محور الشرّ ، وعلي رأس أهداف أيّة حملة عسكرية في سياق الحروب القادمة ضدّ الدول العاصية ، وبرهنت الأيام علي صواب تكهن لم يكن يحتاج إلي كثير حصافة. لكنّ بعض التردّد كان يهيمن علي الملفّ الإيراني قليلاً، ويبدو واضحاً جليّاً في ملفّ كوريا الشمالية، بدليل ما قاله كريس باتن تحديداً: لا مشكلة في الضغط علي العراق (أي شنّ الحرب عليه، أو غزوه، وتغيير النظام بالقوّة)، وثمة إشكالية في الضغط علي إيران (نابعة من اختلاف المعطيات، والأوراق الحاسمة التي تمسك بها إيران في المعادلة العراقية)، وهنالك مشكلة كبري في إشعال أيّ فتيل بين الكوريتَين. في عبارة أخري، كان هنالك تدرّج في أولويات المصلحة الأمريكية ـ الأوروبية، هو نفسه الوجه الثاني للتدرّج في خوض حرب ضدّ العراق، وتأجيل الأمر بالنسبة للإيرانيين (بذريعة إعطاء فرصة للإصلاحيين!)، وصرف النظر نهائياً عن إيقاظ الكوابيس والأشباح في منطقة جنوب آسيا.

المظهر الثاني، الذي يكمل الاشتغال المتغاير علي مصطلح محور الشرّ ويتناغم مع مفرداته العملياتية إذا جاز القول، هو تصنيف الارهاب الكوني. وهذه الإدارة ما فتئت تعيد الامريكي، ومعه العالم بأسره في الواقع، إلي ذلك المربع البدئي الذي يصنّف أنساق الإرهاب، وأنساق الخير والشرّ استطراداً، من خلال التقرير السنوي الشهير الذي اعتادت وزارة الخارجية الأمريكية إصداره. والحال أنّ هذه التقارير، وما بعد 11/9 تحديداً، صارت لا تصف موصوفاً قائماً بقدر ما تخترع وحشاً متخيَلاً، فبات من نافل القول إنّ الأخصائيين الأمريكيين في شؤون الإرهاب والإرهابيين لم يتعلّموا شيئاً من الدروس الدامية لهزّة 11/9، سواء علي نطاق الولايات المتحدة نفسها أم في مختلف بقاع العالم. أكثر من ذلك، وبمعزل عن التفاصيل التقنية والمعلومات حول حجم ونطاق عمل ومصادر تمويل هذه أو تلك من المنظمات التي يصنّفها التقرير في خانة الإرهاب، أخذت تلك التقارير تشكّل خطوة إلي الوراء بالقياس إلي ما سبق أن توصّلت إليه وزارة الخارجية الأمريكية ذاتها حول الموضوع ذاته في عهد إدارة بيل كلينتون.

ما هو أشدّ سوءاً، ولكنه ليس مبعث دهشة في حقيقة الأمر، أنّ تقريراً صدر مؤخراً عن البيت الأبيض بعنوان الاستراتيجية القومية في محاربة الإرهاب ، يصبّ المزيد من الزيت علي هذه النار المستعرة من حول حرب الإرهاب بوصفها حرب عقائد وإيديولوجيات، حيث لا ينشأ الإرهاب بتأثير من أيّ من هذه العوامل: الفقر والفاقة والبؤس، العداء لسياسات الولايات المتحدة هنا وهناك في العالم، النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، أو ردّ الفعل علي حرب أمريكا ضدّ الإرهاب.
من أيّ سماء سوداء مدلهمة يهبط الإرهاب، إذاً؟