الجمعة: 2006.09.15



صالح خلف الحمارنة


غيب الموت، في خضم العدوان الاسرائيلي الغاشم على لبنان، المؤرخ والأديب الكبير نقولا زيادة، بعد رحلة طويلة من العطاء. كانت بيروت تعيش تحت وابل من قذائف العدو الصهيوني العنصري، في 6 آب 2006، يوم رحيله، مما حال دون مشاركة الكثير من اقاربه واصدقائه ومحبيه وتلامذته، في وداعه الوداع الاخير.
ودعته بيروت التي أحب وعاش فيها وعمل، لأكثر من خمسة عقود، حتى وفاته، فقد كان استاذا مميزا، في جامعاتها، وفي طليعتها، الجامعة الاميركية، والجامعة اللبنانية، والجامعة اليسوعية. يقول زيادة: laquo;بقيت فيها (بيروت)، لأني احبها ولأني اشعر ان بيروت تحبني. لقد عرفت عن بيروت الكثير مما لم يتح لغيري، لأنه لم يعن به.. الحب لبيروت لم يكن اقل من حبي للبنانraquo;.
ولقد عبر الدكتور زيادة عن عميق مشاعره، وانطباعاته عن لبنان في كتاب قيم سماه laquo;لبنانياتraquo; صدر العام 1992، وقد قدمه عربون محبة لبيروت وللبنان واللبنانيين. يقول زيادة: laquo;ان الذي لم يعش في بيروت مدة تكفي للاستمتاع بالمدينة، والتأسف لما اصابها (قبل الحرب السادسة) لا يمكنه ان يدرك عمق المحبة التي اشعر بها نحو هذه المدينة... بيروت اعجوبة في دنيا العرب، كما ان لبنان واللبنانيين اعجوبة ايضا... وانني احب بيروت لمائة سبب وسبب (ويعدد من هذه الاسباب عشرة) وهذا الحب قوي تدريجيا عبر اربعين سنة ونيف (حين كتب) لأنني جربت ان اعرف بيروت الحقيقة، ورغم ما أصابها واصابني واصاب غيري، كان بإمكاني ان اترك بيروت... بقيت فيها.. لأنني احبها، لقد عرفت عنها الكثير، ومن هنا جاء هذا الحب، وهنا اقول ايضا انني احب لبنان لأنني اعرفه، جبالا وهضابا وسهولا وآثارا وثقافة وشعبا وشعبياraquo;. ومن يطالع كتاب زيادة laquo;لبنانياتraquo;، لا شك سوف تزداد معرفته بلبنان واهله، فيضعهم في المكان الرفيع من نفسه.
لقد حقق نقولا زيادة انجازه الفكري والتاريخي والحضاري الكبير، فقد ترك ما يزيد على اربعين كتابا في التاريخ العربي الاسلامي، وعشرات الكتب المترجمة. ولم تجذبه السياسة بشكل مباشر، ولم يظهر على مسرحها.. نعم كان شابا غيورا على وطنه محبا له، قادرا على خدمته ثقافيا.. اما المسرح السياسي فكان مما ينبو عنه طبعه.
فهو القائل (بلسان جيله من شباب فلسطين): laquo;نحن كنا نؤمن بالقومية العربية ونطالب بالوحدة، ونرقص طربا عندما نقرأ دعوة الى الأمرين معا... في أي بلد... او حتى في صحيفة، وكنا نألم ألما عميقا اذا قرأنا او سمعنا ان احدا -كائنا من كان ينكر علينا إيماننا ومطالبنا بالقومية والوحدة.. كانت القومية شيئا من العطر، يحمله النسيمraquo;. وقد قاده ايمانه هذا الى القاء محاضرات عدة في الأندية المختلفة من مدن فلسطين؛ في القدس والخليل وحيفا، جمع مادتها في كتاب هو من اوائل كتبه، ومن اوائل ما كتب في هذا الموضوع سماه laquo;القومية والعروبةraquo; وصدر العام 1945.
كان فشل الوحدة بين سورية ومصر 1958-1961 سببا لأزمة فكرية وروحية في حياة نقولا زيادة، فهو يقول بكثير من الألم: laquo;عشت القومية العربية والعروبة، فكرة وأملا نقيين، يؤديان -او على الاقل قد يؤديان- الى قيام كيان يمثل الآمال والاماني التي كنا نحلم بها ونأمل في تحقيقها، ويعمل كل في مدى امكاناته في سبيل ذلك. ثم نرى وقد اكون مخطئا- زعيما كان في نظرنا املا يجسد أمانينا، يخضع هذا الذي حملناه بين ضلوعنا لتحقيق طموحاته الشخصيةraquo;.
بعدها ينطوي الرجل على الصمت.. laquo;هذا الذي أصابني، لم اتنكر للقومية العربية ولا اكفر بالعروبة، ولكنني ضممت ضلوعيraquo;. بيد انه يقرر بالتالي: laquo;انا ظللت قوميا عربيا، صمت ولكن بعض الوقت، وعدت الى ديدني أي التحدث عن عقيدتي.... وانا لم اكن في حياتي عالي الصوت في هذه الأمورraquo;...
عروبة نقولا زيادة عميقة في نفسه عمق ارثوذكسيته المقدسية، فأنا العربي المسيحي الارثوذكسي عربي في ثقافتي، البسيط منها والمعقد، الحديث منها والقديم... عربي في نظرتي الى الأمور، أي انني اراها من منظار عربي، أاته وآليته هي اللغة العربية، ومن هنا كنت اشعر ببعض الفرق بيني انا المسيحي العربي وبين المسيحي الاوروبي. كان الفاصل بيني وبينه، اولا وقبل كل شيء اللغة، الأمر الذي قوى شعوري الاصلي، والذي ما فتئت اقول به وهو : ان المسيحية العربية لها صورتها وطعمها ونكهتها ومقوماتها الخاصة. وأنا إذ احب لغتي واحرص عليها، أحب ان اراها دائما مواكبة للتطور العلمي، فإن فيها من القوة الذاتية ما يؤهلها لذلك. وليس ذنبها انها تراجعت في التعبير الشامل، عن ضروب الحضارة الانسانية. وإنما ذلك ذنب أناس قصروا عن متابعة الحضارة. ثم انا بعد ذلك، صاحب قضية. أحاط الاجحاف بها من كل جانب، وقلما نجد ناسا في الغرب يتعاطفون معها، لأن ذلك يذكرهم بعقدة الذنب لديهم.
يرد الدكتور زيادة، على السائل الغربي له: منذ متى اعتنقت اسرتك المسيحية؟ فيجيب: laquo;انا متحدر من القبائل التي اعتنقت المسيحية في القرن الرابع للميلاد، او حتى قبل ذلكraquo;. ولما سأله اول خياط اعد له بذلة عند نزوله في لندن، عما اذا لبس بذلة قبل قدومه للندن، يقول زيادة: laquo;اوضحت له الأمر بالتي هي انفعraquo;.
دعته جامعة laquo; عليكرةraquo; الاسلامية بالهند، لحضور ندوة بمناسبة ألفية المسعودي، المؤرخ العربي الكبير، صاحب laquo;مروج الذهبraquo;. وفي هذه الندوة التي ضمت بجانب الهنود المسلمين عددا من المستشرقين الغربيين ومن العلماء من البلاد العربية والاسلامية الاخرى، قال زيادة في مطلع كلمته: laquo;انا مسيحي، لكنني عربي، وأعيش بين المسلمين. اشعر ان الحضارة العربية الاسلامية، هي حضارتي، وهي تراثي الثقافي والفكري، لذلك فأنا انظر الى هذا التاريخ والحضارة نظرة داخلية، أي من داخل تراثي، وهذا ينطبق على الآخرين الذين يعملون في الحقل ذاته، وهم قد يكونون مثلي مسيحيين او قد يكونون مسلمين. فضلا عن ذلك، فنحن ابناء منطقتنا، عندما ندرس التاريخ الاسلامي، فإننا ندرس تاريخنا، ولا يمكننا ان ننظر اليه نظرة من الخارج، زاويتنا داخلية، بخلاف نظرتكم الخارجية...raquo;.
المسيحيون العرب الشرقيون، هم اصل المسيحية التي انتشرت في العالم، هم اهل هذه الأرض، اسهموا مع اشقائهم المسلمين العرب، في بناء صروحها العمرانية والفكرية، وشكلوا بالتالي وجه هويتها وعمق هذا الوجه وجوهره. في كتاب زيادة القيم laquo;المسيحية والعربraquo; والذي اهداه للأمير سليمان بن عبد العزيز، يقول زيادة بكل وضوح وشفافية: laquo;انا وجريس وطنوس وشنوده، ورثة حضارة واحدة عربية اسلامية، عملنا وفي وقت من الاوقات في بناء صرحها، ونحن ابناء ارض نمت هذه الحضارة فيها، ونحن عرب بقدر ما هو كل مقيم في ارض العرب عربي. انا لا اريد ان انكر دور المفكرين العرب المحدثين في الكشف عن التراث الاسلامي العربي الضخم، فهذا امر يجب ان يكف عنه، لأننا انما نحن نقوم بذلك كشفا عن تراثنا. نعم هذه حضارتنا التي بدأ العمل فيها قبل نحو ستة الاف سنة على اقل تقديرraquo;.
ويضيف: laquo;اذا ما كان هناك مشكلة للمسيحيين العرب، بصفتهم أقلية في المجتمع العربي، في منطقتنا الشامية بالتحديد، فإنها تشترك في مسؤوليتها الاكثرية والاقلية، ولا يمكن ان تحل حلا جذريا الا بتحولات جذرية من الجانبين معا. وان تقتنع الاكثرية أن مسؤوليتها تتضخم بضخامة حجمها، وأن ميزتها تقوم آخر الأمر لا على الكم، بل على الكيف.. فتاريخنا المشترك هو الذي وحد تقاليدنا وعاداتنا، فقربنا من بعضنا بعضا، وهو الذي نرجع اليه، لنستمد منه اختياراتنا ومثلنا العليا، وهو الذي اورثنا التضامن في الشعور، والتكاتف في العاطفة، والتآزر عند الشدائد، والتآخي عند المصائبraquo;.
ويؤكد زيادة: laquo;علينا ان نعتني بتاريخنا، وفهم هذا التاريخ، يتطلب من كل واحد منا، ان يفهم الاسلام وتراثه، فهما صحيحا، لأن الاسلام كان الدافع الأول والباعث الرئيس على توحيد العربraquo;.


*أكاديمي أردني