الثلاثاء02 يناير2007

د. محمد عابد الجابري

إذا نحن نظرنا إلى بنية خطاب البابا بنيديكت السادس عشر، من منظور هيجلي، وجدناه عبارة عن أطروحة وطباق وتركيب (أو إثبات، ونفي، ونفي النفي). أما الأطروحة فهي الفقرات التي حللناها وناقشناها وتشكل القسم الأول من الخطاب، وهي تدور كلها حول إثبات quot;الطابع الإغريقيquot; للعقيدة المسيحية. وأما طباقها فهي التيارات اللاهوتية الفلسفية التي نادت بضرورة نزع ذلك الطابع من العقيدة المسيحية والرجوع بها إلى بساطتها الأولى. وأما التركيب فهو الدعوة إلى الجمع بين العقل والإيمان في حوار الديانات.
لقد حللنا الأطروحة، فلننتقل أولاً إلى طباقها!
يقول البابا: quot;وفي مواجهة هذه الأطروحة (أطروحته هو) القائلة بأن الموروث الإغريقي الذي غربله النقد، يشكل جزءاً لا يتجزأ من العقيدة المسيحية، تقف تلك الدعوات إلى نزع الطابع الهيليني (الإغريقي) من المسيحية، الدعوات التي صارت تهيمن أكثر فأكثر على المناقشات اللاهوتية ابتداء من بداية العصر الحديثquot;.
يؤرخ البابا لهذه الدعوات فيقول: quot;وإذا نحن فحصنا هذه الدعوات عن قرب، فسنلاحظ أنها قد مرت عبر مراحل ثلاث، متداخلة فعلاً، ولكنها متمايزة بعضها عن بعض بوضوح، وذلك سواء على مستوى دوافعها أو على مستوى أهدافهاquot;.
- المرحلة الأولى: quot;لقد انبثقت فكرة نزع الطابع الهيلّيني عن المسيحية بارتباط مع مبادئ الإصلاح (الديني) في القرن السادس عشر. فعندما نظر الإصلاحيون (لوثر وأتباعه)، إلى تقاليد اللاهوت المدرسي (لاهوت القرون الوسطى)، انتابهم الشعور بأنهم يواجهون نظاماً من الإيمان مؤطراً كلياً بالفلسفة، مقولباً ضمن نظام فكر أجنبي عنه. والنتيجة أن العقيدة لم تعد تبدو بوصفها quot;كلمةquot; تاريخية حية بل بوصفها عنصراً مقحماً في منظومة فلسفية. ومن جهة أخرى فإن مبدأ quot;الكتاب الوحيدquot; (يعني دعوة الإصلاحيين إلى اعتماد التوراة وحدها مرجعاً) كان يقتضي، بالعكس من ذلك، البحث عن العقيدة في شكلها الأصيل كما هي معطاة في كلمات التوراة. ومن هنا كانت الميتافيزيقا تبدو وكأنها نظام فكري مستورد، وبالتالي يجب تحرير العقيدة المسيحية منه كي تعود من جديد عقيدة خالصة كلياً. وعندما أعلن كانط (الفيلسوف) أنه سيضع العقل الخالص جانباً كي يترك المكان للعقيدة، فإنه كان يعلن عن برنامج يتسم براديكالية لم يكن الإصلاحيون يتوقعونها أبداً. لقد حصر العقيدة في العقل العملي (الأخلاق)، مانعاً عليها الدخول إلى كلية الواقعquot;.
- المرحلة الثانية: quot;وجاء اللاهوت الليبرالي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وعلى رأسه أدولف فون هارناك، ليدشن المرحلة الثانية في الدعوة إلى نزع الطابع الهيليني من المسيحية. وفي الوقت الذي كُنتُ فيه طالباً وخلال السنوات الأولى من نشاطي الأكاديمي، كان هذا البرنامج قوي التأثير أيضاً في اللاهوت الكاثوليكي. لقد اتخذ منطلقاً له ذلك التمييز الذي أقامه باسكال بين إله الفلاسفة وإله إبراهيم وإسحق ويعقوب. وقد تناولت هذا الموضوع في محاضرتي الافتتاحية في بون عام 1959، ولست أريد هنا تكرار جميع ما سبق أن قلته في تلك المناسبة، ولكني أحب أن أصف باختصار على الأقل ما كان يمثل الجديد في هذه المرحلة من الدعوة إلى نزع الطابع الهيليني عن المسيحية، قياساً بالمرحلة السابقة.
كانت الفكرة المركزية التي قال بها quot;هارناكquot; هي العودة إلى المسيح بوصفه بشراً لا غير، وإلى رسالته البسيطة، السابقة لجميع عمليات إضفاء الطابعين اللاهوتي والهيليني عليها. إن هذه الرسالة البسيطة للسيد المسيح تمثل قمة التطور الديني للإنسانية. لقد استبعد السيد المسيح شعائر العبادة وأحل الأخلاق محلها. وهكذا اعتبر، في نهاية الأمر، كأب لرسالة أخلاقية مفعمة بمحبة البشر. فإذا نظرنا إلى نظرية هارناك وجدناها في عمقها تجعل المسيحية منسجمة ومتوافقة مع العقل الحديث، وذلك بتحريرها من العناصر التي تبدو بوضوح مستقاة من الفلسفة واللاهوت، مثل الاعتقاد في ألوهية المسيح وفي القول إن الله ثالث ثلاثةquot;. quot;وهكذا فبانتظام اللاهوت في التفسير التاريخي النقدي لـquot;العهد الجديدquot; (الإنجيل)، سيكون له الحق من جديد في الدخول إلى رحاب الجامعة. إن اللاهوت، بالنسبة لهارناك، هو تاريخي بالأساس، وبالتالي فهو حصراً من مجال العلم (وليس من مجال العقيدة). وما يستطيع اللاهوت قوله عن المسيح، بخطاب نقدي، سيكون من إنتاج العقل العملي وبالتالي يمكن أن يحتل مكانه في الكل الجامعي. ووراء هذا النوع من التفكير يكمن ما يعبر عنه بـquot;التحديد الذاتي للعقلquot;، وهي عبارة تجد تعبيرها الكلاسيكي عند (الفيلسوف) كانط في quot;نقدياتهquot;، وقد صارت أكثر راديكالية مع مرور الزمن في النشاط العلمي المعاصرquot;.
ويضيف البابا: quot;يمكن القول باختصار إن هذا المفهوم الحديث للعقل مؤسس على الجمع بين الأفلاطونية (الديكارتية) والتجريبية، وهو تأليف أكده نجاح التكنولوجيا: فمن جهة يفترض مسبقاً القول بالبنية الرياضية للمادة، أي معقوليتها الذاتية التي تجعل من الممكن فهم المادة وبالتالي استعمالها كطاقة فاعلة. إن هذه الفرضية الأساسية هي العنصر الأفلاطوني في الفهم الحديث للمادة. ومن جهة أخرى هناك قابلية الطبيعة لتكون موضوع استغلال لصالح حاجاتنا، وهنا تقدم التجربة وحدها إمكانية التحقق أو عدمه، الشيء الذي يمكننا من الحصول على يقين تام. والوزن بين هذين القطبين يمكن، حسب الظروف، أن ينتقل من جانب إلى آخر. فالمفكر الوضعي المتشدد مثل ج. مونود قد صرح هو نفسه بأنه أفلاطوني ديكارتي باقتناعquot;. quot;وهذا يثير مسألتين أساسيتين بالنسبة لموضوعنا هنا... إحداهما أن نوع اليقين الذي ينتج من التفاعل بين الرياضيات وعناصر التجربة هو وحده الذي يستحق أن يعتبر يقيناً علمياً، وبالتالي فكل ما يدَّعي الانتماء إلى العلم يجب أن يمتحن بهذا المعيار. ومن هنا القول بأن العلوم الإنسانية، مثل التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة، يجب أن تستجيب لمعيار العلمية هذا... أما ثانية المسألتين، وهي مهمة بالنسبة لتأملاتنا هنا، فهي أن هذا المنهج يستبعد بطبيعته ذاتها مسألة الله، ويجعلها تبدو كمسألة غير علمية أو تنتمي إلى ما قبل العلم. والنتيجة أننا إزاء إفقار لساحة العلم والعقل، الشيء الذي يستحق منا الوقوف عنده. وسأعود إلى هذه المسألة لاحقاًquot;.
ويضيف البابا: quot;وإلى أن يحين ذلك يجب أن نلاحظ أنه منذ بداية المنطلق (الذي أدى إلى هذه النتيجة) أصبحت كل محاولة للإبقاء على القضايا اللاهوتية في حقل quot;العلمquot;، تؤدي إلى اختزال المسيحية إلى جزء صغير مما هي إياه. ويمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: إذا كان العلم ككل هو وحده، هذا الذي ذكرناه (الرياضيات/ التجربة)، فإن النتيجة ستكون أن الإنسان نفسه سينتهي إلى أن يختزل هو أيضاً. ذلك لأن المسائل التي تختص بالإنسان؛ أصله ومصيره، والقضايا التي تثار في حقل الدين والأخلاق، لن يكون لها أي مكان في ميدان العقل الجمعي كما يتحدد بـquot;العلمquot;، وبالتالي يجب أن يلحق بعالم الذات. وفي هذه الحالة سيكون على الذات أن تقرر بناء على تجاربها وخبراتها فيما تعتبره مقبولاً في مجال الدين، فيغدو quot;الوعيquot; الذاتي حينئذ هو المعيار الوحيد لما هو أخلاقي. وبهذا يفقد كل من الدين والأخلاق قدرتهما على الانتظام في كلٍّ واحدٍ ويغدوان قضية شخصية محضاً، لا ضابط لها. وهذا شيء خطير بالنسبة للإنسانية، كما هو ظاهر في الآفات المثيرة للقلق التي تصيب الدين والعقل والتي تظهر، ضرورة، عندما يختزل العقل إلى الدرجة التي يصبح فيها كل من الدين والأخلاق من الأمور التي لا تهم العقل في شيء. أما المحاولات التي تهدف إلى بناء أخلاق انطلاقاً من قوانين التطور أو انطلاقاً من علم النفس وعلم الاجتماع، فلم يكن لها ما بعدها، لسبب بسيط وهو أنها محاولات غير مناسبةquot;.
- المرحلة الثالثة: quot;وقبل أن أنتقل إلى نتائج جميع ما تقدم قوله، أريد أن أتحدث بسرعة عن المرحلة الثالثة في الدعوة إلى نزع الطابع الهيليني عن اللاهوت المسيحي، أعني المرحلة التي نعيشها الآن. يقول البعض هذه الأيام، على ضوء ما هو حاصل من تعدد ثقافي، إن الجمع بين الهيلينية والعقيدة المسيحية كان عبارة عن تلاقح (تداخل) حصل في الكنيسة القديمة (الأصلية) وليس من الصواب فرضه على ثقافات أخرى، وإنه من حق تلك الثقافات أن تتجنب هذا التداخل لتعود إلى الرسالة البسيطة لـquot;العهد الجديدquot; (الإنجيل)، ليتم التلاقح في بيئة هذه الثقافات. وهذه الأطروحة ليست خاطئة فحسب، بل إنها خشنة وغير دقيقة ولا واضحة. إن العهد الجديد مكتوب بالإغريقية ويحمل معه طابع الروح الإغريقية التي كانت قد وصلت فعلاً إلى مرحلة النضج، مع تطور العهد القديم (التوراة)... فعلاً، هناك عناصر في صيرورة الكنيسة القديمة لا يجب أن تندمج في جميع الثقافات. ومع ذلك فإن القرارات الأساسية المتعلقة بالعلاقة بين العقيدة واستعمال العقل البشري هي جزء من العقيدة. إنها تطورات تتناغم مع طبيعة العقيدة نفسهاquot;.
تلك هي قراءة البابا للدعوات المنادية بنزع الطابع الإغريقي عن العقيدة المسيحية، والعودة بها إلى بساطتها، كما كانت زمن السيد المسيح، الشيء الذي يعني تجريد البابا من اختصاصاته، وبالتالي الاستغناء عن وجوده. وإذن فموقف البابا مفهوم، ونحن نتفهمه، ولكن لا بمعنى أنا نوافقه أو نعترض عليه، فذلك ليس شأننا.