5 يناير 2007

د. رياض نعسان أغا

قرأت مندهشاً مقالة يهاجم صاحبها سماحة المفتي العام للجمهورية في سوريا ويتهمه فيها بالتخلي عن ثوابت الأمة إرضاء لفريق الشيعة، ويدعو علماء المسلمين إلى وقفة في وجه المفتي. ولقد أثارني العنوان لأن فيه دعوة صريحة لفتنة، واتهاماً لرجل عالم متنور يشكل مرجعية فقهية للمسلمين، فرحت أقرأ ما قال سماحة المفتي الدكتور الشيخ أحمد حسون حسب ما نقل عنه صاحب المقالة. ولقد تأملت قول سماحة المفتي فلم أجد فيه ما استنتج. ولا يجهل صاحب المقالة وهو باحث في التاريخ الإسلامي على ما أعلم، ما حل بالدولة العباسية ثم بالدولة الأندلسية لكثرة من حكمها من quot;أمراء المؤمنينquot; الذين أوصلوها إلى الهاوية لكثرة ما انتشر في عهدهم من فساد وابتعاد عن ثوابت الأمة ودينها الحنيف.
وما أدري كيف ينظر الباحث إلى خلافة المستكفي أو المعتضد في قرطبة وإشبيلية، أو إلى خلفاء توالوا على مصر في عهد المماليك وكثير منهم لم يعرف من الإسلام شيئاً وكان جل همه شراء الجواري والقيان! ولا يتسع المجال لذكر تفاصيل من سيرة من يدافع عنهم الباحث، لكن كتب التاريخ الرسمية والدينية تقدم عشرات النماذج التي لا تخفى عليه. وكيف يستنتج الباحث أن المفتي تنكر لثوابت الأمة وتطاول عليها وسماحته لم يكفرهم لأنه يكره التكفير، كما أعلم.
وأعجب من قول الباحث إن سماحة المفتي تناول مُسلَّمات أهل السُّنة التي عشنا عليها قروناً واعتبرها خاطئة، مستنداً إلى ما نقل من نص كلام المفتي quot;سامحوني إن لمست مسلَّماتكم التي عشتم عليها قروناً ولم يتجرأ أحد أن يكشف لكم وضوح خطأ هذه المسلَّماتquot;. أما كان حرياً أن يؤيد الباحث هذا التوجه إلى نقد المسلَّمات التي عشنا عليها قروناً حقاً؟ أفلا تحتاج المسلَّمات إلى مراجعة بعد قرون، وفيها خلط عجيب بين ما هو نص ديني مقدس وبين ما هو منسل من التاريخ لا سند له من الدين أو العقل؟ أيغيب عن الباحث أن الخطاب الإسلامي الذي سارت عليه الأمة قروناً على أنه بدهيات ومُسلَّمات تراكمت فيه معتقدات غريبة عن الإسلام ليست منه في شيء، ولم يجرؤ أحد على المساس بها؟ ولست صاحب اختصاص كي أورد الأمثلة على الرغم من معرفتي بها، ولكن حسبي أن أذكِّر الباحث بأن أخطر ما عانت منه الأمة هو اختلاط التاريخي بالديني من يوم الفتنة الكبرى بعد مقتل سيدنا عثمان إلى اليوم. وأشد خطراً فتاوى التكفير التي باتت تطلق بسهولة بدوافع سياسية أو عن جهالة، وقد أغلق باب الاجتهاد قروناً كي لا يقتحم أحد هذه المُسلَّمات، وبات الناس يقدسون كتباً فقهية عادية ويجعلونها مرجعيتهم بدل العودة إلى كتاب الله وسُنة نبيه. وما زلت أذكر رجلاً كفَّرني ذات يوم من صدر شبابي لأنني اعترضت على قوله إن الأرض محمولة على قرن ثور، وإن الله ينزل في الشتاء إلى السماء الرابعة! قلت له إن الأرض كما في القرآن الكريم فلك يسبح في فضاء، وحين يحل الشتاء في بلادنا يكون الصيف في بلاد أخرى، فقال لي غاضباً انظر هذا كتاب الفقيه فلان يقول ذلك أفأنت أعلم منه؟
وأعجب كيف يستنكر الباحث على سماحة المفتي أن يرى أن الإمام علياً كرم الله وجهه هو حجة. أتراه ينكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام جعل علياً رضي الله عنه باب مدينة العلم وأن أهل السُّنة جميعاً لا يذكرون الإمام علياً إلا دعوا الله أن يكرم وجهه ويرضى عنه؟ أم أن الباحث يريد أن يعيدنا إلى زمن الفتنة كي نتجادل اليوم من هو أهم عندنا أبو بكر وعمر أم علي؟
ويبدو خطاب الفتنة مثيراً عند إنكار اعتبار سماحة المفتي لوجود آل البيت وجود عدل في الأرض، ولا أحد من المسلمين على اختلاف مذاهبهم ينكر مكانة آل البيت (لأن الله سبحانه وتعالى طهَّرهم وأذهب عنهم الرجس). ولكن الباحث يتساءل (هل أهل الشيعة هم آل البيت؟)، وأستغرب هذا السؤال لأنني أسمع من بعض السُّنة ومن بعض الشيعة من يزعم أنه منحدر من آل البيت ويأتي بأشجار أنساب ويعلن أنه منسوب، وأنا لا أدري ولا الباحث يدري حقيقة الأنساب، لكن النسب الذي يعنينا ونهتم به هو الانتساب بالعمل الصالح والاقتداء بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يعنينا من دخل إلى السرداب، ولا نتدخل في عقائد الآخرين فهناك من ينتظر خروج الإمام، وهناك من ينتظر عودة السيد المسيح، وهناك من ينتظر المهدي، وهناك في إسرائيل والبيت الأبيض من ينتظرون عودة quot;الماشيحquot; وإعلان دولة الرب وهزيمة المسيحيين والمسلمين معاً، وهناك من ينتظر وصول quot;غودوquot; مع صموئيل بيكيت! ولست أرى نفعاً للأمة في أن تغرق في نقاش هذه الرؤى ولديها من القضايا المصيرية ما هو أجدر بالحوار .
وقد زعم الباحث أن سماحة المفتي لم يجرؤ على الإجابة عن سؤال حول الصيام في عاشوراء، وقد عجبت من اتهامه بعدم الجرأة وفتواه منشورة في موقعه الإلكتروني يقول quot;هو سُنة مؤكدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الكرامquot;. ثم يأخذ الباحث على سماحة المفتي أن يرى خطأ بعض الصحابة لأنهم لم يسلموا الخلافة لعلي، وأنا أؤيد سماحة المفتي بهذا الرأي وقد ذكرت ذلك مرات في تناولي لتاريخنا في برامجي الثقافية التلفزيونية، وقلت لو أنني كنت يوم الفتنة لوقفت مع الحق وبايعت الإمام علياً. أليس الباحث نفسه يذكرنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم quot;من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذلهquot;.
لكنني أجد الخوض الآن في أحقية أبي بكر في الخلافة وأحقية عمر من بعده وهل كان أولى أن يكون علي؟ أجد ذلك كله حديثاً تاريخياً تجاوزته الأمة، وسيكون من الترف الفكري المؤدي إلى الفتنة أن نغرق فيه. فهل نحن نريد استعادة الماضي وإخراج الصحابة الكرام من قبورهم لنصحِّح ما حدث يوم السقيفة أو يوم صفين، أم علينا أن نفكر في المستقبل وننطلق إلى محاكاة عظيم أفعال الصحابة الكرام حين تجاوزوا الخلافات حول الحكم وهبوا للدفاع عن الإسلام ضد المرتدين، ثم جهزوا جيوش الفتوحات، ولو أنهم غرقوا في هذه الخلافات لما خرج الإسلام من مكة، بل ربما كان انتهى فيها لولا وعد الله بحفظه.
وأما إنكار الباحث على سماحة المفتي أن يجعل الصحابة أقساماً وطبقات، ويعرف العدول منهم، فهذا أمر لا أرى خلافاً حوله إذا ما أخذنا برأي من قال إن كل من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم هو من الصحابة، ولا تخفى هذه الآراء على الباحث. وفي كتاب quot;الإصابةquot; لابن حجر ما يدعونا إلى هذا التقسيم أمام من يرون صحابياً من لم يرَ النبي ولكنه عاش في عصره. فمن أخذ بمن رآه مرة فهل تكون له مزية من عاش العمر معه كابن عمه علي وصاحبه أبي بكر والفاروق عمر وصهره عثمان إلى آخر ذلك؟ إنني أتفق مع سماحة المفتي أن كلمة عدول لا تعني أنهم لا يخطئون وقد رفع الله الناس درجات في العلم.
إنني أجد فتح هذه الملفات التاريخية الإشكالية ودعوة الناس للوقوف في وجه المفتي إثارة لفتن طائفية لا تخدم مصالح الأمة، بل تخدم مصالح أعدائها الراغبين في إثارة الفتن. وأرجو من الباحث بحكم معرفته لخطر الفتنة على المسلمين جميعاً، أن يترفع عن هذا الخطاب التحريضي، وأن يعين أمته على التوحد في مواجهة أعدائها، وأن يكون عادلاً وهو يتحدث عن العدول. ولو أن علماء المسلمين في سوريا رأوا في خطاب سماحة المفتي ما رآه الباحث لما انتظروا مقالته كي يعترضوا، ولكنهم يوافقون على خطاب الدعوة إلى مناقشة المسلَّمات، وإلى الابتعاد عن الفتن، وإلى الالتفاف حول ما يتفق المسلمون عليه، وترك ما قد يختلفون حوله، وساحة المتفق عليه أرحب وأوسع.