سليم نصّار


منذ اقدام احد اخوة صدام حسين على قتل نجل الشيخ خميس، زعيم عشيرة quot;عرب العبيدquot; مطلع السبعينات، وطابور المطالبين بالثأر يزداد امتدادا. ولما اعرب والد القتيل عن رفضه مبدأ التراضي، نصحه نائب الرئيس العراقي في حينه بالتراجع عن عناده لأن آلاف الطامعين في اغتياله يقفون في صفوف الانتظار.
كان ذلك قبل التحاق شيعة ايران بطابور المطالبين بالثأر عقب اندلاع الحرب التي شنها صدام ضد نظام الخميني صباح 22 ايلول 1980.

وفي 1982 تعرض موكب صدام حسين لاطلاق نار في قرية الدجيل الشيعية، الأمر الذي دفعه الى اعلان قصاص جماعي أودى بحياة 143 شخصاً.
وكما عوقب عدد كبير من زعماء الشيعة بسبب تعاطفهم مع ايران، كذلك عانى اكراد العراق من حملات الانتقام كان ابرزها عملية حلبجة حيث اختنق خمسة آلاف طفل وامرأة بالغازات السامة.

ويؤكد زعماء الاكراد في احاديثهم المكررة، ان عمليات الابادة التي مارسها نظام صدام في كردستان، اودت بحياة 180 الف مواطن وهدمت اربعة آلاف قرية. في حين اعترف علي حسن المجيد بمئة الف قتيل فقط اثناء رده على بيانات مركز quot;الأنفالquot; في دهوك.

واللافت في هذا السياق، ان حكومة نوري المالكي اكتفت بادانة صدام حسين عن مقتل 143 مواطنا شيعيا في قرية الدجيل، علما بأن الرأي العام كان ينتظر استئناف المحاكمات حول مجزرة quot;الانفالquot; وقمع تمرد الجنوب وغزو الكويت. وعلّقت الصحف العربية على استعجال تنفيذ حكم الاعدام قبل الاستماع الى شهادة صدام في اهم نزاعاته ضد ايران والاكراد، بأن واشنطن تعمدت تجاهل هذه المسائل الحساسة خوفا من الكشف عن دورها الخفي. ويقول انصار صدام انه كان ينتظر الفرصة للادلاء بشهادته حول الدعم العسكري الذي وفرته له ادارة جورج بوش الاب عقب ارسالها دونالد رامسفيلد وروبرت غيتس الى بغداد عام 1984.

عقب تصديق محكمة التمييز قرار الاعدام الصادر في حقه بسبب مسؤوليته عن مقتل 143 شيعيا من بلدة الدجيل، وجّه صدام حسين الى الشعب العراقي رسالة وداعية، دعا فيها الى محاربة الغزاة الاجانب والفرس. وخص بتحريضه quot;الغرباءquot; من حاملي الجنسية العراقية كأنه بذلك يشير الى آية الله علي السيستاني، والى زعماء حزب quot;الدعوةquot; ممن فروا في عهده الى ايران وسوريا مثل ابرهيم الجعفري ونوري المالكي وعبد الكريم العنزي وسامي العسكري وخضيّر الخزاعي وموفق الربيعي... وآخرين. ومع انه اشتهر بين رفاقه البعثيين بنزعته العلمانية، الا انه ارتدى ثوب التدين بعد هزيمته في الكويت. ثم ازداد تعلقه بالقرآن الكريم الذي حمله معه من السجن وقاعة المحكمة الى منصة الاعدام.

في اول تعليق على توقيت تنفيذ حكم الاعدام، اعلن رئيس المحكمة السابق رزكار محمد امين، ان تنفيذ الحكم في اول ايام العيد كان غير قانوني ومخالفا للتقاليد الاسلامية. ثم اتسعت ردود الفعل الغاضبة بعدما تبين ان المقنعين كانوا من جماعة مقتدى الصدر بدليل ان عملية الشنق صاحبتها هتافات: مقتدى... مقتدى... مقتدى.

وهكذا ظهرت العقوبة كعملية انتقام لوالد مقتدى آية الله محمد الصدر الذي اغتالته جماعة صدام عام 1999. واستغلت الادارة الاميركية هذه الحادثة لتعلن استهجانها لارتكاب حكومة المالكي خطأ الاخلال بصدقية العدالة في العهد الجديد. ولما بلغت الانتقادات حدا يصعب السكوت عنه، تقدم الرئيس جلال طالباني بحجة واهية خلاصتها ان قرار استعجال التنفيذ فجر عيد الاضحى، اتخذ بدافع الحرص على الاجراءات الامنية. وكان بهذا الايحاء يذكّر بأن التأجيل الذي طلبته واشنطن قد يعطي انصار صدام الفرصة لاقتحام المعتقل بهدف انقاذه.

كما يعطي القوات الاميركية المجال لتهريبه الى اليمن او الاردن، كما حصل مع نجل وطبان السبعاوي او وزير الكهرباء السابق ايمن السامرائي الذي هرب من السجن الى الاردن، وهو متهم بعملية اختلاس ضخمة جرت اثناء فترة حكومة اياد علاوي.

يقول المراقبون في بغداد ان قانون محكمة الجنايات العليا لا يعطي رئيس الجمهورية صلاحية تخفيف الحكم او الاعفاء عن المتهمين بجرائم ضد الانسانية. كما ان مجلس الرئاسة لا يحق له تأجيل التنفيذ. ولكن جلال الطالباني، المعروف بدهائه وحنكته، استبق الامور، واعلن ممانعته لحكم الاعدام من الناحية المبدئية. اي انه عزل موقف الاكراد عن موقف الشيعة، علما بأن ضحايا ابناء كردستان في عهد البعثيين فاق كل ضحايا الطوائف الاخرى. ويعود سبب حياد طالباني الى اقتناعه بعدم تحميل مواطني الاقليم اي مسؤولية تاريخية قد تؤدي الى تقسيم العراق خصوصا ان تركيا والدول العربية كانت دائما تتهم الاكراد بالعمل على انجاح مشروع التقسيم من اجل اقامة دولة كردية مستقلة.

ويبدو ان طالباني لاحظ مخاطر تحقيق السيناريو المخيف الذي يدفع الأزمة في اتجاه حرب شيعية - سنية تعود الى 14 قرناً. من هنا تظهر الحرب المتوقعة كحل نهائي للأكراد الذين سيجدون بواسطتها مخرجاً شرعياً للانفصال، باعتبار أنه من الصعب الاتحاد مع فريقين متنازعين.

بعد تنفيذ حكم الاعدام ألقى رئيس الحكومة نوري المالكي خطاباً تحدث فيه عن بداية مرحلة جديدة تؤسس لمصالحة وطنية عامة. وقوبل خطابه بالتشكيك من قبل السنّة الذين اعتدوا على جوامع الشيعة، الامر الذي فرض على المرجع الديني علي السيستاني، تبرير توقيت الاعدام. وكانت هذه المرة الثانية التي يتدخل فيها السيستاني لتهدئة الشارع الغاضب. ففي شباط الماضي فجّر مجهول القبة الذهبية لمرقد الإمامين علي الهادي وحسن العسكري، وهما من أئمة الشيعة الاثني عشرية. واعتبر شيعة سامراء ان الحادث يستهدف مقدساتهم وهويتهم على اساس ان هذه المدينة تعد ثالث عتبة شيعية في العراق بعد كربلاء والنجف.

وكان من الطبيعي أن ترفع تلك الحادثة من شأن الزعيم مقتدى الصدر، الذي أعلن عن تأسيس ميليشيا اطلق عليها اسم quot;جيش المهديquot;، وباشر هجومه بانتقاد الحكومة لأنها صنيعة السفير الاميركي زلماي خليل زاد، الذي هدد قبل ذلك بوقف الدعم عن الحكومة اذا ما هي ضمت الى صفوفها أي زعيم ميليشيوي. ومع أن السفير الاميركي كان يقصد وزير الداخلية بيان جبر الذي شكّل فرقة إعدام، الا أن كل زعماء الفرق المسلحة اعتبروا أنفسهم معنيين بملاحظة السفير الافغاني الاصل. وصدرت في ذلك الحين منشورات تهاجم السفير وتنتقد سياسة الولايات المتحدة التي غالت في quot;تدليلquot; السنّة على حساب الشيعة. وذكّرت المنشورات بمجازر 1991 يوم صمتت ادارة جورج بوش الأب عن التصفيات التي ارتكبها جيش صدام ضد الانتفاضة الشيعية في الجنوب.

واليوم تجددت الحملات ضد الادارة الاميركية بعدما ذكرت الصحف أن السفير زاد طلب تأجيل تنفيذ الاعدام اسبوعين. واستنتج المعترضون أن طلب التأجيل كان يرمي الى تنفيذ خطة تهريب صدام حسين الى خارج العراق. ثم جاء تعليق القائد الاميركي ليزيد من حدة الاتهامات، خصوصاً عندما اعترض على طريقة التنفيذ، وأعلن ان بلاده كان يمكن أن تطبق الحكم بأسلوب مختلف عن الاسلوب الذي مارسته حكومة المالكي.

وفي مؤتمره الصحافي تحاشى الرئيس بوش التعليق على هذا السؤال، الامر الذي خلق شرخاً في العلاقات قد يزيد من حدة الازمة اذا لم تبادر الادارة الاميركية الى رأب التصدع السياسي. ويتردد في واشنطن أن سحب السفير الاميركي قد يكون الثمن الذي يقبل به الشارع الشيعي الغاضب، علماً بأن بوش رفض التخلي عنه يوم أبعد الوزير رامسفيلد عن إدارته. ولكن هذا التراجع قد يفسر من قبل السنّة بأنه دعم لحكومة المالكي وتبرير لتنفيذ حكم الاعدام بصدام ولو فجر عيد الاضحى.

جرى تعيين زلماي خليل زاد سفيراً في الادارة الاميركية آخر التسعينات، بعد أن أتم دراسته في الولايات المتحدة وكتب اطروحته عن حركة quot;طالبانquot; وأهمية أفغانستان بالنسبة لنفط قزوين. ثم انتدبه الرئيس بوش لرعاية مؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد في لندن (كانون الاول 2002). وقد رافقه الى المؤتمر الذي استمر خمسة ايام وفد أميركي موسع ضم اعضاء في مجلس الامن القومي والدفاع والخارجية. وعقب تعيينه سفيراً في بغداد أوكل اليه الرئيس الاميركي مهمة مرجعية تتعلق بحل الخلافات التي تنشأ بين أطراف الحكم. وفي أول اختبار له في هذا الحقل، اصطدم مع مسعود بارزاني الذي هدد بالانسحاب من الاجتماع اذا لم يعتذر السفير. ولما اتصل بالبيت الابيض نصحوه بالاعتذار لأن خلافه مع مسعود قد يعرقل مهمته الصعبة.

يعترف بعض رجال الكونغرس الاميركي بالاخطاء التي ارتكبت في العراق، وينحون باللائمة على ادارة بوش لكونها تجاهلت الخطر الحقيقي الممثل بخلاف الشيعة والسنّة. وهو خلاف متجذر ساعدت الحرب على فتح جراحاته القديمة، ثم جاءت عملية إعدام صدام لتصب الزيت على نار الأزمة وتجعل من مقتله منطلقاً لمرحلة جديدة من الاقتتال الطائفي ربما ينهي العراق الجديد قبل أن يبدأ...