عرفان نظام الدين


لم أكن يوماً في صف الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ولا في صف أي ديكتاتور أو حاكم فردي، بل كنت على الدوام أنتقد وأشجب سياساته الخرقاء ومسلسل الاخطاء والخطايا التي ارتكبها هو ونظام حكمه البائد والحروب التي ورط بها العراق من الحرب على الأكراد الى الحرب مع ايران وغزو الكويت وما نجم عنه من حروب ودمار وحصار وغزو أميركي ودم ودمار وأخطار تهدد العراق وأمنه وشعبه وتمهد لتقسيمه وتفتيته ومحوه من الخريطة العربية.

لا أحد، على ما أظن واعتقد، يدافع عن صدام الذي أصبح في ذمة الله حيث يحاسب على أفعاله وفي ذمة التاريخ الذي لا بد ان يسجل الحقائق والوقائع وينصف الجميع، كما وسيسجل ايضاً انه كان أول رئيس عربي يسقط بيد احتلال أجنبي ويعدم في ظل وجوده وجبروته محاطاً بمصفقين وطامعين وحاقدين جنباً الى جنب مع المظلومين والمضطهدين والمرتكبة بحقهم جرائم رهيبة ومذابح وانتهاكات للحقوق وللشرائع والمبادئ الانسانية.

لا خلاف على ان لكل ظالم نهاية وان كل ظالم لا بد ان يبلى بأظلم، وبأن مبدأ الثواب والعقاب لا بد ان يسود في الدنيا قبل الآخرة وان الحساب آت لكل ظالم ان آجلاً أو عاجلاً وان المحاسبة ضرورية وحتمية مهما طال الزمن.

الخلاف أو الاختلاف في الاصداء وردود الفعل العربية والاسلامية والاجنبية بين مرحب وراقص ومصفق وشامت وفرح وشاجب ومستغرب ومستهجن ومشمئز يكمن في الاسلوب والتوقيت والممارسات والنتائج المرتقبة.

فمهما قيل عن أسباب الاستعجال في تنفيذ عملية الاغتيال، فإن اللياقة والأخلاق والمبادئ الاسلامية والعادات والتقاليد العربية والمتطلبات الانسانية كانت تقتضي تأجيل laquo;المسرحية الدراميةraquo; لأيام عدة، أي بعد انتهاء موسم الحج وحرمة أيامه والاحتفال بعيد الأضحى المبارك. ومهما بلغ حجم جرائم صدام فإن حرمة الموت لها حقها علينا ولا يمكن قبول ردات فعل البعض لا سيما من اخوة مسلمين من رقص واحتفال وأفراح اقيمت في ايران وبعض مدن العراق. فالحكم قد صدر ونفذ والمصلحة تقتضي العض على الجراح والعمل على تضميدها وعدم إثارة الاحقاد واستفزاز laquo;الآخرraquo; وعدم صب الزيت على نار الفتن الطائفية والمذهبية والسير في مخطط التقسيم والتفتيت الذي يعمل الأعداء على تنفيذه في العراق تمهيداً لتعميمه على المنطقة العربية كلها.

هذا من حيث الشكل، أما من حيث الجوهر فإن من المنطقي القول ان العدالة لا تتشرف بأحكام قضائية تصدر في ظل احتلال أميركي، أو أي احتلال أجنبي، فالشبهة بوجوده والشك مبرر والاجراءات ناقصة والحقوق غير مصانة والخفة ظاهرة والشوائب القانونية جلية، ولا سيما في عملية تسريب صور مراحل تنفيذ الاعدام وهي مخالفة لكل القيم والمبادئ الانسانية، إضافة الى عدم التعامل مع صدام كرئيس دولة أو كأسير حرب.

فالمحكمة حسب الأصول والمفاهيم السليمة تصدر أحكامها باسم الشعب، وكم كان عظيماً لو تم تسجيل سابقة تاريخية بإجراء المحاكمات بإسلوب شفاف ضمن المعايير والقيم الدولية والقوانين الشرعية وفي ظل حكم شرعي وديموقراطي حر. عندها لا اعتقد ان أحداً سيعترض أو يمتعض من الاعتراف بأن الجرائم التي ارتكبها النظام البائد ورئيسه ضد الشعب العراقي بأسره، وليس فقط ضد الشيعة والأكراد، تستحق عقوبات قصوى وتفترض التوصل الى كل مفاهيم الحدود الشرعية والقوانين الدولية. لكن الإسراع بالتنفيذ وإسدال الستار على أسرار التعاون مع الولايات المتحدة في فترة معينة وجريمة غزو الكويت وقتل الاسرى، أدى الى تحويل الحق الى باطل والتشكيك في عدالة المحكمة التي أصدرت الأحكام، خصوصاً ان بعض ردود الفعل جاءت وكأنها من المضحكات المبكيات التي تعبر عن واقع مؤسف ومقاييس شاذة مثل قول رئيس وزراء اسرائيل انه laquo;تم احقاق الحقraquo; من دون ان يكلف نفسه عناء السؤال عن الحقوق التي انتهكتها اسرائيل وجرائم القتل والاغتيال والمذابح والجرائم ضد الانسانية والتمييز العنصري التي ارتكبتها منذ أكثر من 60 عاماً أو عن الأراضي التي سلبتها واحتلتها بغير وجه حق.

أما قول الرئيس الاميركي جورج بوش بأن laquo;العدالة قد أخذت مجراهاraquo; فهو يعبر عن مهزلة ما بعدها مهزلة في زمن انتهك فيه كل ذرة من قدسية العدالة وداس على مبادئ الشرعية الدولية وضرب عرض الحائط بالقوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة وامتنع عن معاقبة مرتكبي جرائم التعذيب والقتل في العراق وغيره.

أما مظاهر الشماتة والحقد التي رصدناها من ايران فكانت مستغربة رغم أحاديث laquo;العقاب الإلهيraquo;، فكل عراقي يعاني من حروب ايران وتدخلاتها ومشاركتها في laquo;تصفية الحسابraquo; وتصفية نخبة علماء العراق واسهامها في مخططات تفتيت العراق وإثارة الفتن المذهبية فيه، هذا إذا تجنب المرء الدعاء من أجل تنفيذ laquo;العقاب الإلهيraquo; بحق من ارتكب المجازر والاغتيالات والإعدامات وغيرها من الممارسات اللاانسانية ضد الشعب الإيراني بطوائفه وأعراقه كافة من قبل النظام الإيراني.

ومع كل هذا، فإن من واجب كل واحد منا أن يسأل اليوم وبعد تنفيذ الحكم وزوال رمز النظام السابق والمرحلة المظلمة من تاريخ العراق والمنطقة: أما آن لهذا العنف أن يتوقف؟ وألم يحن الوقت بعد لوضع حد نهائي للأحقاد والفتن والممارسات الخاطئة؟ ألم نشبع دماً ودماراً وقتلاً وتخريباً؟

لا بد أن نقف صفاً واحداً، اليوم قبل الغد، وقبل فوات الأوان ونصرخ بصوت واحد: كفى حروباً ومؤامرات وانقلابات وفتناً ونزيفاً للدماء العربية الزكية، فيما الأعداء يتربصون بالأمة من كل جانب ويحيكون لها مؤامرات التفتيت ويرسمون مخططات التقسيم والهيمنة ونهب الثروات. ولا بد أن تنهض الشعوب العربية وقياداتها الحكيمة لتضع حداً للحروب العربية - العربية وتعمل على حقن الدماء وحل الخلافات وتوحيد الصفوف وانقاذ ما يمكن انقاذه من وحدة وكيان وقوة واقتدار ومفاتيح قرارات حول مصير المنطقة بعد أن سلبت بعضها القوى الاقليمية (إيران وتركيا وإسرائيل) وصادرت بعضها الآخر الولايات المتحدة وغيرها من القوى العظمى.

لقد اكتوينا بنيران الحروب العربية - العربية والفتن والانقلابات والمؤامرات والفساد والاضطهاد والديكتاتورية والصراعات على الحكم وشهوات أصحاب السلطة الذين ارغموا الشعوب على تجرع كأس سمومهم ودفع اثمان باهظة لأخطائهم وخطاياهم.

ولو أخذنا العراق وحده كمثال ونموذج لأصابنا الذهول من هول ما تعرض له واستغراب حجم قدرة التحمل عند شعبه الشجاع الكريم والمؤمن: اغتيالات ومذابح وانقلابات وحروب ومسلسل عنف لا نهاية له. ونكتفي بتاريخه الحديث: الملك غازي قتل في حادث سيارة غامض، الملك فيصل الثاني قتل ذبحاً مع عائلته الهاشمية الشريفة بأطفالها ونسائها وشيوخها في مذبحة قصر الرحاب المشينة اثر انقلاب 14 تموز (يوليو) 1958، ورئيس الوزراء نوري السعيد قتل سحلاً في شوارع بغداد مثله مثل الرئيس عبدالكريم قاسم بعدها بسنوات. والرئيس عبدالسلام عارف قتل غيلة مع وزرائه بتفجير طائرته الرئاسية ثم جاءت عمليات اغتيال المئات من قيادات العراق مثل عبدالرزاق النايف (في لندن) وحردان التكريتي (في الكويت) وغيرهما من الشيوعيين والبعثيين والقوميين ورجال الدين، وبينهم العلامة الإمام محمد باقر الصدر (اعدم) والسيد محمد صادق الصدر (اغتيل مع بعض أولاده، والد مقتدى) والسيد محمد باقر الحكيم رئيس laquo;المجلس الأعلى للثورة الإسلاميةraquo; ولواء بدر (اغتيل بعد الغزو بأيام). وجاء أخيراً وليس آخراً صدام laquo;المعدومraquo; ومن سيلحقه اعداماً وقتلاً واغتيالاً وتفجيراً.

ألا يكفي شلال الدم هذا؟ وماذا بعد في العراق وغير العراق؟ في فلسطين حيث تلوح نذر الحرب الأهلية بين رفاق السلاح بين آونة وأخرى، على رغم معرفتهم بمخاطر الاحتلال وعيشهم تحت تهديد مقصلته ووعيد مؤامراته؟ وفي لبنان حيث العناد سيد الموقف بعد أن سحبت كل مفاهيم المواجهة مع العدو الذي شن حرباً مدمرة في الصيف الماضي وتوجهت الأنظار الى الحكم والحكومة. والاحتكام للشوارع بكل ما فيها من لغات وقواميس وهواجس.

أما الإرهاب، فهو يشكل معضلة أخرى تقض مضاجع العرب والمسلمين لأنه يصيب الأمة في مقتلها ويوجه رصاصه الى صدور الأهل والأبناء في معظمه مع بعض الرشقات الجانبية التي تصيب الآخر بين الأونة والأخرى. وكلنا أمل بأن يعود الجميع، من دون اي استثناء، الى رشدهم ويوحدوا الصفوف لحقن الدماء ووقف العنف والنزيف القاتل ويغلبوا العقل والحكمة. فكل الخلافات تحل بالصراحة والمصالحة، وكل أزمة يمكن ايجاد تسوية لها بالتوافق، وأي نزاع يمكن أن يحل بمبادرة ايجابية وكلمة طيبة وتقديم بعض التنازلات حقناً لدماء وحفظاً لمصالح الأمة وحقوق كل طرف من الأطراف.

المهم أن يتم التخلي عن الأحقاد والتشفي والمكابرة والعناد ولغة الاستكبار ويسعى الجميع لتهدئة وتغليب لغة الحوار والتخلي عن التحديات. فلا أسس للخلاف بين السنّة والشيعة ولا بين العرب والأكراد ولا بين المسلمين والمسيحيين، فكل بذوره زرعها الأعداء وعمل على تغذيتها الصهاينة وشارك في حصاد سمومها بعض أبناء هذه الأمة عن جهل وتعصب، أو عن عمالة واجرام وغياب ضمير. وقد جربنا عبر السنين جراح الشقاق والنفاق وآلامه وعذاباته وثمنه الفادح في الأرواح والثروات والسمعة والمصلحة والحاضر والمستقبل.

فهل نستمع الى نداء الحق والواجب ونصرخ بصوت واحد: كفى، كفى، كفى، وللنهض جميعاً لبناء الأوطان وازالة شوائب الأحقاد والحروب وندوب الجراح واغلاق ملف أسود بعد إعدام صدام ونفتح صفحة جديدة ناصعة البياض لا دم فيها ولا عنف ولا إرهاب ولا دمار؟!

ولنأخذ سيرة صدام وامثولة العراق الدروس والعبر لأن نهايته المأسوية ما هي إلا صورة عن التراجيديا العربية بكل ما فيها... وهي في النهاية يجب أن تكون عبرة لمن يعتبر.