الأربعاء 10 يناير 2007
خيري منصور
إن أخطر ما يمكن أن يندفع إليه تاريخ أمة هو إطلاق الغرائز من جذورها، كبديل عن العقل والاحتكام الى الخبرة على اختلاف ميادينها وتجلياتها، وما يسميه المؤرخون أنياب التاريخ، ونوبات توحشه يصدق على ما يجري هذه الأيام، لكأن الضمير الكوني في عطلة لا نهائية، ما دام الامبراطور يفكر بأسلوب القرصان، والقوة تستخدم بإفراط دون وجود أي معادل موضوعي لها.
فالرجل البالغ القوي الذي يستفرد بطفل معوق، وينكل به أمام المارة يثير الاشمئزاز والتقزز بلا حدود، وهذا المثال الحسي والمرئي بالعين المجردة قد يعيننا على تخيل امبراطورية وهي تفعل الشيء ذاته مع جزيرة صغرى أو قرية عزلاء.
ولو رصدنا أهم الوقائع التي شغلت الناس خلال العقد الماضي فقط، فهي أمثلة حية على انطلاق الغرائز من عقالها، بحيث تبدو الروادع التقليدية بدءا من الخجل الفطري حتى الحسابات الاستراتيجية غائبة تماماً لكأن العالم يعيش حياته من يوم الى يوم بل من ساعة الى ساعة. فما من حسابات من أي نوع لردود الأفعال المستقبلية على هذه الأفعال الغاشمة، وما من إحساس بأي مسؤولية إزاء أجيال تولد من رحم هذه الفوضى المدمرة.
وإذا كان المتوقع من الناس العاديين في بعض اللحظات ان يفكروا بقلوبهم وعلى نحو انفعالي، فإن هذا محرم على الدول ورجال الحكم ونسائه.
لكن القرائن التي توحي على الأقل بأن العالم العربي يعيش ما قبل الدولة، وما قبل الحداثة وما قبل العقد الاجتماعي، بدأت تتحول الى حيثيات، وثمة استخفاف كارثي بما يحدث حتى من قبل الأكاديميين والنخب الفكرية التي انحلت هي الأخرى وتفككت عائدة الى جذورها البدائية سواء كانت طائفية أو عرقية أو علاقات نسيج دموي.
والسرعة الفائقة في تغيير المواقف ليست رشاقة ذهنية أو دليل عبقرية على التأقلم، انها برهان آخر على غياب الروادع، والمصدات المنطقية، وأقل ما يمكن قوله عن احترام الذاكرة.
فالمواقف السياسية عندما تتعلق بمصائر ملايين البشر ليست ملابس داخلية يمكن استبدالها على عجل، انها أحياناً الجلد ذاته، لأن إبداء الرأي الآن ليس في الفاكهة التي نحب أو الثياب والشراب الذي نشتهي.
فاللحظة حرجة، ومستقبل أمة بأسرها وأسراها في مهب التاريخ وعواصفه التي لا أحد يعرف متى تهب ومن أين؟ وما من استعداد على الاطلاق لصدها بعوائق كتلك التي توضع أمام الصواعق المباغتة. إن الأخطر مما يحدث هو الأسلوب الذي نتعامل به مع ما يحدث، فالاستخفاف بلغ ذروته، وثمة مناخ مشبع بالعدمية قد بدأ يتسرب من النوافذ وشقوق الأبواب والأنوف أيضاً.
إن المنطق الثأري والحسابات الصغرى التي تغذي هذه الكيدية السياسية في عالمنا العربي ليس من سمات الدولة، بل هو من مخلفات ورواسب الرعوية التي ظننا أننا ودعناها. وحقيقة الأمر ان الماضي كان أشد مكراً مما نظن، فقد تسرب وتسلل بأسماء مستعارة وأقنعة حديثة الى أدق تفاصيل حياتنا.
وحين تستبد بنا الغرائز على هذا النحو فإن التاريخ برمته يصبح حفلة تنكرية يلعب فيها الثعبان دور الغزال، مثلما يلعب فيها الفأر دور الفهد أو العكس.
فهل من المعقول ان تتحول أحدث منجزات التكنولوجيا الى وسائل بدائية للتحريض على الاستعداء وبث ثقافة النميمة وإرضاع الجراء النافقة بالحبر؟
إنها لمعجزة بحق. أن تتزاوج أدبيات ما قبل الدولة مع تربويات ما قبل التاريخ لإنجاب مسخ اسمه عدالة ما بعد الحداثة.
التعليقات