الخميس 11 يناير 2007

جميل مطر

سمعت أن في الصين ندماً على سياسات تحديد النسل كما صاغتها ونفذتها حكومة الرئيس ماو تسي تونج، وأشعر أن في دول أخرى حيرة كبرى وارتباكاً حول الاستمرار في هذه السياسة أو التخلي عنها.

إذ إنه بعد عقدين أو أكثر من حملة مكثفة ومكلفة لخفض معدل المواليد في دول العالم النامي، تشير تقارير دولية إلى أن انخفاض المواليد لم يؤد إلى تحسن حاسم أو حتى ملحوظ في مستوى معيشة أغلبية السكان، بينما تشير تقارير أخرى إلى أن انخفاض المواليد لم يأت استجابة لحملات التوعية، بقدر ما أتى ضمن اتجاه أوسع له دلالات خطيرة على المجتمعات ومستقبل شعوب كثيرة.

هذا الاتجاه وهو سائد في الغرب كما في مجتمعات الجنوب، تلخصه عبارة ldquo;الرجال لا يتزوجونrdquo;، وهي عبارة تجد تفسيراً لها في عبارة أخرى أدق وربما أصدق وهي أن ldquo;رجال هذه الأيام لا يريدون تحمل مسؤولية الأبوةrdquo;، بمعنى آخر، الرجال يتفادون الزواج لأنهم مدركون أن الزواج، في الاغلبية العظمى من حالاته، ينتج أطفالاً، وأن الأطفال مسؤولية كبيرة يحسن الابتعاد عنها، ومع ذلك فقد ترددت في كتابات حديثة مزاعم عن احتمال أن تكون المجتمعات الأوروبية، أو الغربية عموماً، قد أصيبت بداء كراهية النساء، وأن هذا الداء كإنفلونزا الطيور ينتقل بسرعة مخيفة في اتجاه دول الجنوب. والحديث عن داء كراهية النساء ليس جديداً، إذ ورد في روايات تاريخية أنه استشرى في مجتمعات بدائية قديمة حتى قضى عليها، ويحكي مؤرخون روايات رافقت آخر مراحل الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية تكشف عن تفاقم ظاهرة إحجام الرجال عن الزواج، وهي الظاهرة التي تسببت، بين ظروف أخرى، في تسريع نهاية الإمبراطوريتين، ودفعت في الوقت نفسه بآخر أباطرة الرومان إلى فرض ldquo;ضريبة عزوبيةrdquo; وعقوبات شتى على من لا يتزوج من أعضاء الطبقة الأرستقراطية ونخب المجتمع في روما، وما زال الرأي الغالب يرفض استخدام فكرة داء كراهية النساء لتفسير تفشي حالة تناقص معدل المواليد في الدول الأوروبية والصين والهند وعدد متزايد من الدول النامية، فالمؤشرات كافة، أو أغلبها على الأقل، تؤكد أن الاختلاط بين الجنسين وجاذبيتهما ما زالا القاعدة في العلاقات الاجتماعية، وما زالا قيمة أساسية من قيم المجتمع الغربي ومجتمعات أخرى رغم جهود وفيرة تسعى للتفريق بين الجنسين ورغم صحوة في تقاليد تهتم بإثارة الضغائن والشكوك بينهما.

الملاحظ عموماً أنه في فترات الحروب والكساد والمجاعات وانتشار الأوبئة يمتنع الناس عامة عن الإنجاب، فالمستقبل حين يبدو حالكاً أو بعيداً جداً، وحين يتمكن البؤس وتعشش التعاسة ويتفاقم فساد المجتمع، يفضل الرجل أن يكون من دون أولاد، بدعوى أنهم إن عاشوا من بعده فسيرثون الفقر والحاجة وربما المرض والحرب. وإذا كان الأطفال، كما كانت تردد الأجيال السابقة، امتداداً للرجل في المستقبل، فهل يجوز إنجابهم ليكونوا امتداداً لحاضر كهذا بائس أو فاسد؟

وفي أحيان، وفي ظل ظروف معينة، قد تكون النساء وراء عزوبية الرجال، ففي مرحلة الثورة الصناعية في غرب أوروبا، وكذلك في مراحل ذروة النشاط الرأسمالي ازداد العرض على النساء للعمل في المصانع والدور الإنتاجية والتجارية والمصرفية، وكما يحدث الآن في عديد من المجتمعات الصناعية وعدد من المجتمعات ldquo;الصاعدةrdquo; يزداد حرص العاملات على عدم المخاطرة بترك العمل من اجل الزواج، ويترددن حول خيار الجمع بين الاثنين، بحجة أنهن لن يعدلن. وينتهي الأمر في حالات كثيرة بتفضيل عدم الزواج أو التخلي عن أزواجهن والتفرغ للعمل، ومنهن من يقررن الزواج بشرط عدم إنجاب أطفال أو تأجيل هذا الإنجاب، وهو ما يؤدي إلى انخفاض معدل المواليد.

وتعترف نساء بأن قرار عدم الزواج، أو تأجيله، يعود إلى الرغبة في الاحتفاظ باستقلالهن الذي حصلن عليه بفضل التحاقهن بأعمال خارج المنزل، إذ يسود الاعتقاد أن المرأة هي في الغالب الطرف الخاسر في عملية الزواج، فهي تضحي بحقها في العمل والزيادة في الدخل المصاحبة لهذا الحق، وتضحي باستقلالها وحرية إرادتها، وأحياناً تضحي بأوقات راحتها لتنجب أطفالاً ولتتحمل العبء الأكبر من مسؤولية تربية هؤلاء الأطفال ورعايتهم، وكثيرات تنشقن نسيم حرية الإرادة والقرار ولن يتخلين عنه إلا لسبب وجيه، ورجال هذه الأيام لم يعودوا أسباباً وجيهة، في رأيهن على الأقل.

وتتكرر بكثافة في الفترة الأخيرة شكاوى النساء من عزوف الرجال عن تربية أبنائهم وبناتهم، وتشهد دراسات حديثة أن عدداً كبيراً من النساء يعتقدن بأن العصر الذي يعشن فيه يفتقد إلى نظام ldquo;الأبوةrdquo;، يعترفن أحياناً بأن الأبوة ليست غريزة كالأمومة، ولكن ينتظرن من الرجال أن يدركوا أن ldquo;الأبوةrdquo; حق للزوجة وليس فقط للأطفال، ففي ظل ldquo;نظام الأبوةrdquo; كانت المرأة تطمئن إلى أن الرجل الذي ستتزوجه سيتحمل مسؤوليته تجاهها كاملة، فإن اطمأنت أقدمت على استثمار ldquo;أنثويتهاrdquo; في الأمومة، وإن لم تطمئن امتنعت عن الزواج، أو تزوجت وامتنعت عن الإنجاب، أو تزوجت وأنجبت وتوقفت عن الإنجاب.

بهذا المعنى أستطيع أن أفهم القول إن المجتمعات الإنسانية تنقرض إذا استمر الرجال يرفضون تحمل مسؤولية الأبوة، وليس لأنهم يكرهون النساء أو لأن النساء يترفعن عن الإنجاب، أو لأنهن عزفن عن الزواج، إن عزوف المرأة عن الزواج وعن الإنجاب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدم اطمئنانها إلى ldquo;رجولةrdquo; الرجل، وأهم جوانب هذه ldquo;الرجولةrdquo; ldquo;أبوتهrdquo;، ولا يخفى أن الرجل المعاصر إذا خيروه اختار العزوبية على الأبوة رغم كل ما تضفيه هذه الأخيرة أو تحققه من سعادة ومتعة. وإن أكثر ما يطيح اطمئنان المرأة إلى الرجل قبل الزواج أو خلاله هو الرغبة الجامحة لديه للتخلي عن متعة الأبوة من أجل متع العزوبية، أو هو الرغبة الجامحة أيضاً للتهرب من مسؤولية الأبوة التي تكاد لا تنتهي.

نعرف من التاريخ أن مجتمعات انقرضت لأن نسبة كبيرة من النساء فيها قررت ألا تتزوج، وإن تزوجت لا تنجب، وإن أنجبت لا تكثر، ونعرف في الحاضر أن قضية انخفاض معدل المواليد لم تعد كما كانت دائماً قضية داخلية، يهتم بها فيشجعها أو يناهضها مجتمع أو آخر، بل أصبحت واحدة من القضايا الاستراتيجية التي تحتل جانباً من اهتمام صانعي السياسة الخارجية ومخططي استراتيجيات المستقبل.

حول التهديد الذي تمثله العازفات عن الإنجاب كتب فيليب لونجمان في كتابه بعنوان ldquo;المهد الفارغrdquo; عن كيف أن انخفاض معدل المواليد صار يهدد رخاء العالم وأمنه وسلامته، ولكن أشير هنا وتحديداً إلى النقاش الدائر الآن وبمنتهى الجدية والاهتمام في كل من الهند والصين، فقد أقدمت الدولتان في عقود سابقة على تنفيذ سياسات تهدف جميعها إلى خفض معدلات المواليد، وصادف أن حكومة إحدى الدولتين كانت حازمة في تنفيذ هذه السياسات، وكانت الثانية أقل حزماً، أدت هذه المفارقة إلى أن الصين، وهي الدولة التي كانت أشد حزماً، تستعد الآن لمرحلة ستعاني فيها من نقص شديد في فئة الشباب، أي في المواطن المنتج والجندي والمبدع وقاعدة البناء للمستقبل، بينما سيتوفر لدى الهند فائض من الشباب ينتج ويدافع ويبدع، وفوق هذا وذاك، سيتحمل هذا القطاع من السكان في الصين عبء إعالة أكثر من سبعمائة مليون صيني تجاوزوا سن الإنتاج والدفاع والإبداع أو لم يبلغوه.

من ناحية أخرى، تشكل هذه القضية أهم مفاصل أزمة الهجرة في الغرب عموماً، وأوروبا تحديداً، فالشعوب ldquo;الشابةrdquo; القادرة على تجديد حياة أوروبا وضخ الدماء فيها شعوب أغلبها يقع جنوب البحر الأبيض المتوسط وشرقه.

لم يعد خافياً في أوروبا أو خارجها أنه من دون المهاجرين من أبناء الشعوب ldquo;الشابةrdquo; ستتسارع شيخوخة القارة الأوروبية.. وبهم تتغير شخصيتها.