أنتوني شيلدون - الغارديان

سيكون توني بلير قد رحل خلال السبعة أشهر المقبلة، وسيتغير المسرح السياسي البريطاني بشكل كلي. ويجري الآن شحذ الخناجر وملء الأقلام بالحبر لتسقط دموعها على سجله. وما انفكت صورة ما تتشكل فعلاً عن رئيس وزراء تمتع بولاية أولى قوية، وعانى من ثانية كارثية، وثالثة متصدعة بينما يكافح من اجل إنقاذ إرثه.

وستقوم هذه المقالة بإلقاء الضوء على المراجعات التلفزيونية قيد التحضير حالياً. لكن المدافعين عن بلير يبقون في الاثناء غير نادمين كما هو حالهم دائماً، حيث يعرضون سجلاً من الانجازات ويجادلون في ان التاريخ سيكون أكثر لطفاً إزاءه مما هي الاحكام المعاصرة. ذلك أن أسلاف بلير الاربعة؛ هارولد ويلسون وجيم كالاهان ومارغريت ثاتشر وجون ميجر كانوا قد أحرقوا كلهم في نهايات ولاياتهم. لكن بلير، وعلى العكس منهم يظل نداً في الصراع القائم، ويعتقد بأنه يدير لعبته اكثر من اي وقت سابق. وفي ذهنه، على الأقل، يظل سعيه قائماً للحصول على الكأس المقدسة؛ وهي المغادرة من موقع سامق وفي لحظة من اختياره هو.

بالنسبة للبراونيين (نسبة إلى براون)، يظل بلير شخصية متذبذبة وضعيفة أضاعت فرصة حزب العمال الفريدة من نوعها منذ عام 1997، والذي طالما كذب على بطلهم بشأن موعد رحيله. وفي الوقت الذي ساق فيه بلير بريطانيا عبر دروب زائفة من توفير قدرة أكبر على الاختيار وتنوع الخدمات العامة، يظل حلفاء براون يعتبرون انجازات الحكومة الفعلية ndash; في الاقتصاد والسياسية الاجتماعية ndash; ثمرة أعمالهم الخاصة. وربما يكون بلير هو رئيس الوزراء، لكنهم لا ينوون إسناد أي فضل لكابتن الفريق فيما يخص النجاحات التي حققوها في منطقتهم من الميدان. وهكذا تسير الامور، حيث سيطرت الحروب بين براون وبلير على السياسات البريطانية لعشر سنوات، وستستمر في تسيد الجدال الدائر خلال السنوات العشر القادمة.

إنني أعتقد شخصياً بأن سجل بلير يبدو الان اقوى بكثير مما لو كان قد ترك في عام 2004، عندما نشرت اول ترجمة لحياته. ويظهر سعيه لترك ارث بعض اشارات على إحراز تقدم. كما ان فوزه الانتخابي الثالث في عام 2005، ولو أنه جاء بأغلبية أقل من عامي 1997 و2001، إنما يرتقي به ليضعه على قائمة رؤساء الحكومات البريطانيين المتميزين. وكانت السيدة ثاتشر وحدها هي التي حققت ثلاثة انتصارات انتخابية متتالية في القرن العشرين، لكنها لم تعد تأطير حزبها بالشكل الموسع الذي فعله بلير. وتكمن الحصيلة النهائية في تشهير ديفيد كاميرون المجرد من الخجل للكثير مما فعله بلير. وسواء كنت تحبه ام لا، فإن أحداً لا يستطيع انكار حقيقة أن بلير كان عملاقاً سياسياً في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.

في الوطن، كانت أجندة بلير المتميزة فيما يخص الاختيار والتنوع لتكون أكثر تقدماً بكثير لو لم يستغرقه الامر حتى عام 2006 ليكتشفها. وفي الوقت الذي تبلورت فيه أجندته، كانت الكثير من ملامح المبالغة في الانفاق الحكومي الفائض قد تحددت أصلا بما انطوت عليه من النقاش حول فعاليتها. ويدرك بلير انه ما يزال أمامه الكثير ليثبته، ومن هناء جاء غضبه من محاولة الانقلاب في شهر ايلول- سبتمبر الماضي لتقصير عمر رئاسته للوزراء. وكانت الأكاديميات موضع اهتمامه الخاص، حيث أعلن الشهر الماضي أن عددها سيتضاعف. ومع مرور الوقت يمكن ان ينظر إليها ضمن اكبر انجازاته، لكنها تحتاج بعد إلى كسب دعم براون غير المحدود.

يعتبر السجل الخاص بسياسة بلير الخارجية أقل ضمانا. فقد عملت النجاحات المبكرة، في كوسوفو وسيراليون وعملية ثعلب الصحراء (وقصف العراق عام 1998) على إقناعه بفعالية العمل العسكري. لكنه وهو الذي كان منذ 11/9 من بين أكثر زعماء العالم السياسيين ثقة، بدأ يجد النجاح وقد أصبح أكثر مراوغة. ومن بين حملاته الكونية الثلاث الكبيرة، وهي تقديم المساعدات لافريقيا، واتخاذ خطوات لمعالجة التغير المناخي، واحراز تقدم في عملية السلام الشرق اوسطية، كان بالإمكان احراز تقدم محدود فقط في اول اثنتين.

كانت حتمية مأساوية قد قادت بلير الى اتخاذ اكثر قراراته في السياسة الخارجية مدعاة للتساؤل: الا وهو دعم الرئيس بوش بشأن العراق. فقد كانت كل النذر ماثلة هناك: من قلقه العميق إزاء نظام صدام حسين، إلى التزامه بمبدأ التدخل الانساني، إلى اعتقاد طالما حمله فيما يتعلق بالتهديد الذي تشكله أسلحة الدمار الشامل للأمن العالمي عندما تكون في ايدي دول مارقة. وفوق كل ذلك اعتقاده بان مصالح بريطانيا تتم خدمتها على أفضل ما يكون عن طريق التمسك بالاقتراب قدر الامكان من الادارة في واشنطن مهما كلف الامر. ولا يزال بلير يعتقد في قرارة نفسه بأنه كان ليتخذ نفس القرار مرة أخرى، وأنه سيحظى بمصادقة التاريخ وخالقه على حد سواء.

شكلت علاقة بلير بالرئيس بوش اكثر وقائع سياسته الخارجية اثارة للجدل، اذ افضى عدم رغبته في ابعاد نفسه عن دعم امريكا اللامحدود لاسرائيل خلال أزمة لبنان في تموز - يوليو الماضي الى اندلاع الانتفاضة ضده في ايلول ndash; سبتمبر. ويصر مطلعون على أن الطبيعة الحقة لهذه العلاقة لن تتكشف سوى عند الافراج عن وثائق، خاصة تلك المتعلقة بالمؤتمرات التي صورت بشكل استثنائي بالفيديو والتي كانت تجري أسبوعياً بين بوش وبلير. وهم يزعمون بان تلك الوثائق ستكشف عن شراكة حميمية، عول فيها بوش بشكل كبير على تقويم بلير للزعماء الأوروبيين، بل وفي الحقيقة لزعماء العالم، وحيث يبرز بلير كلاعب محوري في السياسات الداخلية للادارة. ومع ذلك، فان مشكلة بلير الرئيسية تبقى في أن هذه الحميمية وحسن النية نادرا جدا ما ترجمتا الى نفوذ فعلي في واشنطن.

في عام 1997 تعلقت أوضح طموحات بلير في السياسة الخارجية باوروبا، وليس آخرها استهدافه ضم بريطانيا الى العملة الموحدة. ولعل اعظم ما يستطيع بلير ان ينسبه لنفسه فيما يخص السياسة الاوروبية هو دوره الرئيسي في عملية توسيع الاتحاد، خاصة فيما يتعلق بتركيا، واحتماله قسطاً من وخز المشاعر المعادية للاتحاد الاوروبي في بريطانيا. ولقد أعفى انهيار تبني دستور الاتحاد الاوروبي في ايار - مايو 2005 بلير من عبء شن حملة استفتاء صعب في بريطانيا، لكن أمله في بناء أوروبا منبعثة ومتقدمة اقتصاديا يبقى أمراً صعب المنال.

الى ذلك، يعتقد مستشارو بلير ان إحراز المزيد من التقدم حول اوروبا قد أصبح مستحيلاً تقريباً على يد نظيريه الفرنسي جاك شيراك والالماني غيرهارد شرويدر. اذ لم تكن هذه العلاقات ناجحة وهكذا أدت هزيمة انجيلا ميركيل لشرويدر إلى رفع المعنويات في مقر رئاسة الحكومة البريطانية. ومع ذلك، يهمس بعض المدافعين عن بلير بأن أسوأ صفعة وجهت لمصير بلير كانت تزامن رئاسته للحكومة البريطانية مع رئاسة جورج بوش. ويقول آخرون نفس الشيء عن غوردون براون.

في حقيقة الأمر، هدأت العلاقات بين براون وبلير في الآونة الأخيرة، لكن أحداً لم يفتح زجاجات الشمبانيا احتفالاً. وقد وجد البراونيون شيئاً ما مبهجاً في المتاعب التي واجهها بلير فيما يتعلق بفضيحة النقود مقابل المناصب، بينما اجتاحت نفحة من الشماتة مبنى 10 داوننع ستريت مؤخراً بسبب الاستجابة الباهتة لكلمة براون في تقرير ما قبل الميزانية. لكن العداوات المفتوحة انتهت في الوقت الراهن على الاقل.

يبدو بلير فلسفي النزعة خلال أشهره الاخيرة في 10 داوننغ ستريت. فقد أصبح اكثر تديناً وهو يقرأ القرآن بشكل منتظم سوية مع الإنجيل في عهديه القديم والجديد. وقد بات يدرك الآن ان كثيراً مما سعى إلى تحقيقه سيظل غير متمم مع حلول الوقت الذي يغادر فيه رئاسة الوزراء. وبالرغم من غضبه العميق من سلوك براون في السنوات الخمس الماضية على وجه التحديد، فقد بات يقبل الان حقيقة أن إرثه الخاص ومستقبل الحزب سيحظيان بالخدمة المثلى عبر انتقال سلس لرئاسة الوزارة لتصبح تحت قيادة براون. وفي الأثناء، تظل مسألة ايرلندا الشمالية أكبر نجاح شخصي مفرد حققه. ولكم الآن أن تترقبوا اعلاناً قريباً عن رحيل بلير بعد السابع من آذار - مارس هذا العام، عندما يأمل بان انتخابات جديدة للجمعية الوطنية في ايرلندا الشمالية قد تفضي الى انفراج في الاقليم. ومع ذلك، فإن بلير ربما يغادر من منطقة سامقة، وquot;تقريباًquot; في اللحظة التي يختارها هو.