22 يناير 2007

بشير البكر


إن الوصف الوحيد الذي لا يصح في الرئيس العراقي جلال الطالباني، هو أنه لا يعرف أين يضع قدميه، وما هي اللحظة التي يتحرك فيها. لقد انتزع ldquo;مام جلالrdquo; أي العم جلال كما يسميه الأكراد، تعاطف القوميين العرب من بعثيين وناصريين، وهو الكردي الذي لم يخف حلمه بإقامة دولة كردية في شمال العراق. لو لم يكن داهية من طراز دهاة العصور القديمة الذين يتحلون بالفراسة والحكمة، هل كان يستطيع ان يحيط نفسه بذاك القدر من التحالفات والصداقات، من الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الى الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، إلى الرئيس الليبي معمر القذافي، مرورا بالإيرانيين والأتراك والسوفييت والاشتراكية الدولية... إلخ؟

إن مناسبة الحديث عن الذئب العجوز هي زيارته إلى دمشق في الرابع عشر من الشهر الحالي، الذي وافق اليوم الذي شرعت تصل فيه طلائع القوات الأمريكية إلى بغداد، في إطار خطة الرئيس الأمريكي جورج بوش الجديدة، التي تعتمد على استعادة المبادرة في العراق، من خلال ضرب النفوذين الإيراني والسوري في هذا البلد.

إن الامر في غاية الغرابة، كيف يصل الرئيس العراقي الى بلد متهم بالمساهمة في هز الاستقرار في العراق؟ فإما أنه لم يسمع بخطة الرئيس بوش، أو أنه أراد ألا يسمع بها وذهب في عكس اتجاهها، لكي يطمئن دمشق بأن هذه الخطة، ليست سوى حشرجة إدارة بوش الاخيرة.

انتظر المراقبون أياماً عدة لكي يستوعبوا ldquo;خبطةrdquo; الطالباني، وقد جاء اتفاق التعاون الأمني الذي وقعه في سوريا، ليساعد على تفكيك ألغاز الإطراء الذي كاله لـrdquo;الحبيبة دمشقrdquo;، بينما كان يتثنى اختيالا والانشراح يفيض منه، وهو يجر ثقله فوق السجاد الاحمر داخلا العاصمة السورية، التي طالما استقبلته لسنوات عدة لاجئا سياسيا من الدرجة الاولى.

اتضحت الصورة أكثر فأكثر، حين دافع الطالباني من دمشق عن إيران، في تصريحات صحافية ذات نبرة جديدة، تشي بنفس نقدي حيال سياسات وتوجهات إدارة بوش. ومما قاله ldquo;لا نتمنى أن تتطور العلاقات الأمريكية الإيرانية الى صراع، يدور على أرض العراقrdquo;، وأكد أن الإيرانيين ابدوا مرونة في ما يتعلق بالحوار مع الأمريكيين، وانهم قالوا ldquo;نحن مستعدون للتفاهم مع أمريكا من افغانستان الى لبنانrdquo;. وفي إشارة لا تخلو من بعد نظر استبعد انسحابا أمريكيا مفاجئا من العراق، مؤكدا أن أركان الحزب الديمقراطي لا يوافقون على انسحاب، من دون تحقيق وضع مقبول في العراق.

الملاحظ هنا أن الطالباني بدأ يتحدث عن الحزب الديمقراطي، ما يعني انه شرع يجهز نفسه ليضع بوش خلفه، وهذا ما يفسر ايضا الهجوم العنيف الذي شنه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على الرئيس الأمريكي، الذي قال عنه إنه ldquo;لم يكن يوما بالضعف الذي هو عليه اليومrdquo;. وأضاف المالكي ldquo;يخيل إليّ أنهم هم في واشنطن، الذين شارفوا على الانتهاء وليس نحن في بغدادrdquo;، واتهم الإدارة الأمريكية بأنها لم تزود العراق بالأسلحة الضرورية لمواجهة الوضع الأمني، ورفض التصريحات التي أدلت بها وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، في إطار تقييمها للوضع في العراق (حكومة المالكي تعمل في الوقت الاضافي)، ناصحا إياها ldquo;بأن تتجنب التصريحات التي لا تخدم سوى الإرهابيينrdquo;.

تنحصر الأسباب المباشرة لهذا التراشق، الذي يعد الأول من نوعه بين الطرفين بنقطتين: الأولى تتعلق بإعدام الرئيس العراقي السابق، حيث اتهم بوش المالكي بأنه ldquo;غير ناضجrdquo;. والثانية، هي هجوم القوات الأمريكية على القنصلية الإيرانية في أربيل من دون إعلام المالكي. لكن الأسباب غير المباشرة تكمن في موقف المالكي من الخطة الأمريكية الجديدة، والتي تستهدف النفوذ الإيراني.

هل يمكن القول إن بوش أخطأ في الحسابات حين أراد أن يخوض مواجهة مع إيران من العراق؟ من المؤكد حتى الآن هو أن المالكي ليس الرجل المناسب لهذه المهمة، وقد تبين في الأيام القليلة الماضية، أنه يفضل الاختلاف مع إدارة بوش، على السير معها في الحرب ضد إيران.

في كل الأحوال، إن التناغم بين الطالباني والمالكي يشي بأن هناك توزيعاً لأدوار متفق عليها بينهما، والواضح أكثر من غيره هو انهما متفقان على الخطوط العريضة بصدد رؤية الوضع الراهن، وإن كانا غير قادرين على علاجه. ومن أبرز نقاط الوضوح هو أن ضعف إدارة بوش بات يغري بالتمرد عليها. وهذا ما قاد الطرف الأكثر ضعفا في المعادلة شرق الأوسطية اليوم محمود عباس (أبو مازن)، إلى عدم الاستماع للنصيحة الأمريكية بغض الطرف عن زيارة دمشق في هذا الوقت. وقد جاء ldquo;تمردrdquo; أبو مازن في اليوم الذي حررت فيه ldquo;إسرائيلrdquo; مبلغ 100 مليون دولار من الأموال الفلسطينية المحجوزة لديها، ورغم أن رايس وعدت بعقد اجتماع اللجنة الرباعية في 2 شباط/فبراير المقبل في واشنطن من أجل تحريك ldquo;خريطة الطريقrdquo;، والعودة الى المنطقة في 15 من فبراير أيضا لعقد اجتماع ثلاثي، يضمها الى أبو مازن ورئيس الوزراء ldquo;الإسرائيليrdquo; يهود اولمرت.

لم تقتصر نكسات إدارة بوش في الأيام الأخيرة على العراق وفلسطين، بل تعرضت إلى موقفين جديدين من طرف بريطانيا وفرنسا، يعكسان مؤشرات سلبية. الأول، هو توجيه الشخص الثالث في حزب العمال الحاكم وزير شؤون ايرلندا الشمالية ldquo;بيتر هينrdquo; انتقادات قاسية، حيث اعتبر أن ldquo;مشكلة الحكومة البريطانية هي انها لا تزال تحتفظ بعلاقات عمل مع الإدارة الأمريكية الأكثر يمينية في التاريخrdquo;. لقد صدر هذا التصريح في اليوم الذي وصلت فيه رايس الى لندن في الثامن عشر من الشهر الحالي، في ختام جولتها في المنطقة. واللافت هو أنه لم يصدر من طرف حكومة بلير أي تصريح آخر، يخفف من وقع كلام الوزير ldquo;هينrdquo;، في الوقت الذي تسرب من وزارة الخارجية البريطانية انها تثمن تقرير بيكر هاملتون، وصدرت أخبار في الصحافة تؤيد ذلك، وتؤكد أن الحكومة البريطانية تقوم باتصالات في الكواليس مع الحكومتين الإيرانية والسورية.

أما في ما يخص فرنسا، فقد أبدى الأمريكيون عدم رضاهم، عن تكثيف الاتصالات في الآونة الأخيرة بين باريس وطهران. وقد عبرت مصادر أمريكية رسمية عن استيائها من المعلومات، التي تداولتها الصحف حول نية فرنسا إرسال مبعوث رفيع المستوى الى إيران، ليبحث مع المسؤولين الإيرانيين الوضع في لبنان وعملية السلام والموقف من ldquo;إسرائيلrdquo;، وقد كان الاتجاه السائد قبل أسابيع عدة هو إرسال وزير الخارجية فيليب دوست بلازي. إلا أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك غير رأيه بعد مشاورات دولية، لكن القنوات الفرنسية الإيرانية بقيت مفتوحة على شتى الاحتمالات، الأمر الذي أثار غضب إدارة بوش.

المؤكد اليوم هو أن إدارة بوش بدأت مرحلة العد العكسي، وهي سوف تواجه المزيد من التمرد على سياساتها التي قادت العالم إلى مأزق كبير.